مجلة الرسالة/العدد 316/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 316/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



سمو المعنى في سمو الذات

أو أشعة من حياة الحسين

تأليف الأستاذ عبد الله العلايلي

للأستاذ علي الطنطاوي

تفضل الأستاذ عبد الله العلايلي فأهدي إليّ كتابه الذي سماه (سمو المعنى في سمو الذات)، وجعله الحلقة الأولى من سيرة الحسين بن علي بن أبي طالب، فطالعت أكثره والقلم في يدي فكنت أكتب بعض التعليقات على ما أنكر منه فاجتمع لي في نقده مسائل (مهمة جداً) أحببت أن أنشرها، وما أشك في أن الأستاذ يتقبلها بقبول حسن، فيقرّها إذا رآها حقاً، ويناقشني فيها إذا رآها غير ذلك. ولست أعرض في هذا النقد للخلاف بين السنة والشيعة، أو أثير غبار النزاع على القضايا المذهبية، وإنما أنقده من الناحية التاريخية العلمية، للوصول إلى الحقيقة التي أنشأ الأستاذ العلايلي كتابه للبحث عنها

والملاحظة العامة على هذا الكتاب هو أنه يدرس خلافاً بين فئتين، فيسبغ على إحداهما ثوب التقديس والإجلال، ويكتب عنها بروح إكبار واحترام، وينزل بالثانية إلى حيث يتمكن من النزول بها، ويلصق بها التهم والعيوب، ويتكلم عنها بلغة لا تخلو أحياناً من كلمات وعبارات لا يليق بالمؤرخ المنصف المهذب أن يقولها. وقد تكون هذه التهم صادرة عن (الخيال. . .) وحده، ليس لها سند من رواية أو نص؛ وقد يعترف بذلك المؤلف، ولكنه لا يمتنع عن ذكرها. كقوله وهو يتكلم عن الأمويين صفحة (33): (الحزب الأموي كاد للنبي ولدعوته، وعرفنا كيف أسلم زعيم الأموية أبو سفيان، وعرفنا كيف لم يبق للأمويين أي مقام اعتباري في محيط الإسلام الذي كان ظهوره فوزاً وغلبة للهاشميين. . . ووجدوا في ولاية يزيد بن أبي سفيان وولاية معاوية من بعده فرصة سانحة للقيام بعمل خطير، ففكروا في اغتيال عمر بن الخطاب (!) وكذلك اغتالوه بيد فارسي. . .) إلى أن قال: (وإنما أقول في جملة ما أودّ إثباته إن قتل عمر لم يكن وليد فكرة فارسية مدبرة، وإنما كان فكرة موضعية خالصة وأموية بحتة. هذا رأيي وعسى أن أجد (انتبه) في منثور الروايات والأخبار ما يوضح الواقع)!

فإذا كان المؤلف يستند في تاريخ الماضي إلى (رأيه. . .) ويضع النتيجة قبل أن يجد المقدمات، أي أنه إذا كان يرتجل التاريخ ارتجالاً فليس عجباً أن يكون في الكتاب نُقول عن المسعودى في الطعن على بني أمية والمسعودى لا ينقل عنه (وحده) في هذا الباب كما هو معروف، وأن يكون فيه نقول عن مثل الأب لامنس عدوّ العرب والإسلام، المتعصب الذي يضعفّه كثير من المستشرقين ولا يرون الأخذ عنه

والمؤلف يقول في صفحة (13): (والحق أنا لا نزال من فهم عصر الحسين على غموض وخفاء، وذلك لأن الأقلام التي تناولته منذ أول عهد العرب بكتابة التاريخ لم تكن بريئة على إطلاق القول، بل دارت عل خدمة أغراض شتى بين النزعة المذهبية، والزلفى من السلطة الغالبة). ثم يأتي في صفحة (49) فيقول في عنوان مكتوب بحروف كبيرة: (أسباب فشل سياسة علي عليه السلام ونجاح السياسة المعادية) ويصف الأمويين بأنهم أداة إفساد وفي طبيعتهم بعث الحياة الجاهلية صفحة (28). ويقول في صفحة (42): (علي بن أبي طالب مظهر فذ من مظاهر التكامل الإنساني، ونموذج بارع من نماذج التفوق البشري، ومثال لبلوغ الاستعداد الكامن في النسم الخ) في صفحة كاملة كلها خطابيات ومبالغات على هذا النمط. وحينما يتكلم عن الخلفاء الأربعة يتكلم عنهم ص (12) بما نصه: (الخليفة الأول والثاني والثالث ثم علي عليه السلام)

ولنأت الآن إلى عرض نماذج من المسائل التي أنكرتها في الكتاب بقصد التمثيل لا الاستقصاء

1 - يقرر في صفحة (10) أن نظام الحكم في عهد الأمويين (لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بالأحكام العرفية، هذا النظام الذي يهدر الدماء، ويرفع التعارف على المنطق القانوني (كذا) ويهدد كل امرئ في وجوده. وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ولحالات خاصة فقد كان في العهد الأموي هو النظام السائد) وكان هذا في رأيه (وضعاً احتكم في كل التاريخ الأموي وصبغه بصبغة وبيلة، فتنافى مع المبادئ الدينية والمدنية) وكل ما أورد المؤلف من الأدلة على هذه الدعوى التي لا يدعيها أشد الغلاة من أعداء التاريخ الإسلامي وخصومه، كل أدلته أنه أشار إلى (المرسوم الملكي أو المذكرة الإيضاحية (كذا) الصادرة في بيان الأسباب التي بررت قتل أبي جعفر الشلمغاني) وذكر أنها في الجزء الأول ص (238) من معجم الأدباء - وهكذا ثبتت هذه التهمة الخطيرة، وسوَّدت صفحة من أنصع صفحات التاريخ العربي، وانتهى الأمر بسلام، وقيل الحمد لله رب العالمين.

ورحمة الله على العدل أيام بني أمية، ورحمة الله على التحقيق التاريخي في أيامنا هذه

2 - يقرر في ص (12) أن معاوية اقتبس النظام البيزنطي (وانفعل به إلى أبعد حد. فانتقل طفرة واحدة إلى نظام يبعد كثيراً عن النظام النبوي من كل الأطراف) إلى أن قال: (إلى حد نتمكن معه من القول بأنها حالت دون أزكى ثمار الإسلام، وحالت دون حكومة القرآن، ومسخت تعاليم النبي، وشوهت تقاليد حكومة الخلفاء). اهو الذي نفهمه أن موضوع اقتباس الأمويين النظام البيزنطي يحتاج إلى درس شامل لكلا النظامين، وأدلة ثابتة، ولا يمكن شرحه فيما دون الرسالة الكبيرة أو الكتاب المستقل. أما مجرد الادعاء وإرسال النظريات فلا يقدم في التاريخ ولا يؤخر ولا يكون له قيمة علمية

3 - ذكر في صفحة (17) أن من الأسباب (التي يظن أنها مهدت إلى عمل الاضطراب (كذا) وإثارة الخواطر وقدمت مادة الانقلاب الكبير، الاختلاف على البيعة يوم السقيفة وامتناع فاطمة منها وآل هاشم عموماً) وذكر أن هذا الخلاف (كان له صدى عكسي - كذا - ولد عند البعيدين شيئاً من الشعور بالاستهانة وجرأهم على الانتقاض والخروج والتمرد). وجعل المؤلف هذا الخلاف من الأسباب المؤدية إلى ارتداد العرب، مع أن انتخاب الرئيس في أي بلد من البلدان الجمهورية يتقدمه في عصرنا نزاع وخلاف لا يقاس به اختلاف أهل السقيفة، ولا يؤدي إلى خروج ولا تمرد. ثم إن خلافة أبي بكر كانت إجماعية فلم يشذ عن بيعته إلا رجل واحد هو سعد بن عبادة. وتأخر علي ومن معه لأسباب أخرى ذكروا أن منها اشتغاله بكتابة المصحف. وعلى كل فقد بايع أخيراً. أما ارتداد من ارتد فقد كانت له أسباب معروفة (غير ما ذكر)

4 - ويذكر في صفحة (23) أن من هذه الأسباب: (عدم عناية حكومة الخلفاء ببث الدعوة وغرس التربية الدينية) وهذا كلام لا يقبله أحد، لأن المؤلف لم يقم عليه الدليل العلمي أولاً، ولأن هذا الادعاء طعنة موجهة إلى صميم التاريخ الإسلامي. وإذا كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يعنوا ببث الدعوة وغرس التربية الدينية، فمن ذا الذي عني بها؟ ومن ذا الذي بث الدعوة إلى الدين حتى شملت مشارق الأرض ومغاربها؟ ومن غرس التربية الدينية حتى في صدور الفرس والروم وأهل خراسان وأرمينية حتى صاروا مسلمين يشتغلون بدرس الدين ويتبعون هديه، وحتى نشأ فيهم علماء فحول وأئمة هادون؟

أتردّ هذه الحقائق كلها بتسعة أسطر جاء بها المؤلف، خاليةً من أي دليل: من نصَّ ثابت أو استنتاج منطقي؟

5 - وذكر المؤلف أن (مسحة الحكم إلى عصر علي لم تزل خاضعة للنظامات القَبلية، وأن حكومة (تقوم على نظم البداوة لا يرجى لها بقاء، لأنه ليس بين عناصرها وحدة حقيقية) والرد على هذا الكلام من وجهين: أولهما أن الإسلام قد محا عصبية القبيلة ودعا إلى الأخوة الإسلامية، وفهم ذلك الصحابة ونشأ عنه وحدة عربية استطاعت أن تعمل أكبر عمل في سبيل الدعوة إلى الله. وثانيهما أنّ هذه النزعة القبلية إذا كانت قد ظهرت بعض الظهور، فإنما ظهرت أيام علي. واستثناء المؤلف عصر علي من الحكم الذي أطلقه وعمّمه قلبٌ للحقيقة وتبديل للواقع

6 - ويقول في صفحة (26): (إن للأنصار حقاً أكيداً وشبهة قوية في السلطة على أنهم فهموا في آخر الأمر أنهم أنصار الدين وأنصار محمد وأنصار بيته (كذا) ولذا ظل ميلهم إلى الداعي القائم من آل البيت). . . وقرّر في حاشية الصفحة أن الأنصار: (يعتبرون وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة).

ودليل هذا كله أن (فْلُوتِنْ) ذكره في كتاب (السيادة العربية) فانظر هذا التحقيق!

7 - ويقرر في صفحة (27) أن الأمويين أرادوا (أن يخضدوا من شوكة المدنية ويقضوا على الطبقة الدينية المحترمة) وأنهم (استأجروا طوائف من الشعراء والمغنين والمخنثين من بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين: مكة والمدينة بمسحة لا تليق بهما. . .) إلى أن قال: (ويتمادى بنا الظن إلى أن المروانيين فكروا بصرف الناس عن المقدسات الإسلامية التي تنزل من الإسلام منزلة الشعيرة، بإنشاء المسجد الأموي بأبهته العظيمة بدمشق. ولقد ظن بعض المستشرقين (كالأب لامنس اليسوعي) بأن هذه نية عبد الملك بن مروان بأناقته في تشييد المسجد الأقصى. ونحن وإن كنا نظن ونوافق من يظن نرسل ما نقول في تحفظ حتى تتناصب عليه الشواهد والروايات) آه وما دام هذا كله ظناً من المؤلف، وما دام قد أقر بذلك فنحن نعلن أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وأن التاريخ لا يُكتب على هذا الشكل الذي عمد إليه المؤلف، وإنما يكتب التاريخ رجل خالي النفس من الهوى لا يبغض ولا يحب؛ وإنما يدرس المقدمات ويسير فيها بهدى المنطق وينتهي حيث تنتهي به، وما عدا هذا وجاوزه لم يكن تاريخاً ولا شبه تاريخ

8 - ومن أعجب ما يأتي به هذا المؤلف الذي يرتجل التاريخ وينشئ من خياله حوادث لم تكن - أنه يجعل في صفحة (66) نشأة يزيد بن معاوية، نشأة مسيحية! ويستدل على ذلك بأن أخواله بني كلب كانوا يدينون قبل الإسلام بالمسيحية! والى أنه يعرف طرفاً من الهندسة!! والى أن يزيد أمر الأخطل (لمسألة خاصة معروفة) بهجاء الأنصار. ويقول في صفحة (68) بعد سرد هذه الأدلة المضحكة: (إذن كان يقيناً أو يشبه اليقين أن تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة؛ أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون مستهتراً مستخفاً بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب لتقاليدها وعاداتها أي حساب ولا يقيم له وزناً، بل الذي يستغرب أن يكون على غير ذلك)

هذا قليل جداً من كثير جداً، مما في هذا الكتاب العجيب من المسائل.

أما لغة الكتاب فلا تخلو مواضع منها كثيرة من ضعف في التأليف، أو استعمال للكلمة على غير وجهها أو في غير معناها. قال المؤلف في الصفحة (9): (ثم هذه الجوانب التي نلمح إليها ليس من السهل استيعابها على وجه الدقة إلا إذا انتشرنا على مسائل الخ. . .) فافتتح الكلام بقوله: (ثم هذه الجوانب) وكان الأولى أن يقال: (ثم إن هذه الجوانب)، واستعمل كلمة (انتشرنا على) بمعنى (اطلعنا على) وليس لها وجه. وقوله في ص (11): (وكذا يبدو الدرس متصعباً غامضاً حتى نقف من تاريخ الحسين موقف الحيرة المطلقة لشدة خفاء الجانب التعليلي (؟) في كل مراحل حياته التي كانت أشبه بالبعثرات). وقليل من يفهم ما المراد بالجانب التعليلي، أو يقر كلمة (البعثرات) في هذا الموضع، ولذلك أمثال في الكتاب

هذا وأنا أشكر للمؤلف الفاضل هديته، وأرجو أن يحمل نقدي على المحمل السهل، وأن يثق بأني لولا احترامي إياه، ما نقدته ولا عرضت لكتابه

علي الطنطاوي