مجلة الرسالة/العدد 316/في طرسوس

مجلة الرسالة/العدد 316/في طرسوس

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



على قبر الخليفة العظيم

للدكتور عبد الوهاب عزام

هذه مدينة أذنة (أطنة) قدمتها البارحة وسيمر بها اليوم قطار طوروس السريع ذاهباً إلى الشام، وهو يمر بها ثلاث مرات في الأسبوع. فإن فاتني قطار اليوم فلا مفر من الانتظار في آذنة إلى السبت. إن هواء آذنة حار، وليس فيها ما يشغل الزائر ثلاثة أيام ففيم التلبث؟ إن لي في طرسوس أرباً ولابد لي أن أزور طرسوس. إنها قريبة بينك وبينها مسيرة ساعة للقطار. ولو كانت بعيدة لما ترخصت في القعود عنها. إن لم يتيسر لي العودة منها قبل موعد القطار فليذهب قطار الأربعاء وليذهب قطار السبت فما عن زيارة طرسوس معدي. إن في القلب لحنيناً إليها ومنيتي وقفة فيها:

وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة بالعقيق

أأجاوز آذنة صوب الجنوب دون أن أرى طرسوس؟ أعظم به من عقوق، وحرمان للنفس مما تمنيت سنين طوالاً

ما شأن طرسوس؟ ما الذي يشوقني فيها؟ إنها مدينة صغيرة كئيبة المنظر فما حببني إليها؟ لله أي كنز في طرسوس دفين! وأي تاريخ كبير في تراب هذه المدينة الصغيرة!

حاولت أن أبكر إليها فأعود فأدرك قطار طوروس، ولكن فاتني قطار ست ونصف من الصباح وكان عليَّ أن أختار إحدى النيتين: إما قطار طوروس وإما طرسوس

أخذت القطار إلى طرسوس والساعة ثمان ونصف

هذه طرسوس أحد الثغور القديمة بين المسلمين والروم. طرسوس التي فتحها الرشيد ومات فيها ابنه المأمون غازياً كما مات الرشيد في طوس ومات ابنه في طرسوس. لله همة أبعدت بهذين السهمين من بغداد إلى طوس وطرسوس. من كان يفطن أن الرشيد والمأمون كانا مترفين من أبناء النعمة وأخدان القصور فليعلم أن الرشيد كان همة لا تفتر بين الحج والغزو:

فمن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور

وأن المأمون لم يقعد عن قيادة الجيش إلى ثغور الروم، وأنه لقي حتفه غازياً في هذه المدينة النائية طرسوس:

ما رأينا النجوم أغنت عن المأ ... مون في ظل ملكه المحروس

غادروه بعرصتي طرسوس ... مثلما غادروا أباه بطوس

يقول ياقوت:

(وبينها وبين آذنة ستة فراسخ، وبين آذنة وطرسوس فندق بُفا والفندق الجديد. وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب. ويشقها نهر البردان. . .

وما زالت موطناً للصالحين والزهاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين، ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال؛ وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة 354 الخ)

كانت طرسوس ثغراً تتكسر عنده زفرات الروم وفي إقليمها غزا أمير العرب وشاعرهم سيف الدولة وأبو الطيب المتنبي

واستولى عليه الروم سنة 354 حين مرض سيف الدولة فخربوا مساجدها وجلا كثير من أهلها. يقول ياقوت: (وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرب المساجد وأخذ من خزانة السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أميّة إلى هذه الغاية. . .)

ثم دخلت في حوزة المسلمين حينما امتد سلطانهم على بلاد الروم من بعد

وبعد الحروب الصليبية استولى عليها المصريون، ثم استولى عليها بنو رمضان الذين حكموا آذنة وما حولها في القرن الثامن الهجري إلى أن أديل منهم للعثمانيين

ذكرت كثيراً من وقائع الدهر في طرسوس وذكرت الرشيد والمأمون وسيف الدولة والمتنبي وقصيدته السينية التي مدح بها محمد بن زريق في طرسوس:

هذي برزتِ لنا فهجت رسيسا ... ثم انثنيت وما شفيت نسيسا

ورثيت للشاعر حين ذكرت أن الممدوح أعطاه عشرة دراهم. فقيل له: إن شعره حسن. فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم

ركبت في طرسوس عربة ومعي رفيق من اسكيشهر، وكان الحوذي يعرف العربية، ولا تكلم أحداً في هذه النواحي بالعربية إلا أجابك

قلت: أين منسج راسم بك؟ فذهب إلى معامل عظيمة للنسج لمحمد بك المصري. ولم أجد البك هناك ولكني رأيت المناسج العظيمة وسرني ما رأيت فيها وما سمعت وسألت رجلاً هناك: أتعرف قبر الخليفة المأمون؟ المأمون ابن الرشيد مات هنا ودفن، فهل عندكم علم عن قبره؟ قال: لا. ولكن هنا شيخاً خبيراً بالآثار، لعل عنده علما. غاب عني قليلاً، وعاد يصف للحوذيّ الموضع! انتهى السائق إلى جامع كبير له سور عال ضخم كأنه أعد للقتال، وعلى مقربة منه خانات كبيرة، وبجانبه تكية مغلقة. دخلنا الجامع إلى صحن واسع يحيط به أروقة تمتد على جدار الباب، وعن اليمين والشمال، وفي وسطه حوض مظلّل؛ ويفصل الصحن والمسجد جدار دخلناه من باب، ومنه إلى مسجد مستطيل فيه ثلاثة عقود تقوم على صفين من العمد.

وفي الجدار الشرقي من المسجد كوة تطل على التكية المغلقة. نظرت منها فإذا مصلى مسقوف، وإذا ثلاثة قبور، أشار خادم المسجد - وهو حلبيَّ الأصل - إلى أقربها إلى الكوة. وقال: هذا قبر المأمون. قلت: أرأيت عليه كتابة؟ قال: أجل! وقد سألت ناساً في طرسوس وأذنة؛ فاتفقت كلمتهم على وصف القبر وموضعه! وأما المؤرخون، فقد أجمعوا على أن المأمون دفن في طرسوس. وأخبرني بعض العلماء العرب والترك أنهم رأوا القبر وقرءوا عليه اسم الخليفة المأمون!

هنا الخليفة العظيم!. . هنا الرجل العالم المحب للعلم والعلماء!. . هنا الملك العفوَّ الذي قال: لو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالذنوب!. . . هنا عبد الله المأمون بن هرون الرشيد!. . .

(رحم الله أبا العلاء):

أنتم بنو النسب القصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف

والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... بأب عن الأسماء والأوصاف

هنا أمير من أمراء المؤمنين يفتخر به تاريخ الإسلام، وحق على الأمم الإسلامية كلها على اختلاف أجناسها أن تشيد بذكره، وتعظمه في قبره!. . .

لقد رست قبور الخلفاء والعباسيين في بغداد وسامرَا. فلا يُعرف لواحد منهم قبر اليوم حاشا قبر هرون الذي طمس عليه عصبة الشيعة في طوس؛ وحاشا قبر المأمون الذي طمس عليه النسيان في طرسوس أو كاد.

تمنيت أن أجلس إلى قبر المأمون ساعة فأسجل ما توحيه إلى نفسي عظمة الماضي ومصائب الحاضر، وغير الزمان، وتقلب الأيام، وما يبعثه في النفس ذكر المأمون وجواره من عظمة وإعجاب، وفخار وعبرة!

ثم جلست في طرسوس فرأيت مساجد عتيقة، ولكني أصغرت كل شيء فلم أبال بعد أن وقفت على قبر الخليفة الكبير المأمون بن الرشيد رحمهما الله!. . .

عبد الوهاب عزام