مجلة الرسالة/العدد 317/النبوة - الوحي - المعجزة

مجلة الرسالة/العدد 317/النبوة - الوحي - المعجزة

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1939



للأستاذ عبد المنعم خلاف

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

نعم! إن المعجزة الحسية لا علاقة لها بالإقناع عند أكثر من لم يقتنع بالحجج الفكرية، وأغلب ظني أنها ما أجريت للإقناع، بل لتعجيز المكابرين وأخذ طرق الإنكار عليهم، حتى لا يفلتوا إلى عذر بعدها، وحتى يحملوا حملاً على الإيمان. ولذلك كانت هي الدور الأخير من حجج الرسل بعد أن تعيبهم لجاجة الناس. فموسى مثلاً كما حكى القرآن: دعا فرعون للإيمان بالله عن طريق العقل في أول الأمر، فلما كذبه وهدده بالسجن. قال: (أولو جئتك بشيء مبين) وألقى عصاه. . . إلى آخر القصة. وكذلك سلك كل رسول من أصحاب المعجزات. فهي كانت آخر سهم في كنانة الرسول أمام المتعنتين. ولم تكن ذات أثر كبير في حمل بقية الناس على الإيمان كما حكى القرآن. قال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً). . . والجملة الأخيرة من الآية تدل على أن المعجزة لم يكن ورودها للإقناع، فهي إنما أجريت لإتمام الحجة وابتذال كل شيء، حتى قوانين الفطرة في سبيل غاية الحياة العظمى - وهي الإيمان - فالذي لا يقنع عن طريق التفكير والمحاكمة العقلية - بقضية من قضايا الحق - لا يقنعه أن تقلب له العصا حية، أو الصخرة ناقة؛ وإنما هو سيتعجب فقط من فعلك، ويبقى في نفسه الإنكار للقضية التي سقت دليلك الحسي من أجلها.

ولذلك جعل الله الرسالة الأخيرة معتمدة على حجة عقلية دائمة - هي القرآن - الذي هو الرسالة، وهو المعجزة المثبتة لتلك الرسالة. . . وهذا أمر ذو قيمة كبرى تفرد به الإسلام!

وقد أراد مشركو مكة أن ينهجوا مع رسول الله (ص) طريقة من قبلهم من الأمم في طلب الآيات الحسية؛ فأبى عليهم القرآن ذلك، وقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم). . . (كذلك قال الذين لا يعلمون - مثل قولهم - تشابهت قلوبهم: قد بينا الآيات لقوم يوقنون، إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً). . . (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا. بل نحن قوم مسحورون). . . (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) إلى آخر الآيات التي تبين أن المعجزة الوحيدة التي تحدى بها رسول الله إنما كانت القرآن وحده. . .

وبعد هذا أقول للذين يرون المعجزات الحسية عقبة في سبيل الإيمان بالنبوة: أليس الناس متنوعين في التفكير وطرق الاقتناع؟ فلا بد إذن أن نُنوع وسائل إقناعهم. فمنهم العقليون الذين يسيرون - على أسلوب الله - ولا يدركون كلماته في الطبيعة! ولو لم يتحدث إليهم بصوت ولا نبرات، وهؤلاء قليلون جداً! ومنهم الأطفال المحدودون الذين لا يصدرون إلا إذا رأوا تمرة أو جمرة. . . درهماً أو سوطاً. . . وهؤلاء هم الأكثرية العاملة الناصبة. . .

لماذا تنسون طرائقكم في التدريس أيها الفلاسفة المعلمون؟ ألا تنوعون أساليب التفسير والشرح تبعاً لعقول تلاميذكم؟ وهذا أيضاً هو منطق الله مع الناس!. . .

وبعد فحديث (الوحي والنبوة) كان يجب أن يكون مفروغاً منه عند المتأملين بعمق في الطبيعة. . . الذين يدركون عمق الحياة وتزاحم تياراتها على القلب الإنساني مما لا بد معه من وجود حبل للنجاة فيها، والطمأنينة على قيمتها وقيمة الإنسان فيها.

إن وراء الحياة ربها الحكيم الذي يحتم العقل الإنساني وجوده ولن يخلي الطبيعة منه إلا إذا جن واختلط. . . وقد وُضع الإنسان في قمة الحياة الأرضية، وصار له اقتراحات وأعمال في تنقيح الطبيعة والتصرف فيها تبين أنه ليس شيئاً تافهاً يعيش على هامش الحياة. فكيف بعد هذا كله يترك هذا الصنف المكرم من غير خطاب من الله من أول الحياة إلى آخرها؟. . .

إن هذا الخطاب يحكم العقل والوجدان بأنه لا بد منه حتى ولو كان للترف والأنس الروحي بين الله والمخلصين له. . . دع عنك الضرورة الاجتماعية الحادة التي تحتمه ليستطيع الإنسان الرسول أن يحمل العبء مطمئناً متشجعاً صبوراً حمولاً. . . لأنه يسمع صوت الله قائلاً له: احمل واصبر لأني معك. . .

كتب الأستاذ العقاد في (الرسالة) عدد 285 أو 286 مقالاً بعنوان (المذياع الآدمي) هو ذو قيمة كبيرة في تحليل النفس الآدمية، وبيان آفاقها، وعمق سريرتها، وقدرتها على التقاط المعاني، والسيالات من جوف الكون!. . .

كان بودي أن يكون هذا المقال أمامي الآن لأنقل منه فقرة تقرب معنى الوحي ببيان عصري إلى العقول التي تأبى أن تصدق شيئاً خارجاً عن نطاق الحس. . . ولكني آسف لأن المقال ليس في متناول يدي الآن!

ويحضرني من معانيه هذا المعنى: إن الكون مليء زاخر بكل معنى من معاني الحياة. فهو كمصدر الإذاعة اللاسلكية، والقلوب لها خاصة الالتقاط كآلات الراديو التي تستقبل. وبعض القلوب قوي يستطيع أن يأتي بمعان صادرة عن أفق بعيد، كما أن بعض آلات الراديو له قوة على التقاط الموجات البعيدة. . .

وهذا مدخل نستطيع أن ندخل منه إلى فهم معنى الوحي. فقلب النبي وعقله أعدا إعداداً خاصاً لسماع ما وراء الطبيعة. . .

وهما في قوتهما يعتبران قمة الرقي الإنساني الذي يستطيع الإنسان أن يصل إليه في الاتصال بخفايا الكون!

وما دام العصريون يسلمون بمذهب النشوء والارتقاء في الأجسام فلم لا يسلمون به في العقول والأرواح؟

وإذا كان الله لا يظهر بعض نوره للروح الإنساني الذي هو نفخة منه فلأي شيء يظهره؟. . .

ولا بد من باب ينفذ منه العقل الإنساني إلى ما وراء الطبيعة. وهذا الباب هو عقل النبي وروحه؛ ولن يقنع الإنسان بانقطاع الصلة بينه وبين ما وراء الطبيعة إلى هذا الحد الذي تراه من الإغلاق في الطبيعة، وعدم سماحها بأي ثغرة تنفذ منها.

ولو كان منكرو النبوة والوحي يتبعون الأسلوب العلمي في بحثهم حول النبوة والوحي كما يتبعونه في بحثهم في المادة، ما أباحوا لأنفسهم أن يرفضوا شيئاً لم يقم دليل علمي على بطلانه، بل ما أباحوا لأنفسهم أن يجادلوا فيه عارفيه من الأنبياء والأصفياء إلا على سبيل الاستفسار لا الإنكار. فكما لا يباح لرجل الشارع الجاهل أن يجادل (ملكن) أو (مركوني) أو (أديسون) وغيرهم من أساطين العلم المادي، كذلك لو أنصفنا ما أبحنا لأنفسنا أن ننكر على الأنبياء ما رأوه في آفاق الحياة والروح إلا إذا كنا على قرب منهم في الصفاء والرياضة الروحية التي كانوا يزاولونها. فالأسلوب العلمي يحتم على من يريد الإنكار عليهم أن يقارب منهم ويزاول ما يزاولون، وهم يقولون إننا نرى أشياء ونصل إلى درجة نخاطب معها أرواح الملائكة والأنبياء

قال الغزالي أبو المعرفة ومحصل علوم زمانه في كتابه (المنقذ من الضلال): (ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم (الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول وطائفة الاتحاد وطائفة الوصول. وكل ذلك خطأ. . .) إلى أن يقول (وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم. وكرامات الأنبياء على التحقيق بدايات الأنبياء وكان ذلك أول حال رسول الله عليه السلام حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب: إن محمداً عشق ربه.

وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها). ثم بين الغزالي أطوار نمو العقل البشري من إدراك المحسوسات إلى إدراك المعقولات وبين أن وراء هذه المنطقة (عيناً أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأموراً أخرى العقل معزول عنها)

فعلى منكري هذا من الباحثين الشاكين أن يتبعوا الأسلوب العلمي في الإنكار والإثبات فيسلكوا سبيل أبي حامد الغزالي وأشياعه ليروا أهم على حق أم على باطل. فلقد كان أبو حامد شاكا ودرس وسلك حتى أتاه اليقين

إلى الدكتور الفاضل عمر فروخ ببيروت

إن الكاتب الفاضل الذي استعداني على مقالك (المعجزة) المنشور بمجلة الأمالي (عدد 37 ص 1) أرسل إلي العدد الذي فيه المقال، وقد قرأته بإمعان وفهمت منه ما أشرت إليه في مقدمة مقالي الأول عن النبوة والوحي والمعجزة فأنا أصرف إلى نفسي تعريضك به في مقالك الذي علقت به على مقالي، وإلا كنت أنا ظالماً له ومسيئاً إليه، وأرجو أن ترتاح للذين يتحمسون في الدفاع عن عقيدتهم التي هي أثمن شيء لديهم ما دام الدفاع خالياً من السباب والمهاترة فإن هذا هو شأن الباحث الذي يقدر عقائد القلوب.

فالكاتب الذي كتب إليّ من بيروت إنما صدر عن إخلاص حين أرادني أن أجادل رأيك في المعجزة. أما ذكره اسمه ناقصاً فله عدة وجوه لا تقدح فيه غير ما أشرت إليه أنت

وأنا قد فهمت من تفسيرك للمعجزة أن في ذهنك صورة عن النبوة غير ما في أذهان الواقفين عند نصوص القرآن في معجزات الرسل السابقين. فالقرآن يثبت أن معجزات الرسل لا دخل فيها للإنسان الرسول، وهو ذاته لا يفهمها ولا يدري سر إجرائها كما يدل على ذلك فرار موسى حين رأى عصاه حية تهتز كأنها جان. . . وأنت تعرف المعجزة في فهم الخاصة بأنها (عمل إنساني محض فيه إدراك بالغ لقوانين الطبيعة ووزائع الاجتماع، فكلما كان فهم الإنسان للطبيعة والبيئة أدق وأعمق كانت معجزته أجل وأثمن (هذا كلامك بالحرف. فأنت ترى من كلامك أنه صريح في جعل المعجزة عملاً إنسانياً، مع أن القرآن ينعت هذا النوع بأنه آيات إلهية لا دخل للإنسان الرسول في إجرائها إلا ما يتعلق بتحديد مواعيدها ومواضعها

ثم إنك جعلت توحيد رسول الله محمد للعرب معجزته الكبرى وقد تم ذلك لغيره في عصور مختلفة أحدها عصر الملك

الحالي عبد العزيز بن سعود. وقد كان مثل هذا التوحيد في غير العرب من الأمم. أفنجعل ذلك كله معجزات بالمعنى الديني؟

من أجل هذا فهمت أنك تريد أن تسلك محمداً في سلك الأبطال المصلحين الذين لا يعتمدون على مدد من السماء وأنك تريد أن تجعل كل ما فاض عنه من الأفكار والأخلاق في الإصلاح، والإرشاد والتشريع، إنما كان كله فيضاً نفسانياً بشرياً صادراً عن ذاته هو. وهذه مقالة شاعت في هذا الزمان وهي رفض للنبوة بمعناها عند المؤمنين.

ولكني بعد ما قرأت مقالك الذي تعلق به على مقالي ووجدتك تقول: إنني رجل أؤمن بالنبوة على ما وردت في القرآن الكريم لا أحيد عن رأيي في ذلك: (قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد) إلى آخر الآية. أراني مضطراً إلى تصحيح رأيي في آرائك تلك في النبوة فقط. أما رأيك في المعجزة فهو بعيد عن قول القرآن فيها؛ وفيما أوردته حولها سابقاً في هذا المقال خلاصة رأيي فيها. ولك التحية

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف