مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1939



عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف

للدكتور محمد محمود غالي

بساطة النسب الثابتة في التراكيب الذرية - كشف (جاي ليساك) - عدد (أفوجادرو) - معلومات عددية عن الذرة - دورية (ماندلييف) - عمل ماندلييف في الكشف عن العناصر يشبه عمل: (ليفيرييه) (وكلايد تومباوج) في الكشف عن الكواكب الجديدة.

كان لا بد لنا ونحن نذكر قصة العلوم والطَّفرة التي حدثت في العالم في المائة والخمسين سنة الأخيرة، تلك الطفرة التي لا يمكن أن يتكهن أحد بمدى ما تبلغه من التقدم، أن نورد تلك الخطوة الموفقة للعالم الإنجليزي الكبير (دالتون) صاحب الفرض الذري، ذلك الفرض الذي مهد له العالم الفرنسي (بروست) الذي لاحظ وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها. ومن العدل قبل أن نعطي القارئ صورة مما أفاده العلماء من هذه الحالة الجديدة أن نذكر أن (دالتون) لم يستفد من ملاحظات (بروست) فحسب، بل أيضاً من تجارب فريق من العلماء، تجارب كان لها أثر كبير في تدعيم الفكرة الذرية عنده، ولا مشاحة في أن لتجارب التي لا ندخل في تفاصيلها، أثراً عند (دالتون) للوصول إلى الفكرة الذرية التي كان من المحال بدونها أن نشهد هذا العهد من التقدم العلمي، وأن نلحظ هذه الدعامة الكبرى التي قامت عليها العلوم الكيميائية، فاتخذت في جوهرها وتفاصيلها طريقاً يختلف منذ (دالتون) عن الطريق المموج الذي انتحاه كيميائيو القرون الوسطى.

ومن الفائدة أن نذكر القارئ مرة أخرى بمنشأ الفكرة الذرية التي نشأت عندما أراد العلماء التفريق بين المزج الطبيعي والاتحاد الكيميائي. ففي الأول تمتزج مادتان بأية نسبة نريدها، وفي الثاني تتحد مادتان بنسبة محددة، وقد سبق أن قدمنا أنه للحصول على الماء من الأكسيجين والهيدروجين لا بد من مراعاة نسبة بينهما معينة، فإنه لا يتحد إلا وزن معين من أحدهما مع وزن معين من الآخر. هذه الحوادث وأمثالها أدت بدالتون إلى كشف قانون النسب الثابتة الذي كان الأساس في النظرية الذرية، وفي التعرف على شخصية الذرة.

على أن أهم ما في قانون النسب الثابتة لدالتون هو أن هذه النسب بسيطة وواقعة بين العددين 1 و 4 على أكثر تقدير بمعنى أن العناصر تتحد بنسب بسيطة واقعة بين 1 و 1 إلى 1 و 4. ولا نزاع أنه كان من حسن الحظ إن كان الاتحاد الكيميائي وفق نسب محدودة لا تتجاوز أربعة أضعاف، إذ لو كانت هذه النسب مرتفعة بأن تتحد مادتان بنسبة 1 إلى 200 أو 1 إلى 1000. لاختلاط الأمر على دالتون، ولشق على هذا العالم أن يجد خلال هذا النوع من الأبحاث الفكرة الذرية.

على أن النسب المرتفعة لم تُكشف إلا بعد مدة كبيرة عندما اكتُشفت في المركبات العضوية في زمن كانت الذرية قد تدعمت وأصبحت من الحقائق العلمية المسطورة التي يتناقلها العلماء ويتعمق في تطبيقها الباحثون.

لم يقف التقدم العلمي الخاص بالذرة على اكتشاف (دالتون) (1807). فقد كشف العالمان جاي ليساك - 1805 وإسكندر دي أن هذه النسب البسيطة الموجودة عند اتحاد العناصر بعضها ببعض لا تخص الأوزان فحسب، بل إن ثمة نسباً ثابتة موجودة في الغازات بين أحجامها أيضاً بمعنى أن غازين مختلفين لا يتحدان فقط بنسب ثابتة في الوزن، بل بنسب ثابتة في الحجم - هذا القانون لجاي ليساك صادف حرباً عواناً من جانب العالم دالتون ولكنه أدى إلى كشف حقيقة جديدة إذ قرر أفوجادرو أن في الأحجام المتساوية تحوي الغازات عدداً واحداً من الجزيئات، حقيقة أود أن يتأملها القارئ قليلاً ويتأمل بساطتها وعظمة ما تحمله في طياتها من أعجب ما نعرفه من حقائق الكون

هذا الكشف حدد عدد الذرات المتحدة بعضها مع بعض، إذ عندما ذكرنا أن جرامين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين ليتكون منهما الماء، أدرك بروست وفينزل وريشتر ودالتون وغيرهم أن ثمة عدداً معيناً من ذرات الهيدروجين اتحدت مع عدد معين من ذرات الأكسجين، ولكن هذه النسبة الثابتة في الأوزان لا تكشف هل اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرة واحدة من الهيدروجين أو اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرتين من الهيدروجين. ولكن عندما نعرف ما كشفه أفوجادرو من أن في الحجم الواحد يوجد العدد ذاته من الجزيئات، وعندما نعرف وزني حجمين متساويين من الغازين المتقدمين، يمكننا أن نعرف أمراً مؤكداً اليوم وهو أن ذرتين اثنتين من الهيدروجين اتحدتا مع ذرة واحدة من الأوكسجين ليكونا ذرة من الماء. هذا التحديد الذي كان لجاي ليساك وأفوجادرو الفضل الأكبر فيه كان الخطوة الثانية بعد عمل دالتون العظيم. بعد ذلك حسب العلماء بدقة الوزن الذري لكل العناصر معتبرين وزن ذرة الهيدروجين كوحدة ونسبوا إليها ذرات العناصر الأخرى

هنا تنوع الفن التجريبي وأبدع العلماء في مختبراتهم بما رفع الكيمياء على حد قول ريشنباخ إلى مصاف العلوم الصحيحة، وبهذا التنوع في التجارب وما أحدثته الذرية من تقدم وما أحدثته معها السينيتيكية من تصحيح في معارفنا أمكن للعلماء الحصول على معلومات عددية عن الذرات غاية في الدقة وعظيمة الدلالة، هذه الذرات، هذه الشموس التي كشفوها في المادة يبلغ قطر الواحدة منها حوالي واحد على عشرة ملايين من المليمتر، ولكي نتصورها يجب أن نتصور كرة من الصلب يبلغ قطرها 3 , 5 من السنتيمتر من تلك الكرات التي يدور عليها عجل السيارات، والتي تبلغ كرويتها في المعتاد درجة عظيمة من الدقة، وعلى القارئ أن يتصور بعد ذلك أن النسبة بين حجم هذه الكرة الصغيرة من الصلب وبين حجم الذرة كالنسبة بين حجم الكرة الأرضية وحجم هذه الكرة من الصلب، وبعبارة أخرى إن الأرض وما عليها من قارات ومحيطات تكبر هذه الكرة الصغيرة بقدر ما تكبر هذه الكرة الذرة

أما عن وزن الذرة فإذا اتخذنا الهيدروجين مثالاً ليصور لنا

الحالة علمنا أن وزن ذرة الهيدروجين حوالي 10 241 من

الجرام أي واحد على مليون مليون مليون المليون من الجرام،

وإذا علمنا أن وزن الأرض يزيد قليلاً عن 5 2710 جراماً

فإن النسبة بين وزن الكوب الفارغ إلى وزن الأرض أكبر

بكثير من النسبة بين وزن ذرة الهيدروجين ووزن هذا الكوب.

وإذا كان يعيش في هذا الزمن على سطح الكرة الأرضية

حوالي ألفي مليون من البشر فإنه يوجد في ال س م3 من

الهواء 27 كانتيليون من الجزيئات أي ما يربو على ملايين المرات عدد ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان، ومع

ذلك فإن الفراغ الذي يوجد حولها يزيد بكثير من الفراغ الذي

يوجد حول إنسان في مسكنه، فإن المسافة بين جزيئين

متجاورين (في الحرارة والضغط العادي) تساوي مائة مرة

قدر قطر الجزيء، وبهذا يجوب الجزيء عالمه بسرعة عجيبة

تبلغ في الهيدروجين حوالي 1 , 7 كيلو متر في الثانية

الواحدة أي أنها تقطع المسافة بين مصر والإسكندرية في

دقيقتين في الوقت الذي يقطعها فيه أسرع قطاراتنا الحديدية في

ساعتين

هذه الأرقام صحيحة. وليس المجال هنا لنذكر الطرق العديدة والمختلفة التي اتبعها العلماء توصلاً إلى النتائج ذاتها بطرق مختلفة

هذا موجز ما نعرفه عن الذرة التي تفترق عن الجزيء في أنه بينما نستطيع بالطرق الكيميائية أن نجزئ الأخير إلى ذرات، فإننا لا نستطيع بهذه الطرق أن نجزئ الذرة إلى جسيمات أصغر منها، ولم يتصور العلماء حتى عهد قريب أيا من العمليات العديدة التي لا تمت للكيمياء في شيء، والتي يمكن بها اليوم القيام بهذه العملية الأخيرة من تجزيء الذرة.

من هنا حدد العلماء تعريف العنصر الكيميائي أنه مادة أولية لا يمكن بالطرق الكيميائية تقسيمها إلى عناصر أخرى، ومن ثم اتضح أن معظم المواد التي تصادفنا في الطبيعة هي مركبات كيميائية تتطلب عملية خاصة لتحليلها إلى عناصرها الأولى. فالماء وهو أكثر المواد شيوعاً على الأرض مركب من الأوكسيجين والهيدروجين، والهواء من الأوكسجين والأزوت، وهكذا اضمحلت فكرة القدماء الذين اكتفوا بتقسيم الكون إلى ماء ونار وأرض وهواء، وانتهى عصر الكيمياء القديمة وبدأ عهد جديد يرجعون فيه المواد مهما تعددت إلى عناصر معروفة، حتى المواد العضوية المكونة للأحياء ترجع إلى مركبات كيميائية معروفة يغلب فيها عنصر الكاربون حيث يعظم فعله، وكما قدمنا يعزو فريق من العلماء الحياة نفسها إلى أن مركبات هذا العنصر الأخير تتحد مع غيره من العناصر بما يجعل الجزيئات الجديدة كثيرة الذرات كثرة من الصعب إحداثها بالطرق العادية، ورجح هؤلاء أن هذا هو الفارق بين المادة الحية والمادة عادمة الحياة، ورجحنا من ناحيتنا أنه لا بد أن تكون ثمة أسباب أخرى نجهلها تجعل فارقاً بين النوعين في التكوين

هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، المبتدئة بالهيدروجين والمنتهية بالأيرانيوم ذلك العنصر المشع الذي نبه على خواصه الإشعاعية بكارل في آخر القرن الماضي، لا تكون مجموعة منتظمة، بل مجموعة تحمل نظاماً مستتراً، ففي سنة 1860 بين الباحثان الروسي والألماني لوتر ماير أن العناصر مرتبة وفق نظام

والواقع أننا لو رتبنا العناصر وعددها واحد وتسعون عنصراً وفق وزنها الذري مبتدئين بالعناصر ذات الوزن الذري الخفيف ومنتهين بالعناصر ذات الوزن الثقيل، فإن هناك حالة تظهر في تتابع خواصها الكيميائية، بحيث يتخذ الهيدروجين أول مكان في هذه العناصر فيكون مجموعة بمفرده يليه غاز الهيليوم مكونا طرف الدورة يتبعه الليتيوم، والكاربون والأزوت، والأكسيجين حتى غاز أما الهيليوم فهو غاز ليس له أي اثر كيميائي فهو غير فعال بينما للليتيوم خواص قلوية واضحة كما انه فعال من الناحية الكيميائية، أما العناصر الوسطى من هذه المجموعة فلها خواص بين القلويات والحوامض؛ فإذا وصلنا للفلور آخر المجموعة وجدناه يكوِّن في الواقع حامضاً شديداً؛ أما الدورة الثانية فتبدأ بغاز النيون يتلوه الصوديوم كأول عنصر قلوي ذي أثر ويتلو هذا وذاك المعادن الخفيفة كالملجنيزيوم والأليمونيوم حتى السيليسيوم، وبعيداً في نفس العائلة تجد الكبريت والكلور حيث العناصر الحامضية الشديدة. ونجد التتابع ذاته في المجموعات العليا التي تتلو ذلك بحيث تبدأ دائماً كل مجموعة بأجسام قلوية تتلوها أجسام بين القلوية والحامضية ثم أجسام حامضية، ولقد كان التدرج حتمياً والدورات منتظمة للحد الذي تنبأ فيه (ماندلييف) بضرورة وجود عناصر أخرى في المجموعة الواحدة، عناصر غير معروف وجودها للعلماء في ذلك الوقت، عناصر أصر على وجودها في الكون (ماندلييف) لا لشيء سوى انسجام مجموعة معينة من المواد، وهذه العناصر وجدها الباحثون فيما بعد. ورأينا في تاريخ العلم المجيد (ماندلييف) يعلن مثلاً عن عنصر يمت بعلاقة للسيليسيوم حيث يحدد هذا الباحث بدقة خواصه الكيميائية ووزنه الذري، وثقة منه في وجوده، يسميه أكاسيليسيوم ويكتشفه العلماء بعد ذلك بثلاث عشرة سنة ويسمونه جرمانيوم

عندما كشف (بكارل) أثر الأيرانيوم على اللوح الفوتوغرافي وأعلن للعالم أنه مادة مشعة لم يكن الكشف عن الراديوم بعد ذلك أمراً محتوماً فقد كان عمل مدام كيري الذي كشفته عملاً تجريبياً مضنياً يذكرنا بعمل وليم التجريبي عندما كشف في سنة 1781 الكوكب إيرانوس وهو الكوكب السادس في البعد عن الشمس في مجموعتنا الشمسية، ولكن عندما كشف (ماندلييف) عنصراً جديداً كالجرمانيوم كان ذلك عملاً حسابياً يحتمه انسجام ضروري تراءى لهذا الباحث في قوانين الكون

تذكرنا هذه الحوادث العلمية بعمل الفرنسي وعضو المجمع العلمي عندما استأنف في سنة 1846 دراسة الحركة غير المنتظمة وغير المفهومة للكوكب إيرانوس المتقدم الذكر فحتم وجود الكوكب نبتون الذي يعادل حجمه 78 مرة قدر حجم الأرض، بل وتذكرنا هذه الحوادث بعمل (كلايد تومباوج في سنة 1930 عندما حتم وجود كوكب تاسع يدور في مجموعتنا الشمسية أسماه العلماء بعده بليتون. اذكر أن العالم الفلكي الذي حتم وجوده مات قبل أن يراه العلماء ببضعة شهور

وهكذا كان (ماندلييف) يبحث في المادة عن شموس إذا غابت عنا شمس حتم وجودها وكان (ليفرييه) يبحث في الكون عن كواكب إذا لم نر كوكباً حتم وجوده، واستند كلاهما على انسجام القوانين الطبيعية، بحيث كنا أمام احتمالين: إما أن يكون مصدر الحساب عند (ماندلييف) و (ليفرييه) مشكوكاً فيه، أو يكون الحساب عندهما صحيحاً؛ ولقد دلت الأيام أن حسابهما صحيح وأن العناصر كانت موجودة منذ وجود الأرض وقبل ذلك وأن الكواكب الجديدة على معارفنا كانت تدور في أفلاكها حول الشمس منذ دارت الدار التي نسكنها. . .

وهكذا مع دالتون وبروست وفينزل وريتشر وجاي ليساك، وافوجادرو وماندليف ولوتر ماير، كشف الإنسان عالماً هو الذرة فكشف بذلك من بادئ الأمر عن شموس طغى أثرها على كل ما عداها ولكن كان لابد أن يكون لهذه الشموس سيارات وتوابع كالقمر تتبع الأرض، وهذه والمريخ يتبعان الشمس. وسنرى مع القارئ أن مليكان الأمريكي، وتومسون الإنجليزي، وبيران الفرنسي كشف الإنسان أمر هذه التوابع ودخل الذرة وعرف ما فيها.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة