مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة النقد
كتاب (توفيق الحكيم)
بيني وبين الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عندما كتب الدكتور بشر فارس كلمته الأولى في (الرسالة) عن دراستي عن (توفيق الحكيم) لم أكن راغباً من ردّي عليه إلا في فتح باب المناقشة بيني وبينه في مسائل دقيقة استوقفت نظري في مقاله يتصل بعضها بصميم الأدب الحديث ومناهج البحث والتحقيق، ويتصل بعضها الآخر ببعض الدقائق في الشؤون الفلسفية التي تدور حول فكرة ارتباط الزمان بالتاريخ والرغبة بالشهوة. كذلك لم أكن قاصداً بنقدي الذي نشرته لي (الرسالة) لكتاب (مباحث عربية) الذي أخرجه للناس أخيراًالدكتور بشر إلا التمحيص العلمي لوجه الحقيقة. ومن هنا جاء ما في ردي عليه ونقدي له من (التدقيق والمراجعة في بذل الملاحظات)، كما لاحظ الجميع. وأما صديقي بشر فارس، فقد آثر أن يدبر المناقشة معي حول المناحي الشكلية. ومن هنا وقف من ردِّنا على كلمة، ومن نقدنا لكتابه في الخارج - كما يقول العلماء - يطوف حول كلامي دون أن ينزل إلى تفاصيله ويناقش ملاحظاتي في صميمها. ومن هنا جاء أيضاً ما عبته على الصديق بشر من (أنه لا يصلح كاتباً ناقداً إلا في المواضيع التي يديرها في ذهنه ويستقصيها على أوجهها بالبحث والتمحيص). غير أنه يظهر أن ما قلته في صاحبي لم يرضه، وجعله يظن متوهماً أننا نداوره ونحاوره فذهب يغمرنا من كل جنب. ولاعتقادي بطيبة سريرة صاحبي، فإنني غير محتاج للتعليق على هذه الفراسة التي بدرت من قلمه (إننا صفينا الحساب فيما بيننا قبل سفره) وحسبي هنا مناقشة كلامه فيما يتعلق بدراستي عن (توفيق الحكيم) على أن أعود لمناقشة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) قريباً بعد صدور مقتطف أغسطس، ومناقشة ما كتب وعلق به على نقدي
1 - أدار الدكتور بشر فارس موضوع المناقشة في رده الذي جاء بالعدد 312 بالرسالة حول افتراض اقتباسي لبعض تعبيراته ومنها تعبير (جملة صلات اجتماعية) وما ينظر إليه في الفرنسية. وقد رددت عليه في هذا الموضوع بالنسبة لاقتباسي هذا التعبير عنه فقلت: إن هذا التعبير قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه، فقد جاء في بحث لي عن (إسماعيل مظهر - الفكر المصري) ودللت على المصدر الذي جاء فيه هذا البحث فخرج الدكتور بشر يتساءل عن العبارة التي تضمنت التعبير ليرى موضعه منها، وهانحن أولاء نسوقها للفائدة:
(هل التناحر على البقاء في سبل المعادلة الضامية ويسميها مظهر (التناحر التعديلي) وذلك أن تعدل أفراد الأحياء حالاتها بما تتطلب مطاليبها. وإسماعيل مظهر استناداً إلى هذه الفكرة ينجح في الإجابة على كثير من المشكلات التي تتعلق بمذهب النشوء وما يتصل بمسائل علمي الاجتماع والآداب وظاهرات الدين والعقل والأخلاق، وخصوصاً ما يتصل من هذه الأصول بنشوء المشاعر الغيرية من المشاعر الذاتية (الأنانية) التي هي الأساس عنده في خلق مجموعة أو جملة من الصلات الاجتماعية التي تربط بين الناس. وهذه الصلات بدورها تسوق عنده لإيجاد المشاعر والأخلاق الاجتماعية. وقد توسع مظهر استناداً إلى هذه الفكرات فوضع مبحثه القيم. فلسفة اللذة والألم. . .)
وواضح إذن أن تعبير (جملة صلات اجتماعية) قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه (مباحث عربية):
2 - قلت إن التي ينظر إليها تعبير (جملة صلات اجتماعية) ليست للدكتور بشر فارس وإنها قد جرت على قلم دوركايم عالم الاجتماع المعروف. وقد اعترف بهذا الدكتور بشر فارس في رده فقال ما نصه: والذي في الحقيقة أن دوركايم يستعمل هذه الجملة غير مرة وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته (الرسالة ص 1379 ع 2س 11 - 12)، فكأنني في استعمال هذا التعبير لم أنظر إلى ما كتبه الدكتور بشر لأن التعبير شائع من جهة ومستعمل في كتب علم الاجتماع الحديثة من جهة أخرى، وهذا الشيوع والاستعمال ينفيان مظنة الاقتباس. ولكن الدكتور بشر فارس يعرف هذا، ولكنه رأى أنه على وشك خسارة القضية التي ثار من أجلها الأخذ والرد بيننا، فماذا فعل؟ خرج الموضوع تخريجاً يشهد له بالبراعة، ولكن أي براعة؟ براعة الرجل الشكلي فقال: إن المصدر الذي دللت عليه لم يقف عليه ولم يعثر له على أثر. . . وذهب يدير الكلام ويكرره للإبهام. وكأني به في تخريجه هذا يحاول أن يشككنا في أن دوركايم أستاذ علم الاجتماع بالسربون طيلة عشرين سنة لم يلق حاضرات فيه، وأن هذه المحاضرات قد جمع بعضها في كتب أخرجت للناس. أما (المجموعة) التي قلنا إن دوركايم قد استعمل فيها فهي تلك المجموعة التي تحمل - والتي طبعت للمرة الأولى عام 1895 ضمن المجموعة الاجتماعية بباريس على ' طبعتها هذه المكتبة أكثر من مرة. والنسخة التي تحت أيدينا هي الترجمة الإنجليزية وفيها العبارة والترجمة بقلم ومكتوب عليها ' ' وقد راجعنا اليوم نسخة من طبعة عام 1912 في الفرنسية، والعبارة وجدناها ترددت أكثر من مرة
أما التعبير نفسه فقديم في الفرنسية، وهو يتألف من شقين: الشق الأول يتضمن إنجليزياً ومجموعة أو جملة عربياً. وهذا الشق يعود استعماله إلى أواسط القرن السادس عشر، وقد وقفنا عليه عند بسكال ومالبرانش وغيرهما؛ وعلى وجه خاص في الكتب المسيحية اللاهوتية و (على الدكتور بشر التفتيش) أما الشق الثاني فيتضمن الذي ينظر إليه بالإنجليزية والتعبير الفرنسي كثير الاستعمال ورد في الكتب التي تحت أيدينا مئات المرات، وعلى سبيل المثال نذكر منها كتاب: , ' من طبع عام 1912، وقد ورد التعبير فيها أكثر من مرة في ص 160 و 162و 164و166 مثلا حيث يقول في هذه وكل هذه التعابير قريبة المدلولات في الفرنسية، وتقابل في العربية تعبير (جملة صلات اجتماعية)
3 - تحدث الدكتور بشر في هامش بمقاله فقال إني انتزعت الفقرتين الأوليين من فاتحة مقالي الأخير عنه من الدكتور زكي مبارك!. . . والذي أعرفه أن هنالك موضع تشابه ولكن لا يحمل على محل الانتزاع لأنه شكلي. ولو كنت الدكتور بشر لجاز لي أن أقول إن الدكتور زكي مبارك هو الذي انتزع مني في كلامه عن أحمد أمين كلامنا عن صاحبه الذي جاء في نقد كتابه (فيض الخاطر) الذي نشرته لي الرسالة في العدد 287 ص 43 - 44. بيان ذلك أن الدكتور زكي مبارك يتحدث عن الشكلية والتقدير عند أحمد أمين. تلك الشكلية وذلك التقدير اللذان تكلمنا عنهما من قبل في نقدنا لكتاب فيض الخاطر الذي أخرجه أحمد أمين. ولكنا نعتقد أن مثل هذا التشابه لا يحمل على محمل الانتزاع، وإنما على أن الموضوع الذي وقف منه الدكتور زكي مبارك يملي نفس الموقف الذي وقفناه من قبل إزاءه. ثم يستقل بعد ذلك كل منا بنتائج خاصة به يخلص بها من الظاهرة التي يتلمسها في آثار أحمد أمين
نقول هذا معتقدين أن صديقي بشر لو رجع اليوم وألقى نظرة على ما كتب في هذا الشأن لما رضى ما كتبه. وهو معذور - على كل حال - فيما كتبه عنا بهذا الشأن، فيظهر أنه كان يكتب كلمته وهو في حالة انفعالية. على أن التشابه بعد ذلك بين ما كتبناه وبين ما كتبه زكي مبارك عن صاحبه أحمد أمين شكلي محض، لأن أحمد أمين عند زكي مبارك رجل تقديري النظر شكلي، ومن هنا جاء عدم نجاحه في تقييد الخطرات والسانحات التي تطوف بالنفس من حين إلى حين. وبشر عندي رجل بحاثة قدير في الموضوعات التي يديرها سنين في ذهنه ويستقصيها على وجوهها بالبحث والتمحيص. ومن هنا يجيء ما في أبحاثه من التحليل وما في الكتابات التي يرسلها من ذهنه دون أن يديرها وقتاً في رأسه من إخفاق راجع إلى فقدان العنصر الأساسي لقيام التحليل عنده والتقدير، وهو الزمن الذي يعطيه الفرصة على إدارة الشيء في ذهنه حتى ينزل لمقوماته وأسبابه
4 - تهكم صاحبي بشر في الهامش بتحقيقاتنا عن قضية ميلاد توفيق الحكيم. وعجب هو كيف أنكر على توفيق شيئاً يؤكده هو بنفسه. وكنت أظنه فاطناً إلى الأسباب الجوهرية الدافعة إلى ذلك، وهي مبثوثة في أكثر من موضع في دراستي (ص 79 مثلاً من الطبعة الخاصة). بيان ذلك أننا نرى طبيعة توفيق الحكيم مترددة تبعده عن الصراحة. أما الأسباب التي حدتنا إلى ذلك فبيانها موجود في كتابنا بالإسهاب. ولهذا وقفنا موقف الحيطة مما ألقاه إلينا الأستاذ الحكيم بشأن ميلاده. وحققنا على طريقتنا تاريخ حياته، فكان من ذلك أن رفضنا التاريخ الذي قال إنه تاريخ ميلاده. . . ومن المهم أن تحقيقاتنا التي كانت للأمس عند الأستاذ بشر فارس موضع الاعتبار أصبحت في ثورة غضبه موضع الغمز والتهكم. ومع هذا فالكل وقفوا منها موقف التدبر. وقد كان من المستطاع أن أسوق الشهادات آخذاً بعضها برقاب بعض مما يؤيد تحقيقاتي من زملاء توفيق الحكيم وأصدقائه وبعض الذين اطلعوا على ملف خدمته بوزارة المعارف وفيها شهادة ميلاده، ولكن لأننا لم نستأذن أصحاب هذه الشهادات في النشر فقد اكتفينا بالتنويه. والدكتور بشر نفسه يعرف بعض هؤلاء وسمعه بنفسه منهم حينما مرّ بالإسكندرية في طريقه إلى أوربا.
هذه مراجعة لما قاله الصديق بشر فارس فيما يتصل بدراستي عن (توفيق الحكيم). أما مراجعة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) موعدنا بها مقال تالٍ بعد أن ننظر فيما سيجيء له في مقتطف أغسطس من مراجعة لأقوالي. وأرجو ألا يبدر لذهن القارئ أن هنالك شيئاً بيني وبين الدكتور بشر كما ظن البعض ووهم. فهذا النقاش وهذه المساجلة مهما عنفت في أسلوبها شيء و (الصلات الاجتماعية) شيء آخر. وما في كتابة الدكتور بشر من الشدة إنما هو نتيجة الانفعال الذي سمح له أن يسيطر على ما يكتب، وهذا يرجع إلى أن صاحبنا تغلبه طبيعة الفنان، ولعل في ذلك بعض ما يخفف شدة كلامه لمثلي ويعتذر له والسلام
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم