مجلة الرسالة/العدد 318/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 318/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
كتب إلينا أحد القراء يرجونا أن نترك السخرية من الأستاذ أحمد أمين ونكتفي في الرد بشرح ما خفي عليه من الحقائق الأدبية، ويستكثر أن نقول في السخرية من هذا الصديق:
(إن الأستاذ أحمد أمين لن يفهم الفروق بين دقائق المعاني إلا يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال).
ولكن ما الذي نصنع والأستاذ أحمد أمين هو نفسه الذي يثير غضبنا عليه؟
ألم يحكم بأن الشعر العربي في جميع عصوره تشابه بحيث لا يمكن تمييز شاعر من شاعر إلا بعد قراءة ترجمته؟ (ولو تأمل لعرف أن أشعار الشعراء أدل على أصحابها من الترجمات). وهل يقع هذا الحكم من رجل إلا وهو يعتقد أن الأدب يكال بمكيال؟
إنكم نسيتم أن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب، وهي في الصدر بين معاهدنا العالية، وأساتذة كلية الآداب لا يجوز عليهم الظن بأن الشعر العربي تشابه في مختلف عصوره وأقطاره تشابهاً يقضى بألا نستطيع التمييز بين ديوان إلا بعد مراجعة تراجم الشعراء.
وعند من نرجو تمييز العصور بعضها من بعض إذا خفي ذلك على أساتذة كلية الآداب؟
وقد حدثتكم من قبل أن حكم الأستاذ أحمد أمين في هذه القضية محال في محال، فما يجوز أبداً أن يخفى على الناقد أن هناك فروقاً كثيرة جداً بين العصور الأدبية؛ ولو شئت لقلت إن الشاعرين قد يعيشان في عصر واحد، ومع ذلك يختلفان اشد الاختلاف في طرائق التعبير وفي عرض المعاني. وهل يتشابه شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي نواس وهما متعاصران؟ هل يتشابه شعر أبي العتاهية وشعر العباس بن الأحنف وقد نشئا في عصر واحد؟ هل يتشابه شعر أبي تمام وشعر البحتري وهما من عصر واحد ومن قبيلة واحدة؟ وهل يتشابه شعر الرضى وشعر مهيار وهما متعاصران وكان بينهما من الصلات ما بين الأستاذ والتلميذ؟
ومنذ عشرين سنة كان في مصر ثلاثة من الشعراء قد ائتلفوا في المشارب والأذواق اشد الائتلاف حتى صح لبعض النقاد أن يسميهم (الثالوث) وهم إبراهيم المازني وعباس العق وعبد الرحمن شكري، وكانوا قد كوّنوا جبهة أدبية لنشر لواء الأدب الحديث، فهل يصح لناقد أن يتوهم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة تشابهوا في الأغراض وفي تأدية المعاني؟
وكان حافظ وشوقي وصبري ومطران وعبد المطلب متعاصرين فهل تشابهوا في الخصائص الشعرية؟
وما يقال في الشعر يقال في النثر، فما يجوز لناقد أن يتوهم أن الصاحب وابن العميد والتوحيدي يكتبون بأسلوب واحد مع أنهم متعاصرون.
وما يجوز أن يقال إن المويلحي الصغير يشابه المويلحي الكبير في ألفاظه ومعانيه مع أن الأول ابنٌ للثاني وعنه اخذ، وبأدبه تثقف، وأفاد من صحبته ورعايته ما أفاد.
وكان علي يوسف ومحمد عبده وفتحي زغلول ومصطفى كامل متعاصرين، فهل يمكن القول بأنهم متشابهون في الخصائص النثرية؟
وكان محمد الخضري ومحمد المهدي قد تخرجا في معهد واحد وصارا في التدريس زميلين في مدرسة القضاء الشرعي وفي الجامعة المصرية، أفيجوز أن يقال إنهما في التدريس وفي الإنشاء متماثلان؟
وفي عصرنا كاتبان يحتفلان بالأسلوب اشد الاحتفال وهما: البشرى والزيات، فهل هما متشابهان؟ وقد تأثر عباس حافظ بالسباعي فهل هو صورة من السباعي؟ هيهات، فلكل منهما أسلوب خاص.
والأمر كذلك في سائر الفنون: فقد كان محمد عبد الوهاب من تلاميذ سيد درويش، وهما مع ذلك متباعدان اشد التباعد في الاتجاهات الموسيقية والغنائية.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن شعراء العرب على اختلاف عصورهم وأقطارهم قد تشابهوا بحيث لا يمكن تمييز بعضهم من بعض إلا بعد الاطلاع على كتب التراجم؟
إن هذا لا يقع إلا من ناقد يتوهم أن الأدب يكال بمكيال ولو كان أستاذا في كلية الآداب.
لو كان أحمد أمين قد عكف على دراسة الأدب منذ فجر حياته العلمية لعرف أن الناقد البصير يدرك جيداً أن الشاعر الواحد له في حياته الشعرية أساليب مختلفات.
ألم تسمعوا أن ديوان ابن الفارض يشتمل على فنون من التعابير ومن الأغراض بحيث يصح أن يقال هذا شعر الكهولة وذاك شعر الشباب؟
ألم تسمعوا أن بغداد نقلت شعر ابن الجهم من حال إلى أحوال؟
ألم تسمعوا أن أشعار المتنبي في مصر لها ألوان تخالف ألوان شعره في الشام والعراق؟
إن صديقنا أحمد أمين يتوهم أن وحدة القوافي والأوزان توجب وحدة المعاني والأغراض، فهو لذلك يعتقد أن ديوان ابن خفاجة صورة من ديوان ابن زيدون، ويؤمن بأن شعراء مصر لم يكونوا إلا صورة من شعراء العراق.
ومثله في ذلك مثل من يظن أن الناس خلقوا جميعاً على طراز واحد لأنهم جميعاً لهم وجوه فيها أنوف وجباه وأفواه وعيون، وآذان. وهذا والله حق: فكل إنسان له عينان وشفتان وأذنان، وهو يمشي على اثنتين لا على أربع، ولكن هل يمكن القول بأن بنى آدم مع هذا التشابه خلقوا على طراز واحد؟
كيف يجوز هذا القول والتوأمان قد يختلفان اختلافاً بيناً في معارف الوجوه وفي خصائص الذاتية وفي فهم الأشياء؟
ما كنت أظن أني سأجتاح إلى توضيح الواضحات في الرد على الأستاذ أحمد أمين، ولكنه قهرني على سلوك هذا المسلك الشائك لأدفع أوهامه عن أذهان القراء وفيهم من يظن أنه أبعد نظراً من حزام حين يقول في أدب المعدة وأدب الروح ما يقول.
المهم أن يعرف القراء أننا لا نتجنى على الأستاذ أحمد أمين، وإنما نريد أن يفهموا أن للحقائق الأدبية وجوهاً مختلفة يدركها حق الإدراك من ينظر إليها نظر الفهم والاستقراء. أما الذين يواجهون الأدب بلا تأمل ولا تثبت فقد يخفى عليهم الدقائق الفنية ولا يظهر لأعينهم غير ما يحبون أن يدنوه من الهنوات ليقال إنهم مصلحون لا يهمهم غير التنبيه على العيوب.
وما نقول بأن الأدب العربي كان في جميع أطواره منزها عن الضعف، وإنما ننكر أن ينظر الرجل إلى الأدب العربي نظرة الاستخفاف ليهون من شأنه بلا بينة ولا برهان.
وفي أي عصر يستبيح بعض الناس هذه الألاعيب؟
في العصر الذي يريد فيه العرب أن يستوثقوا من أن لهم ذاتية أدبية ليقاوموا طغيان الآداب الأجنبية، وليقيموا مجدهم الأدبي على أصول ثوابت من عظمة أسلافهم في التاريخ.
ولو أن الكلام الذي قاله الأستاذ أحمد أمين وقع من رجل غيره لقلنا انه يشايع أعداء العروبة والإسلام، ولكن الأستاذ أحمد أمين بالتأكيد سليم الضمير من هذه الناحية، فهو لم يخطئ عن عمد، معاذ الله، وإنما أخطأ عن جهل، فكان تنبيهه من أوجب الواجبات. ولعله يراجع نفسه فيعرف أننا لم نقدّم إليه غير الجميل.
وهل نحتاج إلى إقامة الدليل على حسن النية فيما صنعنا مع هذا الصديق؟
لقد كان ناس يتوهمون أننا حاربنا الدكتور طه حسين لأغراض شخصية، وكان الدكتور طه يلوذ بظل هذا التوهم فلم ينبر للرد علينا غير ثلاث مرات، أو أربع مرات، بأسلوب واضح صريح؛ ثم شاء له الحذر والاحتراس أن يوهم قراءه وسامعيه بأننا نحاربه لغرض خاص وأنه يرى من العقل ألاَّ يقدم الوقود للأغراض الشخصية. ثم دارت الأيام واعترف الدكتور طه علانية أمام جمهور من أقطاب الرجال بأن زكي مبارك من أصحاب العقائد في حياته الأدبية ويجب أن ينظر المنصف إلى مصاولاته في النقد الأدبي بعين الرفق والعطف.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يهرب من الرد علينا بحجة أننا نشتمه ونؤذيه بلا سبب معقول، ثم يكتفي بأن يوجه إلينا أبياتاً فيها لوثة جاهلية لا تصدر عن رجل في مثل آدابه العالية، وهو يعرف في سريرة قلبه أننا أصدقاء منذ عهد بعيد، ويعرف أني احفظ له من الود ما لا يحفظه إلا الأقلون؟
وكيف جاز له أن يظن أني تآمرت مع صاحب (الرسالة) عليه، مع أن مقالاتي في الرسالة قد تنتهي بخصومة بيني وبين الزيات، لان الزيات سامحه الله قد حذف من مقالاتي فقرات كثيرة رعاية لصديقه العزيز أحمد أمين؟
أتريدون الحق أيها القراء؟
الحق أني أعيش في غربة موحشة بين إخوان هذا الزمان فالأستاذ أحمد أمين كان ينتظر أن أمتشق قلمي لتزكية أحكامه الخواطئ على الأدب العربي، والأستاذ الزيات كان ينتظر أن أرد على أحمد أمين بأسلوب رقيق شفاف يحاكي نسائم الأصائل والعشيات على ضفاف النيل!
فكيف غاب عن هذين الصديقين أني رجل له غضبات؟
كيف غاب عن هذين الصديقين أن الأدب العربي وصل إلى دمي وروحي وأني أزدري من يستهينون به أشد الازدراء؟
إن الأدب العربي هو الصورة الناطقة من ماضي الأمة العربية وهو في الواقع أدب أصيل لا يستهين به إلا حاقد أو جهول، وهو كذلك صورة من العِرض المصون في عهود التاريخ، فكيف يجوز أن نسامح من يفترون عليه أقبح الافتراء ولو كانوا من كرام الأصدقاء؟
الله يشهد أني متوجع لما صنعت بالأستاذ أحمد أمين، وهو رجل له ماضٍ في خدمة الدراسات الإسلامية، وله مواقف في مؤازرتي سأذكرها وإن طال الزمان؛ ولكنه في الأعوام الأخيرة أصيب بمرض عضال هو السخرية من ماضي الأمة العربية، وأُغرم بضرب من الحذلقة لا يقره عليه غير الأصحاب المتلطفين الذين لا يهمهم غير الاقتراب من روحه اللطيف!
والأدب القديم الذي يتنكر له أحمد أمين هو نفسه الأدب الذي لم يستنصر بغيره حين جاز له أن يشتمنا وهو ظلوم.
الأدب القديم يقول: (أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك) فإن توجع هذا الصديق مما أسلفنا في الهجوم عليه فمن واجبه أن يذكر أننا أدينا لمصر خدمة عظيمة حين واجهناه بالملام، فقد كان من المنتظر أن يشرب الكأس المرة من النقاد في الشام ولبنان والحجاز والعراق واليمن وتونس والجزائر ومراكش، وما إلى هؤلاء من الأقطار التي تساير الآداب العربية.
قد يقول قائل: وما معنى هذا الكلام؟ أيكون معناه أني أشفق على الأستاذ أحمد أمين بعد أن أصليته نار العذاب؟
هو ذلك، فما كان أحمد أمين إلا نباتاً مصرياً وإن عرّض مصر لأشنع ضروب المهلكات.
أحمد أمين رجل فاضل وإن تردى في هاوية العماية والجهل حين حكم بأن أدباء العرب كانوا أصحاب معدات لا أصحاب أرواح.
وما كان لي أن أطيل في شرح هذه المعاني لولا أن عرفت أن رجالا لهم أقدار عالية دعوني إلى مسالمة هذا الصديق.
فليعرفوا - غير مأمورين - أني لا أهجم عليه إلا ابتغاء وجه الحق، ولن أتركه في أمان حتى يعرف أن الأدب العربي أقوى وأعظم من أن يتعرض له باحث بسخرية واستخفاف، وسوف يرى عواقب ما يصنع إن تغطرس واستطال.
أما بعد فقد كان موضوع هذا المقال هو النص على خطأ هذا الصديق في السخرية من الأدب الأندلسي.
فهل اتفق لهذا الصديق أن يدرس أدب العرب في الأندلس؟
إني لا أزال أذكر كيف أحرجني تلاميذي بدار المعلمين العالية في بغداد، فقد حدثتهم مرة عن قيمة أحمد أمين فانبرى أحدهم يقول: إن أحمد أمين من ذيول المستشرقين. فقلت: وكيف كان ذلك؟ فقدموا إليَّ مقدمة الجزء الثالث من كتاب ضحى الإسلام وفيها يصرح المؤلف بأن تصميم الكتاب كان يوجب أن يكون له جزء رابع خاص بالأندلس، ولكن أحد المستشرقين نبهه إلى أن الأندلس في ذلك العهد لم تكن فيه حياة عقلية تستوجب أن يفرد لها جزء من كتاب، فانصرف عن تأليف ذلك الجزء المنشود!
وفي مساء ذلك اليوم كان عندنا العشماوي بك والدمرداش محمد، ودار الحديث حول المؤلفين المصريين فانبرى الأستاذ الدمرداش يثني على الأستاذ أحمد أمين فقلت: ولكن أحمد أمين صرح في مقدمة الجزء الثالث من ضحى الإسلام بكيت وكيت، فقال: هذا مستحيل، هذا مستحيل. ولولا حضور العشماوي بك لثارت معركة بيني وبين الأستاذ الدمرداش!
والحق كل الحق أن الأستاذ أحمد أمين لا يعرف الأندلس إلا معرفة سطحية. وآية ذلك أن الأدب الأندلسي لم يدرس في كلية الآداب منذ عشر سنين.
فهل نستطيع مرة ثانية أن نتلطف فندعو الأستاذ شفيق غربال إلى إنشاء كرسي للأدب الأندلسي في كلية الآداب؟
قد يعتذر العميد الجديد بأن الدكتور طه حسين صرح مرة بأنه لا يجوز لأستاذ أن يتصدر لتدريس الأدب الأندلسي وهو لم يطلع على غير كتاب نفح الطيب.
ولكني أؤكد للأستاذ شفيق غربال بأن مصر لا تخلو من رجال درسوا الأندلس في المصادر العربية والمصادر الأجنبية، ولهم قدرة على تجلية ذلك الأدب بأسلوب رائع جذاب، وهو خليق بأن ينتفع بمواهبهم حين يشاء.
وبأي حق تكون كلية الآداب أعظم معهد أدبي في الشرق إذا عز عليها أن تحيط بتاريخ العرب في الأندلس من نواحيه الأدبية والفلسفية والتشريعية؟
وكيف يجوز أن يعجز علماء مصر عما قدر علية علماء الفرنسيين والإنجليز والأسبان؟
إن مصر هي بلا جدال أعظم الأمم الإسلامية والعربية في الشرق. فكيف تعجز عن درس تاريخ العرب والمسلمين في الغرب؟ وكيف يصح لأبنائها أن يكونوا عالة على المستشرقين في الشؤون العربية والإسلامية حتى يجوز لأحد أساتذة كلية الآداب ألا يتقدم في أبحاثه أو يتأخر إلا بعد أن يظفر من المستشرقين بإذن خاص؟
قد تقولون: وهل انحصرت التبعات العربية في كلية الآداب؟
وأجيب بأن كلية الآداب تأخذ من أموال الدولة أعظم مما تأخذ سائر المعاهد المشغولة بالدراسات الأدبية والفلسفية، فهي مسئولة عن درس فتوحات العرب والمسلمين في المشرق والمغرب، وإليها المرجع في توجيه الشبان إلى فهم ماضيهم المجيد في خدمة الحضارة والمدنية، وإقناعهم بأن أسلافهم سادوا العالم بضعة قرون، ولذلك تأثير كبير في خلق الجيل الجديد.
فهل يعترف بذلك صديقنا أحمد أمين؟
وهل تعترف به الجامعة المصرية؟
لقد قضيتَ نحو خمسة عشر عاماً وأنا أدعو إلى تدريس العلوم باللغة العربية في كليات الجامعة المصرية، فكان المتخلفون من أساتذة العلوم يعتلون بأن اللغة العربية تعوزها المصطلحات في كثير من الشئون، وظلوا على تهاونهم إلى أن كتب معالي الدكتور هيكل باشا إلى سعادة مدير الجامعة يقول: إنه لا يفهم كيف تعجز اللغة العربية عن تأدية المعاني العلمية. وكانت تلك الإشارة كافية لأن يعرف أساتذة الكليات أن تدريس العلوم باللغة العربية ليس بالمستحيل، وكانوا يرونه قبل ذلك أبعد من المستحيل!
لقد قضت الجامعة المصرية أعواماً طوالاً وهي تدرس العلوم باللغات الأجنبية، ولم تعرف وجه الحق في إعزاز اللغة القومية إلا بعد أن ينبهها وزير المعارف، أثابه الله وجزاه خير الجزاء!
فهل يعلم الذين قاوموا هذه الفكرة من قبل أن الجامعة العبرية بالقدس تدرس جميع العلوم باللغة العبرية مع أن لغة بني إسرائيل ليس لها ماض في خدمة العلوم، ومع أن النوابغ من اليهود كانوا يعبرون عن أغراضهم بلغات أجنبية، ولم يفكروا يوماً في خلق عصبية للغة العبرية قبل فكرة الصهيونية؟
اللغة العبرية تصلح لتدريس جميع العلوم وهي في فقر مُدقع؛ أما اللغة العربية فتعجز عن تدريس العلوم مع أنها كانت لغة دولية في مدة دامت نحو خمسة قرون، ومع أنها استطاعت أن تحفظ الذخائر مما خلّف الفرس واليونان!
صلحت اللغة العبرية لتدريس جميع العلوم لأن اليهود أرادوا أن يخلقوا لأنفسهم ذاتية قومية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد أما اللغة التي يتكلمها أقوام يشارفون مائة مليون والتي أمدت بحيويتها كثيرا من اللغات الشرقية، والتي تنزل في أنفس الملايين منزلة التقديس، والتي تحتل أقطاراٌ حملت أعباء المدنية في مختلف عهود التاريخ، والتي خُدِمتْ خدمة لم تظهر بمثلها لغة من لغات الغرب، والتي عجز الدهر عن تبديد ما تملك من ذخائر ونفائس، والتي سخّر الله لخدمتها مئات من الأجانب في الجامعات الأوربية والأمريكية.
هذه اللغة الفنية - لغة العرب - هي اللغة التي يقال إنها تعجز عن تأدية الأغراض العلمية، بفضل حذلقة السادة الأفاضل الذين يرون في تجريحها بابا من الشهرة والنباهة وبعد الصيت!
وأعيذ القارئ من الاستهانة بقيمة هذا الاستطراد: فهو متصل بدفع سخرية أحمد أمين من الأدب العربي، وإنما عبنا عليه تلك السخرية لأنها من الشواهد على أنه غير موصول الأواصر بذلك الأدب الرفيع. فلو أن أحمد أمين كان تذوق أدب العرب لأصبح مجنون ليلاه، ولكنه مر به مرور العابرين من أبناء السبيل، وقديماً قال الحكماء: (من جهل شيئا عاداه).
وهنا شبهة يجب تبديدها لينتهي أحمد أمين. فهذا الرجل يرد علينا قائلا: إن الأدب يخدم بالنقد أكثر مما يخدم بالتقريظ. وهذا حق، ولكن هل يدرك المراد من النقد؟
النقد هو في الأصل تمييز الزائف من الصحيح فيدخل فيه اللوم ويدخل فيه الثناء، ولكن أحمد أمين يتوهم أن النقد مقصور على التجريح، ويرى الكلمة الطيبة بابا من التقريظ، وهو عنده معيب. ونحن نقول بلا تردد إن الأدب العربي أدب أصيل والزائف منه لا يقام له وزن بجانب الصحيح، فكيف انحرف بصره عن المحاسن ولم يشهد غير العيوب؟ وهل في الأدب حُسنٌ وقبح؟
الأدب جِدُّه جِدٌّ وهزله جُّد، ولا يعاب عليه إلا ما غلب عليه التكلف والافتعال، كالذي يقع من بعض الناس حين ينشئون مقالات لم تخفق لها قلوبهم، وإنما ينشئونها ليقال إنهم خالفوا الجمهور في كيت وكيت، أو ليجعلوها وسيلة لاجتلاب مقالات الكتاب بالمجان لتخفيف أعباءهم في تحرير الجرائد والمجلات.
ماذا أريد أن أقول؟
إن الترفق بالأستاذ أحمد أمين يصرفني عن كلمة الحق.
ولو رزقني الله الشجاعة لقلت إن هذا الرجل يتجنى على الأدب العربي لأنه لم يعرفه معرفة صحيحة، ولو قد عرفه حق معرفته لأدرك أنه خليق بأن تبذل في سبيله نفائس الأعمار من أحرار الرجال.
ولو أن أحمد أمين كان تذوق الأدب العربي لأيقن أنه خليق بأن يتعصب له الباحثون، ففي هذا الأدب نفائس تغفر له جميع الذنوب.
ما رأي أحمد أمين في كتاب (لسان العرب)؟ وما رأيه في كتاب (الأغاني)؟ وما رأيه في كتاب (نفح الطيب)؟ وما رأيه في كتاب (عيون الأخبار)؟ وما رأيه في كتاب (إحياء علوم الدين)؟
إن كتابا واحدا من هذه الكتب كاف لأن ينتهب حياة طيبة مثل حياة أحمد أمين، وهو خليق بأن يرفع رأس العرب بين سائر الممالك والشعوب.
وما رأي أحمد أمين في (ألفية أبن مالك) وهي من المنظومات النحوية والصرفية؟
هل خطر بباله أن هذه المنظومة شغلت مئات من العلماء؟
وهل مرّ في خاطره أنها تُرجمت إلى التركية منذ أمد بعيد؟
وهل يعرف كيف تترجم مثل هذه المنظومة إلى اللغة التركية؟
وهل يعرف من الذي قرظ ترجمتها من علماء الأزهر الشريف؟
إن هذا الصديق كان يتوهم أن مصر خلت من المتبحِّرين في الدراسات الأدبية واللغوية، وكان ينتظر أن يشطح وينطح بلا رقيب ولا حسيب.
وما كان يهمني أن أصحح ما وقع فيه من أغلاط لو لم يكن أستاذاً بكلية الآداب، فتلك الكلية هي أول معهد فرضته الأمة على الحكومة ورفعت قواعده بما تملك من أموال وقلوب.
وما أنكر أن أحمد أمين رن صوته في كلية الآداب وقد زاملته قيها نحو أربع سنين، ولكن يعزّ عليّ أن أراه يحبط أعماله بمقالات فطيرة لم تكن ثمرةً لسهر الليل وإقذاء العيون تحت أضواء المصابيح، وإنما كانت ثمرة لنزوة وقتية أراد بها أن يخلق حركة في بعض المجلات، والمجد كالرزق بعضه حرام وبعضه حلال.
أنا أريد أن أعرف كيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن أدباء الأندلس لم يحسُّوا الطبيعة، ولذلك حساب سيراه في المقالات الآتية؛ ولكن أرجوه قبل أن أشرع في هذا البحث أن يدلني على مراده من التهديد الذي خصني به في مجلة الثقافة الغراء!
وإنما أهمني ذلك لأني أحب أن أعرف مصيري بعد أن استبحتُ ما استبحتُ من الحرية في النقد الأدبي
إن الشاعر الذي أستنجد به أحمد أمين يقول:
فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتِّم
ولا بأس، فأحمد أمين لا يجازى على الشتم بالشتم، إن صح أننا شتمناه.
ثم يقول ذلك الشاعر الذي استنصر به أحمد أمين:
ولكننا نأبى الظِّلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم
أعوذ بالله! فهل أخشى أن يلقاني أحمد أمين بسيف مصمم رقيق الشفرتين؟
وكيف وهو الذي هرب مني حين ذهبت أبحث عنه بمشارب الإسكندرية؟ وكيف يلقاني أحمد أمين بسيف رقيق الشفرتين وهو الذي لم يستطع ملاقاتي إلا بلسان معقول وقلم مفعول؟
ثم يقول الشاعر الذي أستنصر به أحمد أمين:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فهل أخشى أن يرميني هذا الصديق بالحجارة والطوب حين يلقاني في الإسكندرية أو في مصر الجديدة؟
ليتني أقدر على الجهر بكلمة الحق! ليت ثم ليت!
فلو كنت شجاعاً لقلت إن أحمد أمين لم يدرك المراد من تلك الأبيات الجاهلية. وكيف أشجُع وأنا مهدَّد بالحجارة والطوب من أحمد بن أمين الجاهلي؟!
إن الأستاذ عبد الجواد رمضان يقول: إني لن أموت قريباً لأني من الأشرار، وهي تهمة لا أدفعها عن نفسي لأني أحب أن أعيش! أفي الحق أني شِرِّير؟
أنت يا ربي تعلم كيف خلقتني، وكيف سوّيتني رجلاً لا يغضب إلا في سبيل الحق، وقد شاء فريقٌ من عبادك أن يظلموني، فتجاوز عنهم واعف عني، فإنك أنت غفّار الذنوب.
ولك أن تنظر، يا صديقي أحمد أمين، فسترى في الأسبوع المقبل كيف ألقاك، وكيف أحوّلك إلى أديب يعرف كيف تكلم أدباء العرب في مصر والأندلس والشام والعراق.
وهداية رجل مثلك قد تكون كفارة عما اقترفت في حياتي من آثام وذنوب.
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين).
(للحديث شجون)
زكي مبارك