مجلة الرسالة/العدد 318/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 318/رسالة العلم
قوانين النشاط الحراري وتحول الطاقة
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
قرأت في عدد مضى من الرسالة ما كتبه الأستاذ نصيف المنقبادي المحامي، وقد راعني ما فيه من الخلط بين التحقيقات العلمية والنتائج التي وصل إليها العلم وبين بعض فكرات عتيقة في الكون مستمدة من التفكير الفلسفي، لا تجد مكانا اليوم في عالم العلم. وأي فكرة أدخل على العلم من القول بأن المادة (أو مجموع المادة والطاقة) قديمة والاستناد إلى مثل هذه المبادئ الفلسفية للاعتراض بها على نتائج انتهى إليها العلم في المعمل والمختبر وحققتها التجارب على مدى طويل من الزمان. والواقع أن التفكير العلمي الحديث يرفض مثل هذه الآراء المرتجلة (ولا يعرف من مفهوم المادة والطاقة إلا أنهما عقدتان في عالم الزمان - المكان) وقد سبق أن أشرت إلى بعض هذه الحقائق في البحث الرياضي الذي نشرته لي مجلة الرسالة لأربع سنين خلت عن نظرية النسبية الخصوصية وقلنا في ذلك الحين ما نصه:
(ليست المادة كما يعبر عنها العالم الطبيعي الكلاسيكي، بأنها كل ما كان لها امتدادات ثلاثة في المكان، بل المادة مجموعة توالي الحادثات في نقطة واحدة من نقط عالم الزمان - المكان، وذلك بمعنى أن العالم ليس إلا مجموعة من الحادثات وتوالي عدد من هذه الحادثات في نقطة واحدة يلقى في روعنا معنى المادة) (الرسالة السنة الرابعة العدد 140. ص 387).
ومعنى هذا الكلام أن العلم الحديث يرفض فكرة المادة في مفهومها القديم الذي يعتبرها (الشيء الذي تتقدم به الصور) وهذا الرفض أقرب إلى إنكار المادة إذا أخذنا المادة على هذا المفهوم وهذا الكلام يمكن شموله أيضاً الطاقة ومفهومها وبعد ذلك تجد الصورة العلمية الجديدة للمادة والطاقة أقرب إلى - أعني الفلسفة التي لا تري شيئاً وراء المظاهر الطبيعية.
وإذن في مثل هذا التفكير لا يمكن التكلم عن القدم والحدوث، ومفهوم اللاتناهي في القدم لا معنى له في العلم الحديث.
أما الشيء الذي يعترض به في الواقع على ما جاء به الدكتور محمد محمود غالي، فهو أنه تعقيداً أكثر من اللازم بمبدأ النشاط الحراري الثامن الذي قال به العلامة ساري كارنو عام 1824 والذي ينص على أن الطاقة في تحولها تتنزل وأن ليس في المستطاع عكسها. لأنه من المعروف أنه من اليوم الذي أذاع كارنو فيه رأيه قد بذلت الجهود في سبيل إيجاد التلاؤم بين مبدأ تنزل الطاقة وعدم عكسها ونظرية القوى المركزية التي تفترض إمكان عكس أي شيء في الطبيعة. ومن هنا قامت جهود ماكسويل وبولتسان وجيبس في أن الحادثات لو كانت تقترب من حلة التجانس، فليس ذلك نتيجته لأن العناصر المتباينة تميل لعدم التخالف والتباين، وإنما يعود ذلك إلى الاختلاط، فالاختلاط إذا بلغ الحد الأعظم اللامتناهي، أو ما يقرب منه بدا وكأنه متجانس للنظر وهو في الواقع غير ذلك. وفي هذا وحده عدم إمكان تصور أن الأجسام الساخنة لا ترجع لحالتها الأصلية عن طريق العكس. وكما أننا لو فرضنا حبة من قمح أخفيت في كومة من الشعير واختلطت بها، فتصور هذا الحادث من السهولة بمكان، والنظر البشرى لن يميز وجود هذه الحبة ومن هنا سيحكم بأن الكومة كلها متجانسة مكونة من مادة الشعير. وهو لو عرف أن حبة قمح قد اختلطت مع الكومة وذهبت طي الكوم فإنه سيعتقد باستحالة استخلاص حبة القمح من الكوم. وفي هذا وحده كان تفسير لعدم إمكان العكس الذي يتظاهر بمبدأ كارنو.
إلا أنه من المهم أن نلاحظ أن هذه المحاولات تستند إلى قوانين الإحصاء وهي إن كانت صحيحة في عالم النظر، ولكن مبدأ كارنو كان بكل قوته في عالم الوقع كمبدأ تؤيده التجربة. ولكن الذي حدث أنه في أواخر القرن التاسع عشر لاحظ العلامة برون في المايعات التي يستحضرها تراقصاً غير منتظم في الجزيئات، وعرف هذا التراقص بالحركة البرونية وقد ظن بادئ ذي بدء أن هذه الظاهرة وقف على عالم الأحياء إلا إن بعضهم لاحظ وجودها في العالم الميكانيكي - الآلي - وافترض لتعليلها أن الضوء يتجمع ويتكاثف على هذه الجزيئات، ولما كان الضوء لا يفترق عن موجات الحرارة؛ فإن الحرارة تتخلف في ذلك الوسط من مكان لآخر ويكون نتيجة ذلك مجموعة من المجارى وهي تحدث هذه الحركات. غير أن البحاثة نقض هذا الفرض بأن بين أن هذه الجزيئات كلما كانت صغيرة كانت حركاتها المشهودة تدل على أنها أسرع، هذا إلى أن هذه الجسيمات لا تتأثر بالنور الساقط عليها؛ فإذا صح أن هذه الحركات تحدث بدون أن تستند إلى مصدر من الطاقة خارجي، فماذا يكون الموقف؟
لا شك أنه لا يمكن التراجع عن مبدأ ماير في حفظ الطاقة؛ كما أنه يمكن أن ننكر أن الدلك والحركة يتحولان إلى حرارة، وبدون أن نبذل جهداً نرى الحرارة تتحول لحركة. وهذا ينافي مبدأ كارنو.
هذا ما تركنا فيه العالم في أوائل القرن العشرين والشك يحف بمبدأ حفظ الطاقة وقوانين النشاط الحراري وتنزل الطاقة.
حقيقة أن إينشتين وبيران وغيرهما قد أعادوا الثقة إلى هذه المبادئ والقوانين وإن عدلوها وأخرجوها عن مدلولاتها الأولى، ولكنا نعرف أن في الإمكان في ضوء الجهود الجديدة أخذ مبدأ كارنو من جهة حسابات الاحتمال وربطها بالنظرية الاحتمالية التي يقول بها هيزنبرج وشرودغبر وديراك وغيرهم من الأعلام، وإن كان لي أن أذكر هنا شيئاً لي فهو مذكرتي عن (الحركة البرونية) التي قدمتها عام 1935 إلى أكاديمية العلوم الروسية ونشرتها مبسطة بمجلة - الطبيعية - الروسية عام 1931 ونقلتها عنها في نفس السنة أما الأصل العلمي للمذكرة فتجده في لأخبار الأكاديمية وأعمالها العلمية وتجده في النشرة التاسعة 1935 ص411 - 416 ويمكن أن ينظر عنها شيئاً 1938 , , 1935.
من هنا نرى أن مبدأ كارنو من ناحيته النظرية لا يمكن أن يسوق إلى فكرة الموت البطيء إلا إذا حملنا المبدأ في الصور الجديدة التي أخذتها اكثر مما يجتمل، وأظن أن هذه المسائل، لأنها أدخل في باب المسائل النظرية، لم يولها الدكتور غالي أهمية وهو الأخصائي في المسائل التطبيقية من العلوم الطبيعية.
ولنا بعد عودة لمراجعة بعض آراء الدكتور غالي العلمية وخطراته خصوصا فيما يتعلق بمبدأ الصدفة المنظمة ونظرية النسبية.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم دكتوراه في العلوم الرياضية والطبيعية النظرية وفي الفلسفة
العلمية من موسكو