مجلة الرسالة/العدد 319/الجبر والاختيار

مجلة الرسالة/العدد 319/الجبر والاختيار

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1939



في كتاب الفصول والغايات

(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)

للأديب السيد محمد العزاوي

- 2 -

(وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، ألا انه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح).

هذه الفكرة مسيطرة عليه في كل الكتاب. هو مؤمن بها إيماناً عميقاً جاء من تنزيهه الله عن العبث واللهو، وهو أصل يقرره في اللزوميات كثيراً:

أرى فلكاً ما زال بالخلق دائراً ... له خَبرٌ عنا يُصانُ ويُخبأُ

وهو يبحث عنها بوسيلته هذه فلا يهتدي إليها، فكل ما كان للمعري من اضطراب أو حدة فإنما منشؤه هذه الحكمة المعماة عليه. هو يقرر بأن الله (يقدر أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبيه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) ثم هو يعترف بان (. . . ذلك في القدرة يسير) ولكنه يتساءل عن حكمة الله في هذا النظام، وهذا النوع من الخلق، ولم كان هذا ولم يكن ذاك؟ وهو يرى أن (مؤتي الملك ملكه قاصر الصعلوك على عدمه، وكاسي الجميل حلة الجمال، هو سالبها القبيح. . .، فبيد الله العطية والحرمان) وهو يرى (أن الفقير خص بالتوقير) ولكنه لا يدري لماذا فيقول: (والله العالم لم ذاك). فهو يتساءل على أي نظام كانت هذه العطية وذاك الحرمان، وعلى أي اعتبار خص الفقير بالعبء الثقيل، ما سبب هذا التفريق في المنزلة والرزق (والناس بنور رجل وامرأة) وينتهي إلى تلك الحال من استسلام الحائر: (ومن عند الله قسمت الحدود).

تواق لمعرفة هذه الحكمة المعماة عليه، يطلبها ويجد في الحصول عليها، فإذا ما ظن انه قد أوشك أخلفت ظنونه الحكمة الإلهية وخذلت عقله. وليس أدل على حاله تلك من وصفه نفسه: (إنما أنا كرجل بلي بالصدى، لا يجد ورداً ولا مورداً، فهو ظمآن أبداً، أن ورد غروفاً، وجده مصفوفاً، وأن صادف نزوعاً أعوزته الآلة والمعين، فبينا هو كذلك هجم على رجل ينزع بغرب، فشكا إليه فرط الكرب. فقال: ريك إن شاء الله قريب فأعني على انتزاع المروية، فلما كان الغرب بحيث يريان غدرت الوذم، وخان العناج.

حائر والحيرة توجب عليه الحذر والاحتياط. فهو ليس على بينة مما يراد به وبالكون، فهو إذا قال: (ما أنشأك ربك لعبث)، واثق أنه لم يخلق لعبث، وإن لم يستبن وجه الحكمة في هذا الإنشاء، فهو يحتاط ويحذر مما قد يكون من أمر هذه الحكمة فيقول: (أنا عن القبيح والرفث، وسبح في النهار والملث) وهو يصرح بأن: (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس، لعل الأجل يدركه من أهل الصفاء). أما ما دون ذلك فهو لم يجزم بشيء أبداً. فطبيعته تقتضي إلا يكون هناك يأس، وهي كذلك تقتضي أن لا ثقة؛ وإنما هو يقول: (أحسنوا إملاءكم جماعة الملأ، فسوف ينفد العدد ولو أنكم الرمال، وتخبو النار ولو هجم على لهبها النجوم، وتخف بكم النوب ولو أنكم الجبال حلوماً، الظالم بئس ما فعل، والمظلوم ضعيف مهتضم. فسعد امرؤٌ لا ظالماً وجد ولا مظلوما). فهو لا يأمن لشيء ولا يثبت شيئاً، وإنما يأمرك بالحيطة والحذر لأنه لا يدري يقيناً مما يراد به شيئاً، ولا يشك فيه شكاً صريحاً. فإذا ما كان الله حكيماً، وهو ما يقرره المعري تقريراً، وإذا ما كانت حكمته خافية فالخير للإنسان أن يحذر ويحتاط. وهذا الحذر والاحتياط لن يحصلا إلا بالعبادة والنسك والتطهر والتحلي بالفضائل؛ ولكن ما هي هذه الحكمة؟ ما شأنها؟ لم أجرت أموراً على وجه دون آخر؟ لم تسخر من كفاح الإنسان وتفرض عليه ما تريد! لم لا تعدل بين المخلوقات: بين الإنسان والحيوان والجماد، بل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والحيوان؟ على أي أساس بنت أحكامها هذه؟ هو لا يدري من كل ذلك شيئاً فيحار حيرة تأتيه من رفضه رفضاً شديداً أن يكون العالم ليس بذي حكمة، وأن يسير إلى غير غاية والى غير غرض، ويرمي إلى غير قصد.

وأبو العلاء مؤمن بأن هذه الحكمة تنظم الكون، وتسيطر عليه سيطرة لا تدع لقوة ما أن تمد هذه السيطرة (فرب نطف. . . يعطف إلى الخير فلا ينعطف، وكيف ولم يأذن خالقه بانعطاف) أو تحول من حكمها شيئاً (فيأيها الجامح لا يغنيك الجماح، المالك اضبط لك من عائشة لما وقع في النزوع، جل عن التشبيه والقياس في لجامك أظراب كالظراب) وأنها تنظمه نظاماً آلياً قوياً لا يشذ، ولا يحيد؛ فإذا ما أدرك ذلك صرح: (قد فررت من قدر الله فإذا هو أخو الحياة، هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أد لجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين. قال وعرس مع القالة والمعرسين). فلا يمكن للمرء أن يحيد عما يراد به، فهو مجبور على ما يأتي من أفعال (والمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب انه يملك ويحوز، كذب! لله النفوس)، وليس أصرح من هذا النص ولا أدل في بيان فكرته: (إنما أنا فرير في ريق. قد أعدت له المدية، ينتظر به أمر الملك فتجري الشفرة على الأوداج) وإن ذلك ليزعجه، ويقلق خاطره فيقول: (شغلني عن النسب، وقول في النسب، أني أسلك من الحمام نيسباً، أذهب النوم وأطال الأرق واقل رغبتي من الشرف أني لا أجد عن ذلك مذهباً (أينما تسيروا يصحبكم الله كما صحب من كان قبلكم، وله من العلم عين علنكم، وإن تصبحوا وراء شق الثعلب فالقدر معكم، لا فرار من قضاء الله) فهو يوصي بعد ذلك أن (اصطبروا على ما حكم إنه واعي الكلمات) و (دع الأقدار وما تريد فأنها لا تصرف على اختيار المخلوقين. واعلم أن رزيتك لا تهجم على أحد إلا عليك) و (من عند الله سعد المجدودين) و (الشر على جبهة فاعله موسوم) و (ربك أولوع بالأنفس غرامها) فهو يستكين، ويستسلم استسلاماً شديداً حين نضرب مثل القطاة التي (تنزل إلى شرك الوليد، وهي فرحى بما لاح لها من الرزق، فيؤول أمرها معه إلى أحد ثلاثة أشياء: سمطٍ مزعفٍ، أو سجنٍ حرجٍ، أو عذابٍ مبرحٍ، فأمس بما فعل ربك راضياً).

هذه الفكرة تقوم من فلسفة المعري في (الفصول والغايات) مقام الوزن في القصيدة. فهو خفي ولكنه يحكم القصيدة فلا يخرج عليه بيت أو جزء من بيت. وهي قطب تدور حوله الأفكار بمعانيها المختلفة وألفاظها المتباينة. فكل تفكير المعري إذن يدور حول هذه الفكرة أياً ما كانت صوره ومعانيه وألفاظه. فإذا ما نظر في المجتمع فمن وراء هذا المنظار؛ وإذا ما شمل الكون بتفكيره فعلى هذا الهدى. وهو قد يصطنع من الأساليب الغريب، ومن فنون الكتابة ما يصرف المرء إلى ظواهر الأشياء؛ ولكن الأمر لا يزال عندما قررت من قبل. فلو تخطينا حاجز الظاهر المختلف ألوانه وصوره، ونفذنا إلى ما وراء هذا الظاهر لألفينا الأمر منضبطاً يدور على ما وصفت، لا يكاد يشذ عن ذلك بشيء إلا ما أملته التقية حيناً، وفرضته الأهواء السياسية حيناً، وأوحى به عبث النفس حيناً آخر.

وتفكير أبي العلاء في الجبرية يتخذ صورتين غير متباعدتين إلا تباعد الشيء عن مظهره، فهما يبحثان في الكون وأحد مظاهره وهو الاجتماع.

وأول ما يشغله في الاجتماع الأرزاق (والأرزاق عجب يقسومها) إذ أن الرزق لو أن له (لساناً هتف بمن رقد، أو يداً لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع، فإذا صفر من الروح الجثمان، صارت تلك الطير نباديد)، (فأرد من حيث شئت ولا تبل، أمن واد أتاك الرزق أم من جبل. فان ألطاف الله طارقتك من كل أوبٍ) وهو يدعوك إلا تحزن، ويؤكد لك أنه (ليأتينك رزقك ولو جمع من أشتات).

(وذلك بقدر الله لا بسعي الساعين) وهو يلاحظ إلى ذلك أن من الناس من لا يعمل ولا يجد ولكنه يظفر بما يظفر به ذلك العامل المجد (الله علم بعارٍ خرص، ضيق رزقه وإن حرص، وآخر تغدو عليه منعمة بيضاء، قطعت إليه الفضاء) فهو يرى أن كثيراً منهم يبذل جهداً كبيراً فلا يظفر بشيء (فالموفق أين اتجه غانم، والمجدود أين يقع لا يظفر بالنجاح) وأنه ربما عس جد، فأتاك بعسجد، وأنت هارج الأحلام).

فهو يلحظ في كل هذا أن الرزق ميسر لك (ما سعت فيه القدم ولا عرق الجبين) وهو يردد ذلك المعنى في اللزوميات كثيراً.

سبب الرزق للانام فما يُق ... طع بالعجز ذلك التسبيبُ

وهو يلحظ أن هذا التسيب يجري في عسره ويسره على قواعد خفية غير مفهومة:

جدَّ مقيمٌ وخابَ ذو سفر ... كأنه في الهجير حرباء

أقضيةٌ لا تزال واردةً ... تحارُ في كونها الألِبَّاء

وهو يلحظ إلى هذا إرادة علوية تسخر من محاولات البشر وتقديرهم (فالمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب أنه يملك ويحوز. كذب! لله النفوس).

ولم يقتصر بفكرته هذه على الإنسان وإنما شمل بها الحيوان من ناحية الرزق والمقدور معاً. أما من ناحية المقدور فهو كالإنسان تجري عليه الأقدار - غامضة مبهمة - لا يدله فيها أو علم له بها فيدرأها. فالمخلوقون جميعاً (يحيدون من خطب إلى سواه والحمام ساقة جيوش الخطوب. ما ألطف صانع الظبية تنظر بجنحى ليل، وترفع هدال الشجر بقضيي ظلام، وتلبس حلة الوبر وتطأ على مثل المحار، أغلقتها أمس الحبالة فخلصت بالجريض، وصادفتها في اليوم ضراء المكلب فكاد إهابها ينقذ عن قلب مروع، وسلمت بعد الشد المحيص، وفي الغد تنتظمها بعض سهام المرتمين، فلم يغنها الفرق من الأحداث). وهو يسوي بين الحريص والأخرق من الحيوان والإنسان في المقدور (ما خشف ذو خرق وقع في حباله آبق، فنشق أشد النشق، أعيا بخلاصه مني بالخلاص).

ومن ناحية الأرزاق كذلك تجري عليه في نفس الغموض الذي تجري به على الإنسان: تيسر للظلم الحص وإن سعد فالهبيد، فينمو على الحص والهبيد؛ وتخص الإبل بالسعدان، فيغذو الإبل هذا السعدان، وكذا الخيل تنمو باليعضيض. ثم إن الحمار لا يكاد يصبر على عطش والظبي طويل صبر على العطش، فهو يسجل هذا جميعاً ويتساءل لم خصت الطبيعة هذا بذاك ولم تخصه بغيره، ولم لم ينتقل الظليم إلى المراعي والأرض (الغراء المتألقة) فيسعد بالعشب والنبات؟

أذن فالحيوان كذلك لا تسير عليه الأرزاق حسب قاعدة مفهومة. فنحن لا خيرة لنا أذن في تقبل هذا ورفض ذاك، لا خيرة لنا في كسبه وملاءمته للطبع والانتفاع به.

فهو يكل الأمر جميعاً إلى نظرية الجبرية والجبر المطلق الذي لا تقيده إلا هذه القيود التي لا يتبين أبو العلاء علام كانت وبأي حكمة بنت أحكامها في العطاء والمنع، في الخفض والرفع. وعلى ذلك فهو لا يلوم المجتمع من هذه الناحية، ما دام الناس ليس لهم بما يجري بهم يدان، وليس لهم في أرزاقهم تصريف. أذن فما يكون من فروق بينهم بنيت على هذه الأقدار والأرزاق فهي تافهة وليست بذات خطر ولا أهمية.

ونحن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من تفكير أبي العلاء نجد أنفسنا أمام رجل يثور دواماً على المجتمع ونظامه، يعدد آثامه وأخطاءه يائساً من إصلاحه والسير به إلى الخير والعدل والأمان، حامداً فلسفته التي ألهمته الاعتزال (فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواه)، ويدعو إلى إصلاح بالتعاطف والتراحم والمودة.

وثورته على النظام الاجتماعي نتيجة مباشرة لآرائه الجبرية. فهو كما قلت لا يريد أن يبني أحكاماً على أشياء سبق بها القدر فهي خارجة عن حدود تصريف البشر: لا يريد أن يرفعك المال أو فضل أتاك به الجد والمقدور، وهو لا يريد أن يحقرك لفقر لم تكن لك به يدان واعيي الحيلة تحايلك عليه. هو لا يريد أن يسلك هذا المسلك الذي سلكه كل الناس وعليه بنى المجتمع أحكامه. فهذه المقادير تجري على نظم لو كانت بيد الخلق لغيرتها تغييراً يقلب من هذه الأوضاع التي جعلت الفاجر مجتبي والفاضل مهضوم الحق معدماً. ثم (إن الناس بنو رجل وامرأة، ما أدنى المؤتشب من اللباب). فأيا ما كان الاختلاف بين الناس فهو لن يخرجهم عن الجنس ولن يقوم بينهم وبين أن ينتسبوا جميعاً إلى صفات مشتركة عامة، و (الناس في عدل الله سواء، هم سواء رغم اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعية وتقدير المجتمع لهذه الاختلافات والأوضاع. فمجيئنا إلى الحياة واحد، وخروجنا من الحياة واحد كذلك. وما دمت ستنتهي إلى غاية تستوي فيها الناس جميعاً، مهما تكن أوضاعهم الاجتماعية، فجدير بك أن تخفف من التغالي، وإلا تسرف فيما بينك وبين غيرك من فروق حكمت بها الأقدار وقدرتها تقديراً، وجدير بك أن تعطف على الفقير وأن ترأف به: (فمن ذخر جميلاً وحده عند الله) ولا أحد (بالشح أمرك وعلى الدنيا أمرك) من؟ (أخالقك الذي صورك؟ كلا. وعظمته لقد أنذرك!)

هذا نظر أبي العلاء في ظاهرة من ظواهر الكون، فأما نظره في الكون نفسه، فهو امتداد لتلك الفكرة أو أصل لها على وجه أصح.

(للبحث صلة)

السيد محمد العزاوي