مجلة الرسالة/العدد 319/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 319/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 319 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 10 -

سنواجه الأدب الأندلسي في مقال اليوم، وهو الأدب الذي اتهمه الأستاذ أحمد أمين بالعجز عن تذوق الطبيعة، والإحساس بالوجود.

ولكن لا بد من من كلمة قصيرة نبين بها بعض الخصائص التي امتاز بها الأدب العربي ليعرف أحمد أمين ومن لف لفه من المتحذلقين كيف تفرد ذلك الأدب بالصيغة العالمية بين سائر الآداب.

أسير الآداب في العصر الحاضر هو الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب الألماني، ولكن هذه الآداب على عظمتها لا تزال محصورة في العبقرية المحلية. ومعنى ذلك أن أقطاب الأدب الإنجليزي إنجليز، وأقطاب الأدب الفرنسي فرنسيس، وأقطاب الأدب الألماني ألمان.

والأدب الإنجليزي حين ازدهر في أمريكا لم يكن أقطابه هناك من السكان القدماء لبلاد الأمريكان، وإنما كان أقطابه من السلالات الإنجليزية التي احتلت تلك البلاد.

والفرنسيون لا يعترفون لأهل سويسرا وبلجيكا بالتفوق في الأدب الفرنسي، ويقولون أن أدبهم لا هو لحم ولا هو سمك، على حد تعبيرهم الطريف , مع استثناء أفراد قلائل رفعتهم العبقرية إلى التفوق في لغة هوجو وميسيه ولامرتين.

أما الأدب العربي فكان حظه من اغرب الحظوظ، لأنه تغلغل في كثير من البيئات الشرقية والغربية، وانتفع بعبقريات كثيرة في مختلف الأمم والشعوب، فكان فيه أقطاب بين ناس لم تكن لهم قبل الإسلام صلة بمهد اللغة العربية من ناحية الجنس أو الدين.

وعلى ذلك يمكن القول بان الأدب العربي هو الأدب المخضرم الذي انتفع بالأجواء المختلفة من طبائع البلاد وسرائر الرجال. وقد ظهرت عبقريته في لونين من ألوان التعبير: هما العلوم الشرعية والفنون الأدبية، وما يمكن لباحث منصف أن ينكر أن الفقه الإسلامي صورة من صور التعبير الدقيق، وهو من صميم الأدب عند من يعرفون أن شرح الشرائع فرع من الفروع الأدبية، وهو يمثل الشعور بما في المجتمع من معضلات ومشكلات خلقتها ظروف المعاش.

وذلك الفقه لم تختص به أرض دون أرض، فكان من أهل الهند وأهل فارس وأهل مصر وأهل المغرب والأندلس رجال تفوقوا في الدراسات الفقهية أشد التفوق، وأمدوا الأدب بصور كثيرة تمثل الاتجاهات الذوقية والمعاشية.

وما يقال في الفقه يقال في التوحيد والتفسير والحديث، فهناك ألوف من المصنفات الجيدة التي وعت ضروباً من الحقائق الأدبية والفلسفية لا يستهين بها رجل حصيف.

ولو توجهت همم الباحثين إلى شرح ما في تلك المصنفات من مقاصد وأغراض لأتوا بالعجب العجاب. وقد نبهني إلى ذلك المسيو مرسيه يوم كنت مشغولا بشرح الرسالة العذراء، فاستطعت أن أجد شواهد أدبية من كتب الفقه عند المالكية. وكذلك استطعت بإرشاد المسيو ماسينيون استخراج بعض المعاني الصوفية من المؤلفات الفقهية.

حيا الله أساتذتي في باريس، فبفضلهم عرفت من مذاهب البحث ما لم أعرف.

وإنما مهدت لمقال اليوم بهذه الكلمات ليعرف الأستاذ أحمد أمين كيف أخطأ حين توهم أن الأدب مقصور على قصائد الشعراء، فما كان الشعر إلا صورة من صور التعبير، وهو لتقييده بالقوافي والأوزان لا يستطيع التعبير عن جميع الأغراض.

وأنا مع ذلك سأقف عند الأدب الصرف الذي يمثله الشعر والنثر الفني وأنا أتحدث عن الأندلس.

فهل من الحق أن الأندلسيين لم يحسوا الطبيعة ولم يتذوقوها كما قال أحمد أمين؟

إن المعروف عند جميع أدباء اللغة العربية أن الأندلسيين تفوقوا في وصف الطبيعة، فكيف تفرد أحمد أمين بنكران ذلك؟

أيكون أحمد أمين أعلم الناس بالأدب ولا نعرف؟ ذلك والله غاية العجب!

أيكون من طبع كلية الآداب أن تروض مدرسيها على اصطناع الحذلقة والأغراب؟

أغلب الظن أن أحمد أمين سمع أنه لم يأت بجديد منذ اتصل بكلية الآداب، والجديد عنده هو الخروج على ما اتفق عليه جمهور أهل الأدب في ميدان الحقائق الأدبية، فمضى يتكلف ويتعسف ليأتي بجديد يجعله في الطبيعة بين أساتذة كلية الآداب، فكان ذلك الجديد هو التجني على ماضي الأدب العربي حين زعم انه في اكثر أحواله أدب معدة لا أدب روح، وأنه لا ينقد الحياة كما تصنع الآداب الإفرنجية، وأنه لم يصف الطبيعة ولم يتحدث عن المجتمع.

وقد فندنا هذه المزاعم فيما يخص مصر والشام والعراق.

وندفع اليوم ما وجهه أحمد أمين إلى الأدب الأندلسي وهو يرى أهله قصروا ابشع التقصير في تذوق الطبيعة وفي الإحساس بما تعرضوا له من الأحداث الاجتماعية.

ويجب أن يكون مفهوما قبل الشروع في التفاصيل أن الأدب الأندلسي تعرض للضياع منذ أجيال، فلو قلنا أن ذلك الأدب ضاع منه اكثر من تسعة أعشاره لما بعدنا عن الصواب، فقد عانى ذلك الأدب فتنة حمقاء هي ثورة الأسبان على مخلفات العرب في الأندلس وإصرارهم على تبديد ما ترك العرب والمسلمون من روائع الآداب والفنون.

وكان ما صنع الأسبان بآثار العرب في المغرب صورة مما صنع التتار بآثار العرب في المشرق، فكان حظ قرطبة صورة ثانية من حظ بغداد.

تبدد من آثار العرب في الأندلس ما تبدد، وضاع منه ما ضاع، ومع ذلك بقيت آثاره تشهد بان العرب في الأندلس أحسوا الطبيعة والوجود إحساساً قليل النظائر والأمثال.

وهل يدرك أحمد أمين قيمة الإحساس بالطبيعة في قول المعتمد بن عباد:

وليل بسد النهر آنسا قطعته ... بذات سوار مثل منعطف النهر

نَضَتْ بُردها عن غصن بان منعم ... فيا حُسن ما انشقَّ الكمام عن الزهر

أيقال أن هذا لعب بالتشبيهات، كما يتوهم احمد أمين؟

وما رأيه في قول عمرو بن فرج وهو يتحدث عن شرف العفاف:

وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع

وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي

فملكت النهى حجاب شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي

وبت بها مبيت السَّقب يظما ... فيمنعه العكام من الرضاع

كذاك الروض ما فيه لمثلى ... سوى نظر وشم من متاع

ولست من السوائم مهملات ... فاتخذ الرياض من المراعي أينكر إن هذا الشاعر أحس الطبية أدق إحساس؟

وهل يستطيع إن يؤدي هذه الصورة بأفضل من هذا الأداء؟

وما رأيه في قول محمد بن سفر:

وواعدتُها والشمس تجنح للنوى ... بزَوْرتها شمساً وبدر الدجى يسرى

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النهر

فعطّرت أن حولِي فأشعرتْ ... بمقدمَها والعَرف يُشعر بالزهر

فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصَّى قارئٌ أحرف السطر

فبتُّ بها والليل قد نام والهوى ... تنبَّه بين الغصن والحِقف والبدر

أعانقها طوراً والثم تارةً ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر

ففضّت عقوداً للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر

إلا يرى كيف كانت الطبيعة بشجارها وأزهارها وأنهارها وأقمارها تداعب خيال الشاعر وهو ينظم هذا القصيد؟

أيدرك قيمة الإحساس بالطبيعة في هذا البيت:

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النهر

قد يقول أن هذا لعب بالتشبيهات!

أن قال ذلك فسيأتي يوم قريب نبين فيه قيمة التشبيهات وما فيها من الدلالة على الأنس بمعاني الوجود

وما رأيه في قول أحد الأندلسيين:

أديراها على الروض المندّى ... وحُكم الصبح في الظلماء ماضي

وكأس الراح تنظر عن حَبابٍ ... ينوب لنا عن الحَدق المراضِ

وما غَربَتْ نجوم الأفق لكن ... نُقِلْن من السماء إلى الرياض

أيحسب هذه الأبيات من الكلام المزخرف الذي لا يدل على شيء!

اتقى الله في نفسك يا صديقي احمد أمين، فأنت لا تجني على الأدب، وإنما تجني على نفسك حين تنسب إليها الغفلة عن أقدار هذه المعاني:

وما بأفضل في قول الرصافي الأندلسي في وصف حائك جميل: قالوا وقد أكثروا في حبه عَذَلي: ... لو لم تهم بمُذال القدر مبتذلِ!

فقلت: لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترتُ ذاك ولكن ليس ذلك لي

علقتُهُ حَبَيَّ الثغر عاطرهُ ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل

غُزِّيلٌ لم تزل في الغزل جائلةً ... بنانُهُ جوَلان الفِكر في الغزَل

جذلان تلعب بالمحواك أنملهُ ... على السَّدى لعب الأيام بالأجل

ضًّما بكفيه أو فحصاً بأخُمصهِ ... تخبُّط الظبي في أشراك محتَبِل

ألا تدل هذه القطعة على أن الشاعر قوي الإحساس بالوجود؟ وهل فكر أحمد أمين أن الأندلسيين لهم أمثال هذه المعاني؟

وهل عرف أن منهم من قال في وصف راقص مليح:

ومُنزّع الحركات يلعب بالنُّهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسهِ

متأوِّداً كالغصن وسْط رياضه ... متلاعباً كالظبي عند كناسه

بالعقل يلعب مدبراً أو مقبلاً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه

ويضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضمّ ذبابه لرياسهِ

ألا تعد هذه القطعة من غرائب الشعر البديع الذي يمثل الإحساس بالوجود؟

وهل عرف أن في الأندلسيين من قال:

عاطيته والليل يسحب ذيلهُ ... صهباء كالمسك الفتيق لناشقٍ

وضممته ضمّ الكمىّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي

حتى إذا مالت به سِنة الكرى ... زحزحتُه شيئاً وكان معانقي

باعدتُهُ عن أضلع تشتاقهُ ... كيلا ينام على وسادٍ خافق

فهذا شاعر حي العواطف، مشبوب لأحاسيس، يدرك جمال الوجود في أوقات الصفاء، ويواجه الطبيعة بنظر ثاقب، وقلب خفاق.

وما رأي صاحبنا في قصيدة ابن هاني:

فمن في مأتمٍ على العشاقِ ... ولبسن السواد في الأحداق

وهي قصيدة يحفظها أكثر الأدباء، وفيها من وصف الطبيعة ألوان.

وما قوله في أرجوزته القافية التي وصف فيها الساقي فقال: يحّثها بِدَله المرموقِ ... أرقَّ من أديمه الرقيق

وبات سلطاناً على الرحيقِ ... يسلِّط الماَء على الحريق

ويغرس اللؤلؤ في العقيق ... كأنَّ دُرَّ ثغره الأنيق

أُلّف من حَبابها الفريق ... أو زَلّ عن فيه إلى الإبريق

وهل سمع الأستاذ أحمد أمين بأخبار ابن شهيد صاحب (الزوابع والتوابع) ولأدبه صلة شديدة بتذوق الوجود؟

هل قرأ أشعار ابن زيدون ورسائل ابن زيدون ليرى كيف فتن هذا الشاعر الكاتب بفهم الدنيا والناس؟

وهل نظر في نكبات ابن عمار الذي تذكر نفثاته بنفثات أبي فراس؟

وهل خطر في باله أن ينظر كيف برع الأندلسيون في الموشحات، وكانت أقباساً من الأضواء، وأنفاساً من الأزهار؟

هل عرف أن الأندلسيين بكوا بلادهم بكاء شهد بأنها قطع من قلوبهم الخوافق؟

هل مر بخاطره أن الأدب الأندلسي ترك في الأدب اللاتيني أخيلة وتعابير بقيت على الزمان؟

هل وصل إلى علمه أن عهد العرب في الأندلس هو أشرف ما عرضت أسبانيا من العهود؟

هل اتفق له أن يعرف أن تاريخ العرب في الأندلس كان مادة غنية سعدت بها حيوات كثير من الباحثين الذين تشرفت بهم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية؟

هل طرق سمعه الخبر الذي يقول إن علماء الأندلس هم الذين عرفوا أهل أوربا بمعارف اليونان؟

فبأي حق يجوز التطاول على أهل الأندلس من رجل مثل أحمد أمين وهو يشهد على نفسه بأنه لا يكتب عن الأندلس إلا بعد أن يأذن له المستشرقون؟

آه، ثم آه!!

ما جزعت على وفاة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كما جزعت عليها اليوم!

فلو كان الرافعي حياً ورأى أحمد أمين يقول في ماضي الأدب العربي ما يقول لأصلاه نار العذاب وصيره أضحوكة بين أهل الشرق والغرب.

ولو كان احمد زكي باشا حياً ورأى هذا العبث في السخرية من أهل الأندلس لقدم أحمد أمين إلى مهاوي سقر (وأحمد زكي باشا أول من أذاع محاسن الأندلس في العصر الحديث، قبل الشيخ محمد المهدي والأمير شكيب أرسلان).

ومن يدري، فلعل أحمد أمين يلقى من الجزاء ما هو له أهل يوم يتنبه أساتذة الأدب إلى واجبهم في رد عادية العادين على ماضي اللغة العربية!

من يدري، فقد يقوم أحد المستشرقين بالانتصاف للتراث الذي غفل عن قيمته الشرقيون!

من يدري، فقد تستيقظ كلية الآداب فتنشئ كرسياً للأدب الأندلسي يرف شبان العصر الحاضر أن أسلافهم استطاعوا أن يروعوا الأدب اللاتيني في حصنه الأمين!

إن الشواهد التي سلفت قد انتزع أكثرها من الشعر، فكيف كان النثر عند أهل الأندلس وكيف دل على تذوق أصحابه؟

لا أريد أن أعيد ما قلت في كتاب النثر الفني حين تحدثت عن كتاب الأندلس، لأني أبغض الحديث المعاد، وإنما أنبه القراء إلى خصيصة ظاهرة من خصائص النثر الأندلسي: هي الهيام بالتشبيهات رغبة منهم في تجسيم المعاني، والتشبيهات تنتزع في الأغلب من صور الطبيعة والوجود، فهي من الشواهد على إحساس الكاتب بالطبيعة والوجود

ولم تقف هذه الخصيصة عند الرسائل القصيرة أو كتب العهود، وإنما شملت كتب التراجم وكتب التاريخ، وغلبت على الأبحاث الصوفية.

ومعاذ الأدب أن نفهم الطبيعة كما يفهمها أحمد أمين فنظنها مقصورة على الشجرة والزهرة، هيهات، إنما الطبيعة كتاب الوجود بما فيه من حجر ومدر، وشجر ونبات، وماء وجماد.

والطبيعة الشاملة تظهر بعظموتها وجبروتها ممثلة ناطقة في اكثر ما كتب الأندلسيون، ولو شئت لقلت إنهم بالغوا في ذلك حتى قاربوا الإسفاف، فهل كانوا يعلمون من وراء الغيب أن سيجيء في آخر الزمان من يتهمهم بالغفلة عن تذوق الطبيعة والوجود؟

أمن أجل تلك التهمة المحجوبة في ضمير الغيب كان الفتح بن خاقان يفتعل ويعتسف في الأوصاف والتشبيهات ليقيم الدليل على أن الطبيعة كانت تطالع الأندلسيين من كل جانب؟

أكان ابن زيدون وابن برد وابن شهيد وابن حزم يتوقعون أن سيتجنى عليهم ناس فيتهمونهم بالتبلد وضعف الإحساس فكان من احتفالهم بوصف الطبيعة ما كان؟ وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ العقاد منذ سنين وهو يفاضل بين البحتري وشوقي، فقد نص على أن شوقي وصف الطبيعة بعد أن صار وصفها من المذاهب الأدبية، أما البحتري فوصفها بوحي من الفطرة. وكذلك أقول في الحكم لأهل الأندلس: فهم لم يتعمدوا وصف الطبيعة ليقال انهم تذوقوها وأحسوها! وإنما وصفوها بوحي من الفطرة فكانت أوصافهم أبلغ في الدلالة على سلامة الذوق، وقوة الطبع، وأصالة البيان.

ويتحذلق أحمد أمين فيقول: أين الشاعر الذي رأى نفسه جزءاً من الطبيعة على حد قول الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا

ونقول إن الحلاج بحمد الله شاعر عربي، وشعره زكاة عن العرب الذين اتهمهم أحمد أمين، وأبيات الحلاج هي اندماج في الطبيعة، ولذلك تفصيل يراه من شاء في كتاب التصوف الإسلامي عند شرح نظرية وحدة الوجود، حتى لا يظن ظان أن أحمد أمين أول من التفت إلى هذه الشؤون.

ولكن ما بال صاحبنا يغفل عن أبيات الشاعر الأندلسي الذي منح الطبيعة خصائص النفس الإنسانية حين قال:

وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعَفُ الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا ... حَنُوَّ المرضعات على الفطيم

وأرشفَنا على ظمأ زُلالاً ... ألذّ من المدامة للنديم

يصدُّ الشمسَ أني واجهتْنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم

وهل يعرف أحمد أمين أن نظرية وحدة الوجود وهي أعظم تقديس للطبيعة لم يشرحها أحد بمثل ما شرحها الصوفية في الأندلس؟

وهل عرف أن أبن عربي له في ذلك آيات بينات؟

وهل فطن إلى أن أبن زيدون جمع إلى روحه أطراف الوجود حين قال:

يُدنى خيالكِ حين شطَّ به النوى ... وهمٌ أكاد به أُقبِّل فاكِ

أما بعد فقد زعم أحمد أمين أن ابن خفاجة الملقب بشاعر الطبيعة لم يجد غير الصياغة، ولم يستطع أن ينفخ فيها الروح، إلا في النادر القليل.

فهل نترك هذا الزعيم بلا تفنيد رعايةً لهذا (الأديب)؟

وهل هان الأدب العربي على أهله حتى يتركوا زمامه لمن يتخيل فيخال؟

إن من حق ابن خفاجة علينا أن نجلو صفحة من حياته الشعرية والنثرية تبين كيف كان ذلك الرجل فناناً بارعاً تجري أنامله على أوتار الوجود، فهو من مفاخر اللغة العربية، وهو حجتها يوم يتطاول عليها من لا يدركون أسرار البيان.

وقبل الشروع في الكلام عن ابن خفاجة أرجو أصحاب الجرائد والمجلات في غير مصر أن يصححوا رأيهم في أسباب هذه المقالات، فليس من الصحيح أني انتهزت فرصة الأخطاء التي وقع فيها أحمد أمين لأشفي صدري منه أو لأشفي صدر صديقي صاحب الرسالة، فليس بيننا وبين الأستاذ أحمد أمين خصومة شخصية، وإنما هي مصر تروض أبناءها على مخاصمة أصدقائهم في سبيل الحق.

(للحديث شجون)

زكي مبارك