مجلة الرسالة/العدد 320/الحلف العربي

مجلة الرسالة/العدد 320/الحلف العربي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1939


وقضيتا فلسطين وسورية

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

منذ بضعة أسابيع نشرت لي مجلة (المكشوف) البيروتية في عددها الممتاز كلمة عن الوحدة العربية بينت فيها ما يتيسر من ذلك في الوقت الحاضر، وهو أن يكوّن الأمم العربية - أو التي لغتها العربية - فيما بينها حلفاً قوياً وطيد الدعائم يوحد نظم التعليم العام، ويزيل الحواجز الجمركية، ويلغي الجوازات، وينظم التبادل التجاري، ويوثق الروابط الاقتصادية، ويوحد النظام العسكري، ويعين على إنصاف الأمم العربية التي لم تفز إلى الآن بحقها في الحياة الحرة مثل: تونس والجزائر ومراكش، ويجعل من هذه البلاد كلها كتلة واحدة وصفاً متراصاً متعاوناً للدفاع عن وجودها وصون مصالحها والذياد عن كيانها. وقلت: إن هذا مطلب ليس فيه شطط، فإنا نرى فرنسا وبريطانيا تسعيان لمحالفة الروسيا الشيوعية على الرغم مما بين الدول الثلاث من تفاوت في الأصول واللغة والنظم الاجتماعية والسياسية والأغراض والمصالح والمواقع الجغرافية

وقد نقلت جريدة البلاد البغدادية هذا المقال، وعقبت عليه بقولها: إن الحلف الذي أدعو إليه قد فكر فيه العراق (وأوجد مشروعه فعقد معاهدته مع المملكة العربية السعودية ودخلت فيه مملكة اليمن، وبابه مفتوح لدخول كل دولة عربية أخرى)

وأنا أعرف ذلك وما نسيته ولا أُنسيته يوم كتبت كلمتي إلي المكشوف. وقد كنت في بغداد لما كانت المفاوضة دائرة بين العراق والمملكة السعودية لعقد هذا الحلف، وقبيل الأوبة إلى مصر بشرنا السيد يوسف يسن مندوب الدولة السعودية، والمرحوم يسن باشا الهاشمي رئيس الوزارة العراقية يومئذ، بأن الاتفاق تم ولم يبق إلا التوقيع، فكان هذا أعظم ما سرنا وخير ما عدنا به من بغداد

ومازال الحلف قائماً ولا شك في فائدته للدول الداخلة فيه ولكني لا أعلم أن الفائدة تجاوزت هذا النطاق المحدود. وإذا كانت العراق واليمن والمملكة العربية السعودية قد تعاونت على السعي لإنصاف فلسطين فقد اشتركت معها في ذلك مصر وهي غير داخلة في الحلف، وقد كسبت هذه الدول الأربع لفلسطين العدول عن الوطن القومي وحصر الهجرة اليهودية إليه في نطاق الثلث، وهذا فوز له قيمته ولا ريب، ولكني أجترئ على القول بأن الفضل فيما كسبت فلسطين العربية، لأبنائها الأشداء الأبطال المغاوير قبل أن يكون لهذه الدول العربية، ولو لم يقم عرب فلسطين قومتهم الباهرة لما أجدى سعي البلاد العربية الأخرى منفردة أو مجتمعة. ومع ذلك أصبح هذا الكسب عرضة للضياع إذا اعتبرنا ما يحدث كل يوم من تهريب اليهود إلى فلسطين وإدخالهم فيها بكل وسيلة غير مشروعة لإحباط سياسة الكتاب الأبيض فيما يتعلق بتحديد الهجرة والعدول عن الوطن القومي، وهؤلاء اليهود يجيئون من بلاد لا تضطهدهم ولا تسومهم شيئاً من العذاب أو الظلم وإنما يُجمعون ويُرسلون إلى فلسطين ليقاوموا السياسة الجديدة كما صرح زعماء اليهود بذلك

وأنا أعلم أن الجنرال نوري السعيد باشا رئيس الوزارة العراقية هدد في لندن بسوء العاقبة إذا لم تعمل بريطانيا على إنصاف عرب فلسطين، وكان لوعيده هذا أثره يومئذ في المؤتمر

ولكن على الرغم من تعاون البلاد العربية في المؤتمر ودخولها فيه وخروجها منه كتلة واحدة، وعلى الرغم من تهديد نوري باشا لم يفز العرب بأكثر من خمسين في المائة من مطالبهم العادلة وحتى هذا القدر يمحوه التهريب اليهودي الآن

ودع فلسطين وانتقل إلى سوريا وانظر ما حل بها

هذه فرنسا عقدت معها معاهدة صداقة وتحالف على مثال المعاهدة العراقية البريطانية، وما نظن أن أحداً سيدعي أن فرنسا أُرغمت على ذلك أو أن سوريا أملتها عليها بحد السيف، ومع ذلك راحت تماطل في إبرامها ثم نقضت سياسة المعاهدة جملة وتفصيلاً وقضت على الحكم الدستوري وقطعت البلاد إرباً، وزادت فاقتطعت الإسكندرون وتفضلت فأهدتها إلى تركيا. وليس ما صنعته ألمانيا بتشيكوسلوفكا بشر مما صنعت فرنسا، فما كانت تشيكوسلوفاكيا أمانة في عنق ألمانيا وإنما كانت شوكة في جنبها وضعتها هناك سياسة فرنسا - وليس هذا دفاعاً عن ألمانيا وإنما هو الحق. وإذا كان المرء لا يجد ما يصلح أن يكون دفاعاً عن ألمانيا في هذا الباب على الرغم من الحقائق المعروفة فأي دفاع يمكن أن يكون هناك عن فعلة فرنسا في سوريا من إهدائها الإسكندرون إلى تركيا، وتقسيمها ما بقى من البلاد السورية إلى محافظات مستقلة إدارياً وقضائياً ومالياً وحكمها جميعاً حكماً مباشراً، وإهمال المعاهدة التي عقدت في سنة 1936؟ والشعب السوري من أسبق الشعوب إلى اعتناق الفكرة العربية والدعوة إلى الوحدة ومن أرقاها وأخلقها بالحياة الحرة.

وإذا كانت سوريا لا تستحق الاستقلال فلا ندري من ذا يستحقه؟

وإذا كانت سوريا التي احتمل رجالها أثقل أعباء الثورة العربية في إبان الحرب الكبرى والتي كانت ولا تزال إلى هذه الساعة على الرغم من محنتها أقوى مؤيد للحركات الاستقلالية في كل بلد عربي - تقابل نكبتها بمثل هذا الفتور، ولا أحب أن أقول الجحود، فلا أدري أية أمة أخرى أولى بالمعاونة والنجدة؟

أنا أعرف كما قلت أن هناك حلفاً عربياً بين العراق والدولة العربية السعودية واليمن، ولكني أستأذن صديقي الأستاذ روفائيل بطي صاحب (البلاد) البغدادية في أن أقول إن هذا الحلف لا يمكن أن يؤتي الثمرة المرجوة منه ما بقيت فلسطين وسوريا ترسفان في الأغلال، فإن هذين البلدين هما قلب البلاد العربية

إن البلد العربي الوحيد الذي يسعه أن يدخل في الحلف العربي الآن هو مصر ولكن دخولها فيه لا يوجد معدوماً، ولا يضيف ناقصاً، ولا يزيد شيئاً على علاقات الود والتعاون بين مصر وبلاد الحلف (العراق والمملكة العربية السعودية واليمن) وإنما الذي يكسب الحلف وزناً جديداً وقيمة عملية من العسير أن تتيسر له الآن هو استقلال فلسطين وسوريا ودخولهما في الحلف وبذلك تصبح البلاد العربية (إلى آخر حدود مصر الغربية) كتلة واحدة حقيقية في وسعها أن تتعاون على مواجهة الطوارئ وملاقاة الأحداث ودفع الأخطار. وليس ذلك لأن سوريا وفلسطين أكثر عدداً أو أوفر مالاً أو أقدر أو أكفأ بل لأن بقاء هذه البلاد خاضعة لسلطان دول أجنبية يشطر البلاد العربية شطرين ويجعل التعاون العملي بين الشطرين متعذراً ويحول دون القيمة التي يسهل أن تستفاد من اتصال الحدود وزوال الفواصل والعوائق

وإلى أن يتم استقلال سوريا وفلسطين لا يجوز الاكتفاء بالقول أن الحلف العربي موجود وقائم وأن بابه مفتوح لمن يريد الدخول فيه فما يتغير شيء حقيقي بدخول مصر فيه قبل استقلال سوريا وفلسطين. وإلى هذا ينبغي أن يتجه السعي قبل كل شيء. وما أظن إلا أن إخواني في العراق يقرون هذا الرأي.

إبراهيم عبد القادر المازني