مجلة الرسالة/العدد 320/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 320/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
لا يريد الأستاذ أحمد أمين أن يفهم أن النقد من علائم الصداقة للحقائق وليس من علائم العداوة للأشخاص، ولا يريد أن يفهم أن ما بيننا وبينه من صداقة لا يجب أن يتعرض للزوال بسبب هذه المقالات التي فرضها الضمير والواجب، وكان خليقاً بأن يفهم وحي الضمير والواجب
ولو قد فهم هذه البديهيات لما استباح لنفسه أن يقول:
(كل الصلات بيننا مفقودة، فلا صلة بين الأستاذ وطلبته إلا الدرس، ولا بين الأديب وقرائه ألا صلة القراءة إن كانت، ولا صلة بين الأدباء أنفسهم إلا صلة السباب، فإن لم يكن سباب فرياء. . .)
وهذه الكلمات تدل على أن صديقنا أحمد أمين قد ضاق ذرعاً بدنياه منذ اليوم الذي رأى فيه لأول مرة توضع منزلته الأدبية في الميزان
فالأساتذة عنده قد انقطع ما بينهم وبين تلاميذهم، والكتاب قد انفصم ما بينهم وبين قرائهم، أما الأدباء فيما بينهم فيتعاملون على أساسين اثنين: السباب والرياء
وكذلك يرانا من السبابين، ويرى أصحابه من المرائين!
والأستاذ أحمد أمين متشائم إلى أبعد الحدود. ولو شئت لنبهته إلى خطأ هذا التشاؤم فأكدت له أن الأدباء عندنا أحسن حالاً مما يتوهم، فقد كتب إلى كثير من أصدقائه وتلاميذه يرجونني أن أترفق في النقد، وشهد ناس بأنه كان حسن النية فيما كتب عن الأدب العربي، ولم يكن إلا مجتهداً خانه التوفيق، وللمجتهد أجرُ حين يخطئ وأجران حين يصيب
وقد هممت بالتجاوز عن جناية هذا الصديق على الأدب العربي بقية هذا الصيف في هدوء وأمان، وليجد الفرصة لمناجاة (بحر العرب) وهو يقتعد صخرة المكس، ولكني تذكرت أن هذه المقالات لا تخلو من فوائد أدبية، وتذكرت أنه على كل حال من طلاّب الحقائق، وطالب الحقيقة قد يشرب من أجلها العلقم والصاب
وأرجع إلى حديث اليوم فأقول: إن الأستاذ أحمد أمين يرى أن ابن خفاجة لم يتذوق الطبيعة وإن اشتهر بوصف الطبيعة
وليس من المستغرَب أن يقف أحمد أمين من ابن خفاجة حيثُ وقف، لا يتذوق الشعر إلا في النادر القليل فكل أديب في الدنيا حدثته نفسه بأن ينظم من الشعر بيتاً أو بيتين، حتى الدكتور طه حسين، فقد كان له في مطلع حياته غرامُ بصوغ القريض، وسنعرض للمجهول من حياته الشعرية بعد حين أما أحمد أمين فلم يفكر يوماً في نظم الشعر
والواقع أن عظماء الكتّاب في جميع البلاد كانت لهم نزعات شعرية، لأن للشعر مزية قوية في تكوين الأسلوب، وهو الذي
يروض الكاتب على خلق الصور والإحساس بالرنين
والكاتب الحق هو الذي يعاني من المكاره ما يعانيه الشاعر، وقد أخطأ أبو هلال حين توهم أن النثر كلام غير منظوم، مع أن أبا هلال كان من أهل البصر بأسرار البيان
مالي ولهذا؟
أنا أريد أن أنصف ابن خفاجة الذي ظلمه الأستاذ أحمد أمين
كان ابن خفاجة يسمّى (اُلجنّان) وهي تسميةُ تشهد لأسلافنا بسلامة الذوق. وكان يسمّى (صنوبريّ الأندلس)
كان ابن خفاجة جَناناً، لأنه قضي دهرا في وصف الرياض والبساتين، وكانت جنته هي الأندلس وقد فضلها على جنة الخُلد، ومن أجل ذلك اتهمه بعض معاصريه بالمروق حين قال:
يا أهل أندلسٍ لله دَرُّكم ... ماءٌ وظلٌّ وأشجارٌ وانهارُ
ما جنّة الخُلد إلا في دياركُم ... ولو تخيرت هذى كنت أختارُ
لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقراً ... فليس تُدخَل بعد الجنة النارُ
والحق أن ابن خفاجة فُتِن بمناظر بلاده أشد الفتون، فكان يترصد الفرص لوصف ما ترى العيون أو تحسُّ القلوب بتلك البلاد
وكان شعره ونثره قيثارة تجود بأعذب الألحان في وصف الأشجار والأزهار والأنهار والسواقي والسحائب والبروق
وقد ظل ابن خفاجة مفتوناً بوصف الطبيعة نحو خمسين سنة فهل يسوغ لإنسان أن يقول بأنه لم يتذوق الطبيعة في كل ذلك الأمد الطويل وهو يتغنى بها صباحَ مساء؟
وكيف وكان ابن خفاجة مُرهف الإحساس إلى حدّ الخيال؟
إن ابن خفاجة هو الشاعر الذي تفرّد بالحنان إلى الطبيعة في جميع المناحي الشعرية، حتى في قصائد الرثاء، فكيف يجوز القول بأنه وصف الطبيعة بلا وعي ولا إحساس؟
يضاف إلى ذلك أن ابن خفاجة عُرف بين معاصريه بالزهد في مدح الملوك والترفع عن جوائزهم السنيّة، في زمن كان فيه المديح مذهباً لا يغضّ من أقدار الشعراء، ولا يعرّضهم لسفاهة القيل والقال، فاتسع وقته لمناجاة عرائس الشعر في هدوء وصفاء
إن ابن خفاجة صاحب مذهب في الشعر العربي، ومنزلته في وصف الرياض لا تقلّ عن منزلة أبي نواس في الخمريات والشريف الرضي في الحجازيات
ومن الذي ينكر قيمة الشاعر الذي يقول:
لله نهرٌ سال في بطحاءِ ... أشهى وُروداً من لَمَى الحسناءِ
متعطفٌ مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجرُّ سماءِ
قد رقّ حتى ظُنَّ قرصاً مُفرغا ... من فضةٍ في بُرودةٍ خضراءِ
وغدتْ تحف به الغصون كأنها ... هدبٌ تحفّ بمقلةٍ زرقاءِ
ولطالما عاطيتُ فيه مدامة ... صفراَء تخضب أيديَ الندماءِ
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لُجين الماءِ
وكيف يتهم في وصف الطبيعة من يقول:
حثَّ المدامة والنسيم عليلُ ... والظل خفَّاقُ الرواق ظليلُ
والنَّور طرفٌ قد تنبه دامعٌ ... والماء مبتسمٌ يروق صقيلُ
وتطلعتْ من برق كل غمامةٍ ... في كل أفقٍ رايةٌ ورعيلُ
حتى تهادى كل خوطة أيكةٍ ... ريّا وغصَّتْ تلعةٌ ومسيلُ
فالروض مهتز المعاطف نعمةً ... نشوان يعطفه الصبا فيميلُ
ريّان فضّضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفيحته أصيلُ
وارتد ينظر في نقاب غمامة ... طرفٌ يمرِّضه النعاس كليلُ
ساجٍ كما يرنو إلى عوَّاده ... شاكٍ ويلتمح العزيزَ ذليلُ وهذا شعرٌ يفسده الشرح والتفسير والتحليلُ
وهل تحتاج محاسن هذه الأبيات إلى من يقيم عليها الدليل؟
ومن الذي ينكر فراهة الفتون في الأبيات الآتية:
وأغيد في صدر الندىّ لحسنهِ ... حلىٌّ وفي صدر القصيد نسيبُ
من الهِيف أما ردفه فمنَّعمٌ ... خصيبٌ وأما خصره فجديبُ
يرفَّ بروض الحسن من نور وجهه ... وقامته نُوّارةٌ وقضيبُ
جلالها وقد غنّى الحمام عشيّةً ... عجوزاً عليها للحَباب مشيبُ
وجاء بها حمراء، أما مزاجُها ... فماءٌ، وأما ملؤها فلهيبُ
على لجة ترتجُّ، أما حَبَابُها ... فنوْرٌ، وأما موُجها فكثيبُ
تجافتْ بها عنا الحوادث برهةً ... وقد ساعدتنا قهوةٌ وحبيبُ
وغازلنا جفنٌ هناك كنرجسٍ ... ومبتسمٌ للأقحوان شنيبُ
فلله ذيلٌ للتصابي سحبتهُ ... وعيشٌ بأطرافِ الشباب رطيبُ
أرأيت كيف فَنىَ الشاعر في الطبيعة فجعلها أصل الحسن والفتون؟
أرأيت كيف غَرِق هذا الشاعر في بحار الصباحة والملاحة، وكيف رأى الزهر والماء أصلاً لكل مليح وجميل؟
وما رأى الأستاذ في الأبيات الآتية:
وصقيل إفرند الشباب بطرفهِ ... سقمٌ وللعضب الحسام ذُبابُ
يمشي الهوينا نخوةً ولربما ... أَطَرْته طوراً نشوةٌ وشبابُ
شتى المحاسن، للوضاءةِ ريطة ... أبداً عليه، وللحياء نقابُ
وبمعطفيه للشبيبة منهلٌ ... قد شف عنه من القميص سرابُ
عَبَر الخليج سباحةً فكأنما ... أهوى فشقّ به السماء شهابُ
لقد احتللت بشاطئيه يهزني ... طرباً شباب راقني وشرابُ
وانساب بي نهر يعب وزورق ... فتحملتني عقرب وحُبابُ
وركبت دجلته يضاحكني بها ... فرحاً حبيب شاقني وحَبابُ
نجلو من الدنيا عروساً بيننا ... حسناء ترشف والمدام رُضابُ ثم ارتحلتُ وللسماء ذؤابةٌ ... شهباء تخضب والظلام خضابُ
تلوي معاطفي الصبابة والصبا ... والليل دون الكاشحين حجابُ
حيث استقل الجسر فوق زوارق ... نسقت كما تتواكب الأحبابُ
فهل فكر صديقنا أحمد أمين في وصف السباحة وقد سبقه إليها ابن خفاجة بنحو تسعة قرون؟
إن الذي عجز عن وصف الطبيعة هو الذي يصطاف بالإسكندرية كل سنة ولم يفتح الله عليه بغير القول بأنه جلس على صخرة المكس ليأكل السمك المياس، وليفكر في مصير الشمس بعد الغروب، وليقول إنه تحاور مع هيان بن بيان!!
يقول أحمد أمين إن أبن خفاجة لم يتذوق الطبيعة، فهل استمع إليه حين يقول:
ربما استضحك الحَباب حبيبٌ ... نفضت ثوبها عليه المدامُ
كلما مرَّ قاصراً من خُطاه ... يتهادى كما يمرّ الغمامُ
سلم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب سلامُ
وهل أستمع إليه حين يقول:
أبى البرق إلا أن يحن فؤاد ... ويكحل أجفان المحب سهاد
فبت ولي من قانئ الدمع قهوة ... تدار، ومن إحدى يدي وساد
تنوح لي الورقاء وهي خلية ... وينهل دمع المزن وهو جماد
وليلٍ كما مدَّ الغراب جناحه ... وسال على وجه السجل مداد
به من وميض البرق والليل فحمة ... شرارٌ ترامى والغمام زناد
سريتُ به أُحييه لا حْية السُّرى ... تموت ولا ميْتُ الصباح يعاد
يقلب مني العزم إنسان مُقلةٍ ... لها الأفق جفنٌ والظلام سواد
بخرقٍ لقلب البرق خفقة روعة ... به ولجفن النجم فيه سهاد
سحيقٌ ولا غير الرياح ركائبٌ ... هناك ولا غير الغمام مزاد
كأني وأحشاء البلاد تجنني ... سريرةُ حبّ والظلام فؤاد
ولما تفرَّى من دجى الليل طحلبٌ ... وأعرض من ماء الصباح ثماد
حننت وقد ناح الحمام صبابةً ... وشُقَّ من الليل البهيم حداد على حين شطَّتْ بالحبائب نيَّةٌ ... وحالتْ فياف بيننا وبلاد
ومن مزايا ابن خفاجة أنه يتمثل الطبيعة في حركة وحياة، فيراها ترضى وتغضب،
وتضحك وتعبس، كأن يقول:
عاط أخلاّءك المداما ... واستسق للأيكة الغماما
وراقص الغصن وهو رطبٌ ... يقْطرُ أو طارح الحماما
وقد تهادى بها نسيمٌ ... حيَّتْ سليمى بها سلاما
فتلك أفنانها نشاوى ... تشرب أكوابها قياما
وكأن يقول:
ألقي العصا في حيث يعثُر بالحصى ... نهرٌ وتعبث بالغصون شمالُ
وكأن ما بين الغصون تنازُعٌ ... فيه وما بين المياه جدالُ
وكأن يقول:
أخذ الربيع عليه كل ثنيةٍ ... فبكل مرقبةٍ لواءٌ شقيق
فهو في هذه الأشعار يمنح الطبيعة من الحياة والحركة ما يماثل شمائل الأحياء
وأريد أن أقول إن الطبيعة في نفس ابن خفاجة لها عزيمة وإرادة وقدرة وعبقرية، فهي تصنع ما تصنع عن نظرٍ ثاقب وقلبٍ مشبوب، هي نفس حساسة، تشعر وتُدرك، وتُفيض البؤس والنعيم على الأحياء بإرادة وعزم وإحساس
وقد وقع في كلام الشعراء ما يشابه هذه المعاني، ولكن ابن خفاجة أكثر منها إكثاراً مّيزه بالتفوق والتفرد، فهو أوحد الناس في بابه بلا جدال
وكان ابن خفاجة يُقسم بما في الطبيعة من أنهار ورياض وأزهار وأنداء ومباسم وعيون، فيقول:
أَما والتفات الروض من أزرق النهر ... وإشراق جيد الغصن في حِلْية الدهر
وقد نَسَمتْ ريح النعامى فتنبَّهتْ ... عيون الندامى تحت ريحانة الفجر
وهي قصيدة طويلة امتزجت فيها نفس الشاعر بأسرار الطبيعة أشدَّ امتزاج
والطبيعة تواجه ابن خفاجة حيثما تلفَّت، فهو يراها في كل مكان، وانظر كيف يقول:
يا رُبَّ ليلٍ بِتُّهُ ... وكأنه من وَحفِ شَعرك تنهلُّ مزنة دمعتي ... فيه ويندَى نور ذكركْ
أتبعتُ فيه وقد بك ... يت عقيق خدك دُرَّ ثغرك
وشرِقتُ فيك بعبرةٍ ... قد ورَّدتها نار هجرك
فكأنما ينفضّ عن ... حَبَبٍ لها رمان صدرك
ولَرُبَّ ليل قد صد ... عْت ظلامه بجبين بدرك
ولهوتُ فيه بدُرَّةٍ ... مكنونةٍ في حُقِّ خِدرك
تَنْدى شقائق وجنت ... يك به وتَنْفَحُ ريح نَشرك
وقد استدار بصفحتْي ... سوسانِ جيدك طَلَّ درَّك
حيث الحبابة دمعةٌ ... تجري بوجنة كأس خمرك
وتهزُّ منك فتنثني ... بقضيب قدِّك ريح سكرك
وهو في هذه القصيدة يخلع محاسن الطبيعة على الملاح، وقد يخلع محاسن الملاح على الطبيعة فيقول:
وكمامة حدر الصباح قناعها ... عن صفحة تندى من الأزهار
في أبطحٍ رضعت ثغور أقاحهِ ... أخلاف كل غمامةٍ مدرارِ
نثرتْ بحجر الأرض فيه يد الصَّبا ... دُرر الندى ودراهم النُّوار
وقد ارتدى غصن النقا وتقلدت ... حَلْىَ السحاب سوالف الأنهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك ... جَذِل وحيث الشط بدء عذار
والريح تَنفُض بكرة لِممَ الرُّبا ... والطَلُّ ينضحُ أوجه الأشجار
وأراكةٍ سجع الهديل بفرعها ... والصبحُ يسفر عن جبين نهار
هزَّت له أعطافها ولربما=خلعتْ عليه مُلاءة الأنوار
وهذا واللُّه أنفس ما قيل في اتصال الأحاسيس بغرائب الوجود وأشعار ابن خفاجه تشهد بأنه كان يحتفل بالمعاني كل الاحتفال وكان يرى شعره نفحة من نفحات الجمال، كأنْ يقول:
تعلقته نشوان من خمر ريقهِ=له رشفها دوني ولي دونه السكر
نرقرق ماء ووجهه ... ويُذْكى على قلبي ووجنته الجمر وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنما ... له منطقي ثغر، ولي ثغره شِعر
وقد توجُّع ابن خفاجة لضياع الشباب أشد التوجع ورأى في ملاحة الطبيعة عزاء عما ضاع من سماحة الملاح، فقال:
وكل امرئ طاشت به غرة الصِّبا ... إذا ما تحلى بالمشيب تحلَّما
فها أنا ألقي كل ليل بليلَةٍ ... من الهم يستجري من الدمع أنجما
وأركب أرداف الرُّبا متأسفاً ... فأنشق أنفاس الصبا متنسِّما
وأرشف نثر الطل من كل وردةٍ ... مكان بياض الثغر من حوَّة اللًّمى
وهو بهذه الأبيات يجعل الجمال الإنساني أجمل ما في الطبيعة من ألوان، وهي نظرة سليمة لا ينكرها غير الذين يرون الشجرة والزهرة أصلاً لكل جَمال
وكان ابن خفاجة في أيام توجعه على صباه يتمنى لو يعرف مصير النفس بعد الموت، كأن يقول في رثاء بعض الأصدقاء:
كنا اصطحبنا والتشاكلُ نسبةٌ ... حتى كأنا عاتقٌ ونجادُ
ثم افترقنا لا لعودة صحبة ... حتى كأنا شعلة وزناد
يا أيها النائي ولست بمسمع ... سَكَن القبور وبيننا أسداد
ما تفعل النفس النفيسة عندما ... تتهاجر الأرواح والأجساد
كُشِف الغطاء إليك عن سر الردى ... فأجبْ بما تندى به الأكباد
وهي لفتةُ فلسفية لاذ بها شاعرنا شوقي في أكثر قصائد الرثاء
أما بعد فقد كنا نحب أن نذكر شواهد من نثر ابن خفاجة تمثَل هُيامه بالطبيعة والوجود، ولكنا رأينا الدكتور ضيف سبقنا إلى ذلك في كتابه (بلاغة العرب في الأندلس) ونحن نبغض الحديث المعاد
وما الذي يوجب أن نلحّ في شرح مذهب ابن خفاجة وهو معروف لجميع الناس؟ لقد أردنا أن ننتهز الفرصة فنمتع أنفسنا بالنظر في ديوان ابن خفاجة من جديد، ونذكر به الشبان الذين شغلتهم عنه ملاهي العصر الحديث
ويدعوني الواجب في ختام هذا المقال إلى الثناء على أديبين فاضلين يهتمان بديوان ابن خفاجة ويعدان له دراسة أدبية تحفظ مكانه في التاريخ. أما الأديب الأول فهو عزيز عبد السلام فهمي. وأما الأديب الثاني فهو جاسم محمد الرجب؛ وأولهما صديق عرفته بكلية الآداب في القاهرة، وثانيهما صديق عرفته بدار المعلمين في بغداد
فمتى تظهر جهود هذين الأديبين في إحياء ذلك الديوان؟
لقد ظهر ديوان ابن خفاجة بالقاهرة منذ اثنتين وسبعين سنة، فكيف جاز ألا يطبع مرة ثانية بعد ذلك الأمد الطويل العريض؟
إن اللغة العربية لغة حية وقراؤها يشارفون المائة مليون، فكيف زهدت تلك الملايين في ذلك الشعر النفيس؟!
إن ديوان ابن خفاجة وصل إلى أقصى بقاع الشرق الإسلامي قبل ظهور المطابع، فكيف يحجب اليوم بعد الانتفاع بالمطبعة السريعة والبريد المضمون؟
ومن أعجب العجب أن يتولى تزهيد العرب في آثار أسلافهم رجل تعرفه كلية الآداب التي توجب على أبنائها أن يتعرفوا إلى آثار القدماء من الرومان واليونان!
ولكن صبراً فستهتدي كلية الآداب بعد حين، وسترجع إلى سيرتها الماضية يوم كانت مثابة القلوب والعقول.
(للحديث شجون)
زكي مبارك