مجلة الرسالة/العدد 321/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

مجلة الرسالة/العدد 321/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1939



الثقافة العامة وتعليم اللاتينية واليونانية

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

(تتمة)

قد يخطر على بال الإنسان أن يتساءل عندما يلقي نظرة عامة على هذه الأطوار المتتالية: هل تقف يا ترى سلسلة هذه التطورات عند الحد الذي وصلت إليه أخيراً؟ أم ستستمر بعد الآن أيضاً؟ هل يجوز لنا أن نقول إن التطور الأخير سيكون خاتمة الأطوار؟ أم يجب علينا أن نتوقع حدوث تطورات أخرى بعد الآن أيضاً؟. . .

أنا لا أرى لزوماً للتنبؤ عن مستقبل هذه التطورات، لأنني اعتقد أن ما عرفناه عن التي حدثت إلى الآن كافٍ لتوضيح وحل المسالة التي من أجلها خضنا غمار هذا البحث. . . مع هذا أرى من المفيد أن انقل بعض الكلمات التي قرأتها أخيراً - في هذا الصدد - في إحدى المجلات التربوية:

(لقد فرقت بين الإنسانيات القديمة والمجتمعات الحالية هوة خطيرة لا تزال تزداد عمقاً وعرضاً، يوماً فيوماً. . . إن دور الإنسانيات المذكورة قد انتهى، ولم يعد في استطاعتها أن تدعي حق البقاء كمنبع للثقافة العصرية. . . إنها لا تعيش الآن إلا عيشة اصطناعية؛ فقد فقدت كل ما كان لها من قوة وحياة. . .)

كذلك أرى من الممتع أن اذكر ما كان قاله (لابيه دوسان بيبر) في هذا الصدد:

(سيأتي يوم نفهم فيه: أن حاجتنا (يعني حاجة الفرنسيين) إلى تعلم اللغة اللاتينية، أقل من حاجتنا إلى تعلم اللغة المالائية أو تعلم اللغة العربية. . .)

إنني أعتقد أن الحقائق والوقائع التي سردتها آنفاً، حول مسالة تعلم اللاتينية واليونانية في الدراسة الثانوية في أوربا بوجه عام وفي فرنسا بشكل خاص، تعين لنا بكل وضوح الموقف الذي يجب أن يقفه مفكرو العرب حيال هذه المسالة بالنسبة إلى معارف البلاد العربية: لا شك في أن هذا الموقف يجب أن يكون موقف الرفض والأعراض. . .

يجب علينا أن نتذكر - في هذا الصدد - الحقائق التالية على الدوام: إن تعليم اللاتينية واليونانية في أوروبا لم يشغل الموقع الذي شغله في نظم الدراسة بناء على تأملات وملاحظات تربيوية؛ إنما شغل هذا الموقع تحت تأثير عوامل ووقائع تاريخية كلها خارجة عن نطاق الفوائد التربيوية. . . وأما الفوائد التعليمية والتربوية التي ذكرت فيما بعد لتبرير الحالة الراهنة - بغية إبقاء ما كان على ما كان - فلم تستطع أن تقاوم المحاكمات المنطقية والأبحاث العلمية مدة طويلة. . . ولهذا أخذ نطاق هذا التعليم يتقلص من جميع الجهات تقلصاً مستمراً؛ ولم يعد يمتد الآن إلا على جزء صغير من ساحة الدراسة الثانوية. . . كما أن بقاء هذا التعليم في هذه الساحة الأخيرة أيضاً لا يمكن أن يعلل ويبرر إلا بقوة الاعتياد والاستمرار من جهة وبرابطة الأدب واللغة من جهة أخرى

وأما فكرة اعتبار اللاتينية (واسطة ضرورية لتثقيف العقول) فهي من النظريات التي ثبت خطؤها كل الثبوت: إذ قد أصبح من المسلم في علم التربية أنة لا يوجد موضوع مدرسي (مثقف) في حد ذاته كما أنه لا يوجد موضوع مدرسي يحتكر قابلية التثقيف لنفسه. . . وأما (التأثير التثقيفي) الذي يحصل من الدروس فلا يتبع الموضوع الذي يدرس، وإنما يتبع الطريقة التي يتم بها التدريس. . . فعندما نود أن نجعل (الثقافة) هدفنا الأسمى في الدراسة الثانوية يجب علينا أن نعلم حق العلم أن الوصول إلى هذا الهدف، لا يتم إلا بالبحث عن أوفق (طرق التدريس) لضمان التثقيف والسير على تلك الطرق على الدوام. وأما إضافة لغة أو لغتين من اللغات الميتة إلى مناهج الدراسة، فلا يمكن أن يضمن لنا شيئاً من أهداف التثقيف بوجه من الوجوه

فليس من المعقول - والحالة هذه - أن نضيع أوقات طلابنا في المدارس الثانوية في سبيل تعليم اللاتينية واليونانية

هذا. . . ولا بد لنا من ملاحظة الحقائق الهامة التالية أيضاً في هذا الصدد:

(ا) إن تعليم اللغة العربية يستنفذ من أوقات وجهود أبنائها أكثر من الأوقات والجهود التي تتطلبها اللغات الأخرى من أبناء الناطقين بها؛ وذلك لزيادة تعقيد قواعد العربية من جهة وللنقائض السائدة على أساليب تدوينها من جهة أخرى

(ب) إن حاجة أبناء العربية إلى تعلم اللغات الحية اشد من حاجة الأمم الأوربية الراقية إلى تعلم تلك اللغات؛ وذلك لفقر خزانة الكتب العربية من جهة المؤلفات العلمية والأدبية (ج) إن تعليم اللغات الأوربية الحية يتطلب من الناطقين بالضاد جهوداً أكبر من الجهود التي يتطلبها من سائر الطلاب الأوربيين؛ وذلك لاختلاف الحروف من جهة وتباعد الأصول والقواعد والأساليب من جهة أخرى

ولهذه الأسباب إذا جاز للأوربيين أن يسرقوا قسما من أوقات بعض أبنائهم في سبيل تعليم اللغة اللاتينية - بأمل الحصول على بعض الفوائد ولو كانت ضئيلة - فلا يجوز لنا نحن أن نقتدي بهم في هذا الباب

وإذا جاز للأوربيين أن يخيروا أولادهم بين دراسة اللغات الميتة ودراسة اللغات الحية، فلا يجوز لنا نحن أن نفكر في مثل هذا التخيير

إذاً يجب علينا أن نتذكر دائماً أننا في حاجة قصوى للاقتصاد في أوقات طلابنا وجهودهم لكثرة الأشياء التي يحتاجون إلى تعلمها ولزيادة الأوقات التي يحتاجون إليها لأجل هذا التعليم

هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب علينا أن نفكر في أمر أخر أهم من ذلك أيضاً: هذا الأمر هو ضرورة الاهتمام بمعالجة النزعة الكلامية على أفكارنا. . . إننا كثيراً ما نهتم بالألفاظ اهتماماً كبيراً، وقلما نسعى لتحديد معانيها تحديداً كافياً. . . وكثيراً ما ننخدع بالكلمات الفارغة، ونترك مجالاً واسعاً لتغلب الكلاميات على مناحي تفكيرنا. . فلا نغالي إذا قلنا بأننا مصابون - على الأكثر - بداء الكلاميات. . . إن أوربا أيضاً كانت مبتلاة بمثل هذا الداء؛ وقد صرف مفكروها ومربوها جهوداً عظيمة لمحاربة هذه النزاعات الكلامية، وتغليب روح التفكير الحقيقي ونزعة البحث العلمي عليها. . . ونحن الآن في حاجة شديدة إلى الاقتداء بهؤلاء في هذا المضمار. وأعتقد أن هذه الحقيقة يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام عندما نفكر في وسائل ترقية ثقافتنا. . .

إنني أعتبر فكرة إدخال اللاتينية واليونانية في مناهج الدراسة الثانوية من الأفكار الخاطئة والمضرة من هذه الوجهة أيضاً لأنها تؤدي - بطبيعتها - إلى زيادة حصص اللغات في دراساتنا زيادة كبيرة، وذلك يزيدنا استغراقاً في الكلاميات ويبعدنا عن مناحي التفكير الصحيحة. . .

ولهذا الأسباب كلها أعارض هذه الفكرة معارضة شديدة هذا ولا أراني في حاجة إلى إيضاح أنني لا اقصد من هذه المعارضة أن أعترض على كل من يود أن يتعلم اليونانية واللاتينية بل بعكس ذلك أتمنى أن يظهر بيننا من يولع باليونانية ويتخصص في آدابها ويسعى لترجمة مخلداتها؛ كما أتمنى أن يظهر من يتعلم اللاتينية ومن يتعلم الروسية وحتى من يتعلم اليابانية، ليتسنى لنا الاستفادة من نتاج تفكير جميع الأمم على اختلاف ثقافاتها. . غير أن إبداء التمني لظهور بعض الاختصاصيين من أبناء العرب في الآداب اللاتينية واليونانية شي واعتبار تعلم هاتين اللغتين من ضرورات الدراسة العالية قي الحقوق والتاريخ والجغرافيا شي أخر. . .

فأقول لذلك: أننا إذا أدخلنا اللاتينية واليونانية إلى مدارسنا الثانوية يكون مثلنا كمثل الخياط الغبي الذي تناقلت قصته بعض الأقلام: بذل الخياط المذكور جهوداً كبيرة في خياطة (بنطلون) لبحار إنكليزي شبيهاً (ببنطلونه) القديم الذي كان سلمة إياه. وأتقن الخياطة إلى درجة تقليد الترقيع الذي به أيضاً!

بعد أن شرحت رأيي في مسألة تعليم اللاتينية واليونانية شرحاً عاماً أرجع إلى آراء الدكتور طه حسين فيها، وأبين ما أعتقده في هذه الآراء على ضوء المعلومات التي سردتها:

إن أول ما يلفت الأنظار في ملاحظات الدكتور في هذا الباب، هو خلوها من الأدلة والبراهين، وتكونها من سلسلة دعاوى معروضة على شكل نصوص قاطعة يجب الاعتماد عليها بدون طلب برهان. كأن لسان حاله يقول على الدوام: (آمنت أنا، فعليكم أن تؤمنوا أنتم أيضاً)

فأنه عندما يذكر إيمانه العميق بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة المصرية يقول: (والأدلة على ذلك تظهر لي يسيرة هينة وجلية واضحة) (ص281) ولكنه لا يذكر شيئاً عن تلك الأدلة. فكل ما يكتبه بعد العبارة المذكورة لا يخرج عن نطاق بيان (جهل) معارضيه و (نقص دراساتهم) و (عدم إتقانهم الشؤون الثقافية في أوربا) و (عدم نظرهم إلى التعليم نظر التعمق والجد. . .) وما أشبه ذلك من تعبيرات التجهيل والازدراء

إنه عندما يتطرق إلى مسألة (تأثير هاتين اللغتين في تكوين العقل) تلك المسألة الهامة التي تكون حجر الزاوية في دعاوى أنصار اللغات القديمة لا يكلف نفسه مشقة شرح المسألة، لأنه يعتقد أن ذلك فوق مستوى فهم معارضيه! ويسجل اعتقاده هذا بصراحة كبيرة إذ يقول: (كل هذا ولم أتحدث ولن أتحدث عن أثر هاتين اللغتين في تكوين العقل وتقويمه وتثقيفه وإعداده للتفكير المستقيم فإن هذا الحديث إن ذهبت إليه لم يفهم عني، لأن فهمه يقتضي معرفة هاتين اللغتين وممارستهما وابتلاء آثار هذه المعرفة والممارسة، والذين يعرفون هاتين اللغتين في مصر يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة أو على أصابع اليدين) (ص297)

وأخيراً عندما يتطرق الدكتور إلى الحالة الراهنة في أوربا ويشير إلى الخصومة القائمة بين أنصار اللغات القديمة وخصومها، يتهم معارضيه (بالإلمام اليسير، بل بالإلمام الناقص المشوه) بهذه الخصومة (ص285) ثم يحاول أن يصف هذه الخصومة (على وجهها الصحيح). غير أن من يقارن بين ما يقوله الدكتور في هذا الباب وبين التفصيلات التي سردناها آنفاً، يرى أن (الوجه) المذكور بعيد عن الصحة بعداً كبيراً. . .

يقول الدكتور طه حسين: (إن موضوع هذه الخصومة لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة) (ص285) في حين أن المؤلفات والمجلات التربيوية مملوءة بمباحث ومناقشات طويلة عن ضرورة أو عدم ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة

يقول الدكتور: (كان موضوع الخصومة في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعاً للعلم والتخصص، أم يجب أن يهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص ويهيأ أكثرهم للحياة العاملة؟) (ص285) في حين إن ذلك أيضاً بعيد عن حقائق الأمور بعداً كبيراً. . .

يقول الدكتور: (إن الخصومة حول تعليم اللاتينية واليونانية قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى) (ص284) في حين إن الخصومة كانت قائمة في عالم الفكر والتربية قبل إن تنتقل إلى ساحة السياسة بمدة طويلة. . .

وقد أسهبت أنفاً في تلخيص المناقشات التي دارت في أوربا حول هذه المسالة، فلا أرى حاجة للتوسع في تفنيد مدعيات الدكتور طه حسين في هذا الباب

أود إن اختم انتقاداتي هذه بملاحظة صغيرة: عندما يشرح الدكتور النظام الذي يقترحه لترقية الدراسة الثانوية يقول: (وكل من أراد إن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الأدبية المختلفة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب الخالصة لإحدى اللغات فرضت عليه اللغة اللاتينية ولغة أجنبية حية وخيرته بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) (ص301) وإذا لاحظنا أن الطالب المذكور سيدرس - بطبيعة الحال - اللغة العربية وآدابها أيضاً؛ نجد أنه سيتحتم عليه درس أربع لغات مختلفة على إن تكون الواحدة منها اللاتينية على كل حال. .

إنني اعتقد بان إشغال الطلاب - خلال دراستهم الثانوية - بهذا القدر من اللغويات لا يهيئهم إلى الدراسات المذكورة، بل يجعلهم اقل قابلية لاستساغتها بالمعنى الذي يفهم الآن في دراسة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا

أبو خلدون