مجلة الرسالة/العدد 322/بائعة (الكازوزة) الحسناء
مجلة الرسالة/العدد 322/بائعة (الكازوزة) الحسناء
للأستاذ علي الجندي
تتردد على جسر الخديو إسماعيل وما جاوره من شواطئ النيل، فتاة في زي القرويات سمعت من يدعوها (هند) يجلس بجوارها في أغلب الأحيان رجل أحسبه يمت إليه بصلة القرابة، ولعل مهمته الأولى أن يحرسها من ذئاب البشر الضارية
هذه الفتاة على حظ عظيم من جمال الفطرة البريء من الصنعة. وقد اعتادت إذا مر بها المتنزهون في ذهابهم وجيئهم أن تعرض عليهم بضاعتها في بشاشة ورقة وأدب
وحدث أنني كنت أرتاد هذه البقعة متفرجاً في بعض الليالي المقمرة، فمررت بها مصادفة - مصادفة يا وزارة المعارف - فابتسمت لي وقالت بصوت يقطر ليناً: تعال يا أمر (قمر) اشرب كازوزة. وقد منعني ما اصطنعه من وقار المربين من تناول شرابها المشعشع بالثلج، ولكنني استطعت أن أرد على التحية بأحسن منها!
وحاولت جاهداً أن أتخلص من تأثير كلمتها (يا أمر) فلم استطع! فقد خالطت مني اللحم والدم، وفعلت بي فعل السحر! كنت أظن - وبعض الظن إثم - أنني جاوزت مرحلة الشباب، فأعادت لي هذه الكلمة الثقة بنفسي وقلبي! وتركتني ألتفت إلى الماضي أستحضر صوره المحببة! ناثراً الدمع في دمن الأنس العافية، وأطلاله الدوارس!
ومخضوبةِ الأطراف، مُخْطَفة الحَشَا ... على الشَّطِّ تخطو في دلال وفي خَفَرْ
يميس بها سُكْرُ الشباب فتنثِني ... كغصنٍ زَهتْه الريحُ أو شادنٍ خَطَر
تكاد السباع المقعِيات حيالَه ... تخفُّ إليه - صابيات - مع البشر
جَلاها الجمال النضر في ثوب فاقةٍ ... وما حاجة الغيد الغواني إلى الحِبر؟
وهل عابها أن تَعْدَم الوَشْىَ والِحلَى ... وقد أطلعتْ من وجهها بُلجَةَ السَّحر؟
إذا هتفتْ بالظامئين تَهافتو ... عليها كنحل هاجها مونق الزهر
وما بهِمُو بردُ الشَّراب، وإنما ... نُفوسٌ تَوَافتْ من رَدَاهِا على قَدَر
إذا هي هَشَّتْ للوُرود، فإنها ... - وإن نِعمتْ بالرِّي - لا تحمَدُ الصَّدَر
عفا الله عنهم! إن شَفَوْا غُلَّةَ الصَّدى ... فَمَن لجوىً بين الجوانح يَسْتَعِر؟
تَرى الشَّرب حول الوِردَ شَتَّى، فلاحظٌ ... حُشاشته وجداً، وآخرُ ينتظر ومنْ صادرٍ عنه بمهجة والهٍ ... تكاد من الشوق المبرِّح تنفطر
مَرَرتُ بها - كالطيف - أسترق الخُطا ... أحاذِرُ أنْ أصبو، وهل ينفع الحذَر؟
فما راع سمعي غيرُ صوت مُنغَّمٍ ... يُخالُ - لفّرْطِ اللينِ - ترنيمةَ الوتَر
تقول - وبدرُ التَّم في الأفق سافرٌ ... يُفضِّض تِبْر النيل -: أيكما القمر؟
هَلُمَّ إلى راح طهُورٍ تُدِيرها ... عليك رَدَاحٌ زان أجفانَها الحَوَر
ستشربها صِرفاً، وإن شئتَ مزجها ... فدونك صْفوَ الشهد من ثغريَ العَطر
تألَّفتِ اللذاتُ: ماءٌ وخُضرةٌ ... ووجهٌ كصبحٍ تحت جُنحٍ من الشَّعر
وهذا النسيم الرَّطْبُ ينفَح بالشَّذا ... فيفعَل بالألباب ما يفعَل السَّكَر
فخُذْ بنصيب من هناء معجَّل ... فإن الليالي غيرُ مأمونة الغِيَر
فقلتُ لها: خلِّي التَّصابي لأهله ... فما للمُرَبَّي في جَني الحسن من وطر
إليكِ، فلي (بالضاد) شُغلٌ عن الصبا ... وفي الدين عن وصل الكواعب مُزدجرْ
دعيني، فما لي والهوى - قُتلَ الهوى -! ... ألم يكفِ ما حُمِّلتُ في زمن غَبَر؟
أُرِقتُ ونام الناس مِلَء جفونهم ... أبكي لظبي صَدَّ، أو جُؤذَرٍ نفَر
فمن ذاق منه الأعذَبين فإنني ... لقيتُ به التبريح والهم والسهر
فلا تنكئي قرحاً بقلب دملته ... على لوعة حرى، ووجد قد استدر
ألم تُبصري فودي تنفس صبحه ... وكان حبيباً - للدُّمى - ليله العكر
وما ذاك من مَرِّ السنين، وإنما ... لبستُ بياض الشيب في مَيْعة العُمُر
جناه على رأسي زمانٌ مُذمَّمٌ ... يشوب لنا صفو اللذائذ بالكدر
ربيع ولا خصب، وظل ولا ندىً ... وماء ولا ريّ، وروض ولا ثمر
شقائيَ أني بين قوميَ دُرّةً ... وقد خلقوا تعشى عيونهم الدرر
ولو أنهم هانوا عليَّ، وسَمْتُهمْ ... على الأنف، لكنْ مَن له شيمتي غفَر
أُشيد لهم مجداً ويأبَى سِفاههم ... سوى هدمه! هل يستوي النفع والضرر؟
تَواصَوْا على أكلي - وفي لحميَ الردى - ... وما في النًّهى أن تُؤكلَ الحيّة الذكر
تولّى زمان اللهو (يا هند) فاعذري ... وأقصرَ عما كان غَيّه (عُمَرْ)
كفتنا - على برْح الجوى - منك نظرة ... وفي دين أهل الشعر لا يَحْرُم النّظر سقى الغيثُ عهداً كم دعاني به الهوى ... فلبيتُ، لا أُعنَي بمن لامَ، أو عذَر
زمانَ فؤادي بالحسان مُوكلٌ ... إليهن أسعى بالأصائل والبُكر
شفيعي إليهن الصبا، ووسيلتي ... رَقائقُ أشعارٍ يلين لها الحجر
مرابع غِزلان تعفَّت، ولم تكن ... سوى مُتعة الآذان والقلب والبصر
نديمي بها (سُعْدَى) وريقتها الطلى ... وروحي وريحاني الأحاديث والسّمَر
كأنّ فؤادي يُسْعَر الجمرُ فوقهُ ... - إذا عادت الذكرى - ويوخز بالإبر
وحيّاك عنّا الله يا (هند) كلما ... تخطرتِ بالشطين، فاستضحك النهَر
ودام لك الوجهُ الصبيح، ولا ذَوَى ... عليك شبابٌ من صِبا (الخلد) مختصر
نظمنا لك الشعر النضير قلادةً ... ترف على رمانتي غصنك النضر
إذا ظفِرتْ حسناء منه بحلية ... فما ضر أن يغري بها البدو والحضر
علي الجندي