مجلة الرسالة/العدد 322/حركة السير ريالزم

مجلة الرسالة/العدد 322/حركة السير ريالزم

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 09 - 1939



للأستاذ رمسيس يونان

(يجب أن نحقق لكل إنسان نصيبه من الخبز. . . ونصيبه من

الشعر. . .)

تروتسكي

يخطئ من يظن أن حركة السير ريالزم هي حركة أدبية أو فنية خالصة، وإن كانت تستخدم الشعر والقصة والرسم والسينما. . . ويخطئ من يظن أنها حركة سياسية بحتة، وإن كان القائمون بها يدينون بمذهب سياسي معين. وليست هي أيضاً مزيجاً من الفن والسياسة، فقد صرح (أندريه بريتون) زعيم الحركة مراراً وتكراراً بأنه لا يوافق على أن يتخذ الفن وسيلة للدعاية السياسية. وقد فصل (أراجون) من جماعة السير رياليين لأنه خالفهم في هذا الرأي. فما هي إذن حركة السير ريالزم هذه؟ وما غايتها؟

يصعب علينا أن نضع تعريفاً للسير ريالزم في كلمات قليلة. فإذا كان لابد من ذلك فعلينا أن نقول: إنها حركة اجتماعية فنية، سياسية، فلسفية، سيكولوجية. . . ولا بأس أن نضيف أيضاً أنها حركة دينية. فهي تستلهم شعر (ريميو) و (بودلير) و (توتريامون) وتأخذ عنهم حب الخيال الثوري البعيد عن المنطق وأساليبهم الغريبة في الشعور والتعبير. وتستلهم فلسفة (هيجل) في إيمانها بالحرية؛ وتدين مع (كارل ماركس) بالتفسير المادي للتاريخ؛ وتأخذ عن (فرويد) نظرياته في العقل الباطن؛ ثم هي فوق ذلك تحاول أن تعتمد على هذه العناصر جميعاً في خلق ميثولوجيا جماعية جديدة تناظر الميثولوجيات التي خلقتها الديانات القديمة

ومهما قالوا عن كارل ماركس، ومهما قالوا عن فرويد فلا شك في أنهما الرجلان اللذان استطاعا أن يؤثرا في الفكر الأوربي الحديث أكبر التأثير. فإلى كارل ماركس يرجع الفضل في تفسير التاريخ على أساس من حروب الطبقات وفي التنبؤ بثورة العمال وبدكتاتورية العمال، ثم بالعصر المقبل (الموعود) الذي تزول منه الطبقات وتكتمل فيه المساواة الاقتصادية. وقد تأثر العمال بالمذهب الماركسي فنشطت حركاتهم ونمت أحزابه حتى أصبح الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية أساس السياسة الأوربية في السنين الأخيرة؟ كما تأثر بهذا المذهب عدد كبير من رجال الفكر والأدب. . . وهانحن أولاء نرى أن أعلاماً مثل (برناردشو) و (ولز) و (أندريه جيد) و (مالرو) و (توماس مان) يدينون به وينافحون عنه

والسير رياليون كما قلنا يؤمنون بالمذهب الماركسي، ولكنهم يرون في نفس الوقت أن الدعوة إلى التحرير الاجتماعي يجب أن ترافقها دعوة إلى التحرير النفسي، فالنفس الإنسانية مكونة أيضاً من طبقات يتحكم بعضها في رقاب بعض. ولا سبيل إلى الوصول إلى التحرر النفسي ما لم تستطع أن نزيل الحدود التي تفصل بين العناصر المتنازعة في باطن النفس

ولقد أقنعنا (فرويد) بأن الشخص (السليم) من الأمراض النفسية هو نموذج مثالي لا وجود له. وما الفارق بين (العاقل) و (المجنون) إلا اختلاف في الدرجة ولا في النوع. والسبب الأساسي لهذه الأمراض جميعاً هو أن للنفس الإنسانية رغبات، كثير منها لا يتحقق بالنسبة للعقبات التي تقابلها من الوسط الخارجي، والطفل الصغير لا يدرك هذه العقبات ولذا كان خياله لا يعرف الحدود، فهو إذ يرغب في سيارة فخمة، أو في حصان مطهم، أو في قصر باذخ، لا يشعر بأن هناك عائقاً من العوائق يمكن أن يحول دون ما يبتغيه، ولكن رويداً رويداً يتعلم الطفل خلال ممارسته للحياة بأن رغباته جميعها لا يمكن تحقيقها، فيضطر إلى كبح هذه الرغبات ويتعود التسليم بالأمر الواقع. وكلما كبر في السن نمت فيه هذه العادة - عادة التسليم بالأمر الواقع. على أن الصراع بين الرغبات وبين الواقع يستمر طوال الحياة، فحتى الكهل وهو على أبواب القبر لا يستغني عن الأحلام.

وعادة التسليم بالأمر الواقع بين الناس هي الأساس الذي ترتكن إليه دعوات المحافظين، وهي العقبة الكأداء التي تقف في سبيل كل تجديد وإصلاح. ولما كان السير رياليون يؤمنون بضرورة تغيير النظام الاجتماعي الحاضر فإنهم يثيرون حرباً شعواء على هذه العادة

والأساليب التي يتبعونها في ذلك متعددة: منها ما سيمونه (تغريب) الأشياء أي نقلها من وسطها المألوف إلى وسط غريب عنها (المثل الكلاسيكي لذلك كلمة لوتريامون: ' ' فمن المألوف أن نرى الأسرة في غرف النوم فإذا هي تفاجئنا في رسم سير ريالي على شاطئ البحر، وقد تعودنا أن نرى السحاب في السماء فإذا هو يباغتنا داخل الجدران. . . وهكذا نشاهد في الرسوم السير ريالية شجرة تنبثق منها ذراعان، وسمكة مضطجعة بجانب فتاة عارية، وعيناً تطل من وسط ثدي، وأجزاء من جسم الإنسان طائرة في الهواء، وهيكلاً عظيماً يرقص لأن سمكة بجانبه تغرد. . .

ولليسر رياليين أسلوب آخر في مقاومة عادة التسليم بالأمر الواقع هو اللجوء إلى إثارة الرغبات المكبوتة وتنشيطها وحفزها على التمرد. ومن هنا كلمة (سلفادور دالي) المشهورة: (يجب أن يكون الفن مغرياً بالأكل ' أي مغرياً بتحقيق الرغبة واجتلاب اللذة. وكلمة (نيكولا كالاس): (الفن معمل بارود ' أي وسيلة لهدم عاداتنا في التفكير والسلوك.

وهناك أسلوب ثالث هام من أساليب السير رياليين هو ما يسمونه الأسلوب (الأتوماتيكي) في الكتابة والرسم. وهنا يحاول الشاعر أو الرسام منهم أن يتجرد من رقابة عقله الواعي تاركاً لخياله العنان، حتى يصل إلى حالة تقرب من الغيبوبة، ثم يسجل كل ما يهب ويدب في نفسه من الخواطر أو يتراءى له من الأشكال

وقد استعار السير رياليون هذا الأسلوب الأخير عن فرويد. ففرويد يجلس مريضه على مقعد وثير مريح، ويوحي إليه بأن يرخي عضلاته ويرسل نفسه على سجيتها، ثم يبوح دون تحوط أو تحفظ بكل ما يخطر بذهنه من أفكار، وبكل ما يختلج في قلبه من عواطف. وبهذا يكتشف فرويد (العقد) التي تكونت من الرغبات المكبوتة في نفس المريض، فيصارحه بهذه الرغبات، ويحاول أن يقنعه بالتفكير فيها بعقله المنطقي الواعي وبالتنازل عنها إذا تعارضت مع حقائق الوسط الخارجي: يعني التسليم بالأمر الواقع. وهنا نقطة الاختلاف الجوهري بين فرويد وبين السير رياليين: فهؤلاء لا يريدون بحال من الأحوال سيطرة العقل الواعي على العقل الباطن، بل هم يريدون مواجهة العقل الواعي بالعقل الباطن، والمنطق بالخيال، والواقع بالحلم، والحقيقة بالخرافة، والحكمة بالجنون. . . محاولين أن يؤلفوا من هذه العناصر جميعاً أداة جديدة للتفكير والمعرفة والنظر إلى الأشياء

لهذا يتهم السير رياليون فرويد بأنه (قد اشترى جرأته في البحث العلمي على حساب التحفظ والتسليم بالأمر الواقع في الناحية الاجتماعية).

ثم إن السير رياليين لرغبتهم في نشر مذهبهم حتى يصبح (فلسفة عامة) بين الناس يصرحون بأن النبوغ الفني والكفايات الأدبية لا تهمهم. فجميعنا نشترك في الصراع النفسي بين الأحلام وبين الواقع؛ وعلى ذلك فكل منا يستطيع أن يأخذ بنصيب من مجهوداتهم، إذ الغاية المرجوة عندهم هي إشاعة (جو سير ريالي) في الحياة

والخلاصة أن السير ريالزم وإن كانت تعتمد كثيراً على المذهب الماركسي وعلى أبحاث فرويد، إلا أنها مع ذلك حركة مميزة مستقلة. وقد أشرنا إلى خلاف جوهري بين السير رياليين وبين فرويد، كما أشرنا إلى اختلافهم مع الاشتراكيين الذين يعتقدون - ونحن على رأيهم في مرحلة انتقال سريع - بضرورة توجيه المجهودات الأدبية والفنية جميعاً في سبيل الدعاية السياسية المباشرة.

رمسيس يونان