مجلة الرسالة/العدد 323/المعاملات في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 323/المعاملات في الإسلام
للأستاذ محمد بهجة البيطار
طالعت في الرسالة الغراء سؤال الأستاذ الطنطاوي الذي وجهه إلى (المفكرين) من علماء المسلمين، ودعاهم فيه إلى النظر في مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين الكثيرة التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب عظيم، وسلكت بهم في سبيل النجاة منه طرائق قدداً. وقد بنى سؤاله على أصلين ثابتين، (أولهما) أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، (وثانيهما) أنه يجعل من المتمسكين به أرقى مجموعة بشرية في العلم والقوة والمال والحضارة، (قال): فكيف يتفق مع هذين الأصلين وجود أحكام في الفقه لا تصلح لهذا الزمن، وأحكام تجعل المسلمين دون الأمم الأخرى في مرافق الحياة؟ وضرب لذلك الأمثال من كتب الفقهاء المتأخرين، ومما وضعوه من شروط وقيود، لبعض البيوع والعقود، يتعذر تطبيقها على كثير من المعاملات في هذا العصر، وعلى ما جرى عليه عرف الناس في التجارات الواسعة؛ وأبدى إعجابه بالفقهاء المتقدمين الذي درسوا وقائع أزمانهم، وطبقوا عليها الأحكام، وفرضوا الفروض وبحثوا عن أحكامها (وهذا مما عابه السلف الذين كانوا يفتون بالواقع، ويمسكون عن القول بما لم يقع إلى زمان وقوعه، لتكون الفتاوى مطبقة على الزمان والمكان والأحوال والأشخاص) ونعى على بعض المتفقهة المتأخرين جمودهم على الفقه الموضوع للقرن التاسع والعاشر، وأثنى على الأستاذ المحدث المحقق الشيخ احمد شاكر فيما كتبه في مسائل الطلاق، وقال: فمتى يعمد العلماء إلى الكتابة
أقول: لاشك أن واجب العلماء هو مواجهه الحقائق التي ظهرت في هذا العصر وبيان الحكم في استعمال جميع ما استحدث من المخترعات إلى اليوم، على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، أي أن تكون فتاوى العلماء الواقفين على أسرار التشريع، وكنه الزمن، وحاجة الأمة - هادية إلى حفظ وحدتها وتنمية ثروتها، وحماية حوزتها، ودفع عوادي الشر عنها، مع إثبات أن ذلك هو الذي يقتضيه هدى الإسلام، وترشد إليه آيات القرآن، وأن المسلمين هم أولى بالمسابقة والسبق في هذا المضمار، فاستثارة دفائن الأرض مثلاً، واستخراج كنوزها ومعادنها، وعلم الزراعة، وفن الري، وإقامة الجسور والمعابر، وتشييد الدور والقصور، وإنشاء السكك الحديدية، والحصون والقلاع، هو عين ما يذكره الفقهاء في أبواب الركاز والمعادن وإحياء الموات، ومطابق لنصوص الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وصنع المصفحات والدبابات، والمناطيد والطيارات، والمدرعات والغواصات، والكهرباء وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات النافعة هو مما أرشد إليه الاسلام، ودل عليه مثل قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) فرده رد لنصوص القرآن وتعطيل لأحكامه. وهذا هو الفقه العام في الإسلام، وفقه الفروع والأحكام منبثق عنه أو هو جزء منه. فالفقه بإطلاقه سداد في العلم، ودقة في الفهم، وإصابة في الحكم. وهو الذي دعا به الرسول (ص) لابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فكان فقيه الأمة وترجمان القرآن
وهذه الطريق في فهم الدين والفقه فيه هي التي جرى عليها في هذا العصر إمامه السيد محمد رشيد رضا (تغمده المولى برضوانه) فقد أخذ منذ نحو نصف قرن يحل في مناره وتفسيره عقد المشكلات الدينية الدنيوية، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها، مستهدياً بهدى السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشداً بسنن الوجود التي لا تبديل فيها ولا تحويل، وكانت فتاويه تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل الاجتماعية حلاً يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة، والمصلحة العامة الراجحة. وقد تكلم عن بعض المسائل الفقهية التي عرض لها الأستاذ الطنطاوي في مقاله كسجدة التلاوة عند سماع القارئ في المذياع، وكالمصارف المالية ومعاملاتها، وأفاض القول في تحريم ما حرم الله من الربا، وتوعد عليه بأشد الوعيد، فبين وجه تحريمه، وعقد فصلاً مستقلاً في حكمته وانطباقه على مصلحة البشر، وموافقة لرحمة الله بعباده، بما لم تره لغيره من المفسرين. وقد ختم هذا الفصل بقوله: (من تدبر ما قاله الإمامان (أي الغزالي والشيخ محمد عبده) علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة، الموافق لمصلحة البشر، المنطبق على قواعد الفلسفة، وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع، زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال، وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم، وتجعل بقية الناس عالة عليهم. فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدنية ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل، فسيجيء يوم يقر فيه المفتونون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر في دنياهم فضلاً عن آخرتهم إلا به، يوم يفوز الاشتراكيون في الممالك الأوربية، ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية، ويرغمون أنوف المحتكرين للأموال، ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال هـ (113: 3)
إن غرض السيد الإمام (كما صرح به في مواضع من تفسيره) أن البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين، وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة، حتى أن الفقير فيها ليموت ولا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه، فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية، وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال، واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل، وتعطيل المعامل والمصانع لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره، بل يعطونهم أقل مما يستحقون، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلاباً كبيراً في العالم ولا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس لما دعاهم إليه الدين. ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدنية لا تقوم بدونه. (قال)، وهذا باطل في نفسه، إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضاً حسناً، ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من موارده الطبيعية، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات ومنها المضاربة لما زادت مدنيتهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير، ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون، والفوضويون المغتالون
وقد قامت للعرب مدنية إسلامية لم يكن الربا من أركانها، فكانت خير مدنية في زمنها؛ فما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدنية والفضيلة، وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا
الشركة الاقتصادية الكبرى
قامت في مصر أكبر شركة زراعية صناعية تجارية أسست بأموال المصريين، وأثبتت فوائد الشركات المالية والتعاون الاقتصادي، وأقامت هذه الشركة لها بيت مال كبير أنشأه المزارع والمصانع والمتاجر، وآوى إليه ألوف العمال، ونجاهم من شرور البطالة ومفاسدها، وزاحم الشركات الأجنبية في البر والبحر والجو، فأشعر مصر بعزة الاستقلال الاقتصادي الذي لا يتم الاستقلال السياسي بدونه، فهذا التعاون الاقتصادي الذي نهض بمصر هو نموذج من مدنية الإسلام الأولى التي قامت على أساس استثمار الموارد الطبيعية، وتنمية الثروة العامة، لا على نصب شباك المعاملات الربوية لسلب نقود الأمة وإفقارها، ثم الاستيلاء على مواردها وممالكها، بحجة المحافظة على المصالح والأموال، كما فعل الأجانب بملكنا وحكوماتنا. فنحن معشر المسلمين لو كنا متمسكين بقرآننا الذي حرم الربا المفضي إلى إضاعة الثروة والملك، وأعددنا رجالاً لاستخراج كنوز أرضنا، وتعمير بلادنا، وتعزيز شأننا، لكنا بقينا مستقلين بأنفسنا، أحراراً في ملكنا، فكيف يكون الربا الذي كان السبب في استعبادنا وسيلة لإنقاذنا وإسعادنا؟
وقول الأستاذ الطنطاوي: بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة، ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. أقول قد أوضح هو أيضاً الفرق في مقاله أو سؤاله بين الربا المرهق (على طريق الفائدة المركبة) أي الربا الجاهلي، وبين معاملات المصارف، فقال عن الأول على طريق الاستفهام التقريري: وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت، وتنازع بين الناس، وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ وقال عن الثاني: فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك، فهو أشبه بشركة المضاربة (قلت): وهذا يعود إلى الفرق بين ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن ينسئ الدائن (أي يؤخر) دينه ويزيده المدين في المال، وكلما أنسأه أي أخر الدين في المدة زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة؛ وربا الفضل الذي كان تحريمه وسيلة لا قصداً ودل عليه حديث أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي (ص): لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فأني أخاف عليكم الرماء (أي الربا). فربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته، وفي الصحيحين: إنما الربا في النسيئة. وفي رواية: لا ربا إلا في النسيئة. وربما الفضل محرم لسد الذريعة أي لكيلا يكون وسيلة إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة وللمصلحة الراجحة، وبنى على ذلك الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة. واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضاً، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي (ص) بيع العرايا، وهو من بيع المتماثلين في الجنس مع عدم القبض والمساواة. فالعرايا جمع عرية كقضية وقضايا، وهي بيع ما على النخل من الرطب بما يخرص ويقدر به من التمر لحاجة من يملكه إلى أكل الرطب، فيشتريه به. فالتمر يدفع مرة واحدة، والرطب يجنى بالتدريج، وقد رخص النبي في بيعها. وذكر ابن القيم من نظائره أيضاً إباحة نظر الخاطب والشاهد والطبيب والمعامل إلى المرأة الأجنبية وإباحة لبس الحرير للرجال لمنع الحكة أو القمل، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كله. (قال رحمه الله): وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن، من مفسدة الحيل الربوية، التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية. وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق (275: 2) وقال أيضاً: فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع. أهـ
تفسير المنار لآيات الربا وعمل المصارف
من العجيب الغريب أن يتهم السيد صاحب المنار (رحمه الله تعالى) بتحليل ما حرم الله من الربا، وما أثرناه عنه من مفاسد الربا ومضاره، هو قليل من كثير مما كتبه في تفسيره ومناره، وآخره ما جاء في المجلد الرابع والثلاثين من المنار وهو ختامها، فقد سئل عن أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء، فقال: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه للتصدق به ولا لغيره، لأن التقرب إلى الله لا يكون بما حرمه الله، فان هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالاً ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى. وقد نقل عن ابن جرير ما قاله أئمة التفسير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الفرق بين هذا الربا الجاهلي المحرم لذاته، وربا الفضل المحرم لغيره، وتقدم بيان ذلك. أما الكتاب الذي وعد بإكماله ونشره (رحمه الله) فهو في مباحث الربا والأحكام المالية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وفي الأصول والقواعد العامة للحلال والحرام، وقد رأى أن جمهور المسلمين في حرج شديد من هذه المعاملات المالية العصرية، وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجاً منه مع المحافظة على دينهم فنعى على الذين توسعوا باجتهادهم في أحكام المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيراً من صور البيوع والقروض والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي (النسيئة)، ولا في ربا الحديث الاحتياطي من باب ولا منفذ إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة والضوابط المذهبية الاجتهادية كما قال. وليت هذا الكتاب تم وأخرج للناس قبل وفاته ليرى الناس سبل النجاة من هذا التخبط والاضطراب
ولقد علمنا الآن من هذه الأقوال اليسيرة التي أثرناها عنه أن غرضه الأول أن يجتنب المسلمون الربا الذي حرمه الله ورسوله، وأن تجري بيوع المسلمين وقروضهم وشركاتهم على نحو ما سارت عليه في خير عصور هذه الملة وأهداها، مع وضع حدود وضوابط للاضطرار وللحاجة إلى المحظور في القواعد المستنبطة من الأدلة كقاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر، وككون الضرورات تبيح المحظورات، وكون المحظور لسد الذريعة يباح للحاجة إليه، ولرجحان المصلحة على المفسدة، ولم يقدر هو ضرورة الأفراد ولا حاجتهم، بل وكل أهل البصيرة منهم إلى معرفتهم بأنفسهم (قال): وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها فهو الذي فيه التنازع. وعندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة، أي أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها عملاً بقوله تعالى في مثله من الأمور العامة (4: 83 ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، (قال): فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد (بلاد مصر) وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسون والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة. فقوله: وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها وقوله: عندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من المنة، هو فى معنى فول الأخ الطنطاوي: وهي التي لا وجه لها عندي، فما هو فول علمائنا الأعلام؟ فهذا علم الأعلام لم يجزم بشيء، بل صرح بأن أولي الأمر من المسلمين - وهم أنصاف الأمة الذين ذكرهم مجتمعين - هم الذين يقدرون ضرورتها. فأين قول المفتاتين بأنه أباح الربا هو وشيخه الشيخ محمد عبده؟ وإنما تكلم عن مسلمي مصر لأن البحث فيهم. ولو كان الكلام عن ضرورة الإسلام لصرح بوجوب اجتماع أو إجماع أولي الأمر من المسلمين في أقطار الأرض على تحديد ضرورة الأمة. إذاً فمرد الأمر إلى (المفكرين) من علماء المسلمين كما قال الأستاذ الطنطاوي ليبحثوا في وسائل هذا الأمر ومقاصده ويبنوا المعاملات المالية على أسس الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان، والتي يستبين معها للموافق والمخالف أن قواعد الاقتصاد في الإسلام هي أبر ببني الإنسان، وأحق بتثبيت دعائم الحضارة والعمران
البيوع والمعاملات
أما ما وضعه بعض الفقهاء من شروط وقيود لبعض البيع والعقود، مما ليس فيه نص صريح، ولا قياس صحيح، فالناس غير ملزمين به، إذ أن لكل زمن عرفه وأهله ومصالحه، وإنما نهى الرسول (ص) عن أنواع من المعاقدات والبيوع كانت في الجاهلية لما فيها غبن وغش وغرر وضرر، وأمثلتها معروفة في كتب السنة. والمعاملات تفترق عن العبادات في كون الأصل فيها الإباحة والصحة، حتى يقوم الدليل على التحريم والبطلان. وأما العبادات فلا تكون صحيحة ما لم تكن قائمة على أمر الله، وعلى الوجه الذي شرعه وارتضاه. وفي الأعلام للإمام ابن القيم مباحث ضافية في ذلك أكتفي منها بقوله (رحمه الله):
(الخطأ الرابع) اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه (إلى أن قال): فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمةً منه من غير نسيان وإهمال. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؛ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: وأوفوا بالعهد) وقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) وقال تعالى: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (2: 34 من أعلام الموقعين)
وقال الإمام نجم الدين الطوفي المتوفى سنة (716) في بحث المصالح: وإنما اعتبرتا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعول اهـ باختصار، وتمام البحث في رسالة يسر الإسلام، وأصول التشريع العام للسيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى
إنشاء مجلة للأحكام الشرعية (العصرية)
إن من أفضل ما يقوم به المفكرون من رجال الإسلام العناية بوضع مجلة الأحكام، تسير على نهج (مجلة الأحكام العدلية) التي وضعت في عهد الدولة العثمانية، عام (1297) على ألا تكون مقيدة مثلها بمذهب واحد، تبحث في المسائل الشرعية العصرية، وتضع لها ما يناسبها من الأحكام؛ وإنما يضطلع بهذا العبء، ويقوم على تحرير مثل هذه المجلة. لجنة مؤلفة من أكبر علماء هذا العصر، ممن تضلعوا من مورد الكتاب والسنة، وعرفوا مذاهب الأئمة، ووقفوا على كنه الزمن ونواميس العمران، ودرسوا قوانين الدول وحقوق الأمم، ومارسوا الشؤون القضائية والإدارية. ألا وإن عملهم هذا سيكون له فوائد عظيمة جداً، منها أنه يتبين به أن الإسلام دين السماحة والتيسير، توافق أحكامه مصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يخفى أن من قواعده المأخوذة من نصوصه الكثيرة اليسر، ودفع الحرج والعسر، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الضرورات تبيح المحظورات، فاستنباط الأحكام التي يدعو إليها الزمان من مآخذها وأدلتها يكون مبنياً على أساس حفظ مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، وقد تكرر هذا المعنى. (ومنها) أن اعتماد ما كان أقرب دليلاً وأكثر ملاءمة لحاجة العصر وطبيعة الأمة، من مذاهب الأئمة، يتبين به سعة الفقه الإسلامي، وأن اختلاف علمائنا رحمة والأخذ من متنوع مذاهبهم نعمة
(ومنها) رد المزاعم القائلة بأن الإسلام لا يلتقي مع حاجة البشر، ولا يبحث فيما يتجدد من شؤون الزمن. على أن الواقع أن بعض فقهائنا قد بحثوا في بعض ما ظهر في عصرنا من الشؤون؛ فهذا الفقيه الكبير الأستاذ الشيخ محمد بخيت قد ألف كتاباً أجاز فيه العمل بخبر البرق (التلغراف) سماه (إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة) ومثله الأستاذ الشهير الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي في كتابه (إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق) وقد أثبت أستاذنا القاسمي فتاوى لاثني عشر عالماً من أشهر علماء العصر بجواز قبول خبر البرق في إثبات الأهلة وغيرها، والمذياع والهاتف (الراديو والتلفون) كلاهما أوضح في الدلالة وأوثق من خبر البرق، لأن التلغراف يستفاد مضمونه من تلك النقرات التي ينقرها العامل فيفهم خبره ويترجم المراد منه، بخلاف الكلام بالراديو والهاتف فهو كلام صحيح صريح، وإنما يسمع من يلقي إليه الخبر بهما كلام المتكلم نفسه لا صداه، وما أظن أحداً ممن أجاز العمل بخبر البرق في الديانات والمعاملات يتردد في جواز العمل بالمذياع والهاتف فيهما لما قدمنا؛ وهو أقوى من خبر الكتاب الموثوق الذي قبله العلماء، وأبعد عن التزوير بكثير. وقد كتب النبي (ص) كتبه إلى الآفاق، وبلغ بها دعوته إلى الملوك. وقامت الحجة عليهم وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، والملوك العادلون، فقد أرسلوا كتبهم، وقلدوا القضاة والنواب والأمراء عنهم بالكتابة. وعلى ذلك جرت سنة التابعين وأئمة الشرع وفقهاء الأمة، وما أجدر العلماء الآن بإذاعة القرآن والدعوة الإسلامية بالراديو - كما يفعل الإمام المراغي شيخ الجامع الأزهر - لتعم الكرة الأرضية، وتقوم حجة الله على العالمين
فإلى إنشاء هذه المجلة الكبرى الشاملة لكل ما حدث إلى الآن من الوسائل التي تعامل بها العالم أجمع في كافة أنحاء المعمور، وإلى تفصيل ما نشأ عن هذه الوسائل من مسائل وأحكام فقهية، ندعو أعلام الأمة، وفقهاء العصر، وبالله التوفيق.
(دمشق)
محمد بهجة البيطار