مجلة الرسالة/العدد 324/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 324/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 09 - 1939



لحظات الإلهام في تاريخ العلم

تأليف مريون فلورنس لانسنغ

3 - عصر النار

في الأيام الخالية وكانت الدنيا لا تزال في شبابها كان - كما علمنا - يقيم في واد شرقي عدن شاب اسمه (توبال قابيل) وهو حفيد ذلك الرجل الذي عاش على الأرض اكثر مما عمر أي رجل آخر وهو متوشالح

ذهب توبال قابيل إلى الجبال ليكون صياد قبيلته لأنه أوفر رجالها جسما وأوفاها قوة. وكان يستطيع لقوته أن يرمي الرمية فيصيب بسنانه المصنوع من الحجر المنحوت أي وحش يريد قتله. وكان كذلك حاد البصر سريع الحركة ففي وسعه أن يرى أي مخلوق يختبئ في الغابة ويتبعه في سرعة مطارداً إياه عند الهرب

وقد عرف توبال قابيل سر النار وصنع النار وكان ذلك السر مجهولاً من قبيلته منذ أجيال. وكان رجل من أهل الشمال لقنه سرها، وكان هذا الرجل وقبيلته قد قبسوا من نار البرق الذي مصدره السماء فاحتفظوا بذلك القبس حتى عرفوا في النهاية كيف يصنعونها بأنفسهم، وذلك باستدعاء روح النار الكامنة في أخشاب الغابة التي يقيمون بها. وكان توبال قابيل يصنع بالنار ما يصنع بالسحر فهو في الليلة الباردة يعيد الدفء باستخراج الألهوب الأحمر من الخشب وبتغذيته بالهشيم الذي يجمعه أثناء النهار، وقد وجد أن الوحوش المفترسة تخاف من روح النار فتهرب وأن الوحوش لا تزعج نومه ما دامت النار بالقرب منه ترعاه

وفي يوم شديد البرد جمع توبال قابيل مقداراً عظيماً من الغصون الجافة والخشب الجزل وسلط عليها الروح الحمراء لتأكلها لأنه كان شديد التألم من البرد فقد كان طول هذا اليوم في الجبال يطارد نمراً عظيماً، وكانت الريح شمالية عنيفة باردة فاستشعر البرد حتى كاد يسري في عظامه

حبس من أجل ذلك بجانب النار، ولما تأمل في قرارها رأى منظراً أعجب من كل ما رآه من قبل: رأى صخرة كانت في وسط الألهوب، قد تحول لونها إلى الاحمرار، وبدأت على حين فجأة تذوب. وكانت كلما اشتدت حرارة النار خرج من الصخرة الذائبة سائل ذائب كالماء الملوث بالطين حين يهم بالتدفق، ثم التفت أثناء جريها، وتحولت إلى ما يشبه حية سوداء هاربة من النار التي أخرجت من الصخر هذه المادة الغريبة.

لم يعرف توبال قابيل ما هو هذا السائل، ولكن هذه أول مرة رأى فيها الحديد أي إنسان على الأرض، فإن هذا السائل الناري لما جرى واستبرد أصبح معدناً ثميناً كان من قبل مختبئاً في الخام الصخري.

وانقضت أسابيع وشهور بعد رؤية هذا السائل المتدفق من الصخرة، وقد قضى هذه المدة في جمع الصخور المماثلة لما رآه من جوانب الجبل، وكان يجلب لها ناره ليرى هل هذه الصخور ستذوب أيضاً؟ فوجد أن بعضها الآخر أخرج نقاطاً لامعة متوهجة تتحول فيما بعد إلى معدن أرق هو الذي نعرفه باسم النحاس

وكان يجري تجربته في كل قطعة من الحجر الذي جربه أولاً ويراقب ما يصير إليه أمرها حين تبترد ليعرف إلى أي شكل تتحول

وفي أحد الأيام، حاول أن يصوغ المعدن في أثناء حرارته وابتراده، فطاوعه المعدن وتمكن من طرقه وتحديد طرفه كالسنان الذي يصنعه من الحجر.

وعند خروجه للصيد للمرة التالية رأى وحشاً يقبل نحو كهف في الجبل الذي يقيم فيه فرماه بسنانه الحديدي الجديد وأصابه السنان في جبهته وقتله للحال

وكان هذا أول سلاح معدني صنع في العالم؛ ورأى توبال قابيل أن في وسعه صنع أسلحة أخرى من هذه المادة الجديدة التي يمكن طرقها عند الحد أكثر مما تطرق الأحجار والفلزات التي يقضي في نحتها ساعات متعبة

ولم يقل شيئاً عن هذا السر للصيادين الآخرين الذين كانوا يأتون أحياناً إلى موطنه في الجبال ولا لسكان الوادي؛ ولكن الجميع دهشوا من وفرة قوته ومن حذقه الصيد لأنه كان يأتي بصيد أكثر مما يأتي به أي اثنين مجتمعين في هذه الجبهة الجبلية.

وكان أجدى على سكان الوادي من اثنين كذلك لحمايته إياهم من غارة الوحوش الضارية؛ ولكنه أفضى إلى جده متوشالح باستكشافه الغريب وأراه كل أنواع الأسنة والأسلحة المحدودة والآلات الحادة التي صنعها وصاغها بإحمائها وسكبها في حفر وأخاديد في الصخر أثناء خروجها حارة من النار وتركها حتى تبرد فتتجمد ويمكن عند ذلك طرقها

وكان متوشالح في النهاية حياته عندما أقبل عليه توبال؛ ولكن حكمته كانت تزداد على مدى الأيام. وكان ثاقب الفكر سريع الخاطر كحفيده الأصغر فأخذ القطع الغريبة من الحديد الأسود الذي جاء به توبال قابيل والقطع الساطعة من النحاس ووازن بين ثقليهما في يده وحاول اختبارهما بكل الأساليب، وأخبر توبال بأن هذا سر عجيب جداً مكتوم عن سائر العالم وأنه يجب أن يدرس هذه الصخور وأن يستمر في العمل بها وأن يتعلم ك الذي يستطيع تعلمه وأن يستعد لإشراك إخوانه الصيادين جميعاً وأهل قرابته هذه المعرفة ونشرها في أرجاء العالم

وعاد توبال قابيل إلى الجبال وأنشأ لنفسه مكاناً للنار أو فرناً ليحبس فيه روح النار ويستبقيها في خدمته، وأرسل كل الصيادين ليأتوا إليه بالأحجار من النوع الذي يذوب. وتعلم صنع قوالب من الطين يضع فيها المعادن الحارة. وليتمكن من إدخال الهواء تحت القدر صنع نوعاً من المنافيخ وصنع أسلحة لكل الصيادين والذين يتولون حراسة أهل الوادي

وكان الرجال يأتون من الأماكن البعيدة ومن الأماكن القريبة ليتعلموا فن توبال قابيل في صنع المعادن. وعلمهم وهو مسرور كل ما عرفه من الأسرار وكل الفنون التي كان يستفيدها من يوم إلى يوم

وكان الذي تعلمه خدمة لكل الناس لأنه كيف يمكن أن يعيش أهل الأرض وأن يغتنوا ما لم يتشاركوا - لمصلحة الجميع - فيما يستكشفه أي رجل أو فيما تصنعه أية قبيلة؟

تعلم كيف يحذق صنع الحديد ولم يكتف بأن يصنع الأسلحة للحرب بل صنع نصلاً ثقيلاً معقوفاً يستطيع الإنسان أن يحفر به الأرض اللينة قبل أن يلقي بها البذور، وأن يصنع نصلاً طويلاً وهو الذي نسميه الآن باسم المحراث. وبه استطاع أن يخط على الأرض خطوطاً طويلة يغرس فيها الحب

وصنع آلات أخرى كثيرة، واشتهر أمره في جهات بعيدة عن واديه، وعن الوديان المجاورة للجبال التي يقيم بينها، لا بل ذاع صيته عبر الأنهار وعلى حدود البحر الكبير، وذاع اسم توبال قابيل صانع كل سلاح قاطع أو منته بذبابة حادة، وأستاذ كل رجل يبغي العمل في النحاس أو الحديد أو أية مادة تسيل من الصخور. وكذلك دون في الكتب القديمة كما يستطيع أن يتبين من يريد

وكذلك أصبح عصر النار عصراً للمعدن أيضاً. ولا نزال نعيش في هذا العصر إلى اليوم

ومهما تكن الطريقة التي عرف بها الناس سر النار للمرة الأولى، فإننا نعلم أنهم عرفوها قبل أن يكون للعالم تاريخ مكتوب وأنهم عرفوا أيضاً سر المعدن المخبوء في الأرض.

ولما عرف كيف يصنعه، وكيف يصوغه بواسطة النار فإنه بذلك قد بدأ يسير في طريق المدنية، وسنظل متتبعين رحلته في هذا الطريق على مدى القرون.

(يتبع)

ع. ا