مجلة الرسالة/العدد 324/عقيدة الزعامة في النازية

مجلة الرسالة/العدد 324/عقيدة الزعامة في النازية

مجلة الرسالة - العدد 324
عقيدة الزعامة في النازية
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 09 - 1939



للدكتور جواد علي

لا تفهم وجهة النظر الوطنية الاشتراكية للعالم إلا إذا اطلع المرء على عقيدة الزعامة التي هي الأصل الأول من أصول المذهب النازي والعمود الذي ترتكز عليه جميع تعاليم الحزب ونظرياته. فلا تتساهل المؤسسات الهتلرية أبداً أمام التساهل بهذه العقيدة أو الكافر بها. لذلك سخرت جميع ما تمتلكه من وسائل في سبيل تأييدها وحض الناس على الاعتقاد بها. وطهرت السياسة والعلم والفن والصناعة - على حد تعبير الوطنية الاشتراكية - من جميع الأدران التي تراها تصطدم مع هذا الإيمان المطلق. ولم تتساهل حتى مع أكبر الأساتذة الذين لم تجد منهم ميلاً أو تأييداً في القول أو الفعل

وعقيدة الزعامة هذه تنحصر في زعامتين: الزعامة الفردية، والزعامة العنصرية، أو الأممية. ومتى عرفت هاتين الزعامتين اتضح لك سبب تهجم هتلر على الماركسية والماسونية واليهودية، وكل فكرة أو نظرية علمية أممية. أما الزعامة الفردية فتستند إلى قاعدة أن الأفراد ليسوا في الاستعداد على حد سواء. وكذلك في المؤهلات العقلية والإنتاجية. فهنالك درجات كل درجة أرقى من التي تحتها؛ وهكذا ترتقي الدرجات حتى تصل إلى درجة زعيم فوهرر وهو زعيم الزعماء، إذ أن كل فرد بالنظر إلى من هو أدنى منه عقلاً أو جسماً أو أضعف إرادة زعيم مفترض الطاعة. وعلى حسب هذه الدرجات تتوزع كذلك المسؤولية والوظيفة والواجب. وهذه المواهب والقابليات موهوبة فطرية لا تكتسب بعلم ولا يحصل عليها بتهذيب أو درس والزعيم الأكبر الذي يتولى قيادة الشعب العامة هو الذي يكيف الشعب حسب إرادته وروحه ويضع الخطط العامة. ولا بد لهذا الزعيم من مؤهلات روحية تميزه عن أفراد شعبه، وقوى خارقة ممتازة من أهم صفاتها الإرادة والشجاعة والخيال والتفكير والخطابة والمقدرة السياسية والتضحية والإنتاج

هذه الصفات كما ذكرنا فطرية مجبولة في الشخص، فالزعيم يولد زعيماً وتظهر عليه المؤهلات، ولكي تنمو فيه هذه المؤهلات وتينع وتمنع من الانحطاط لابد من العناية بتربية الأفراد خصوصاً الطبقة الصالحة منها للقيادة التي تمتاز بميزات جسمية كطول القامة والاتزان وحدة النظر مع الهدوء وتحمل المشقات؛ ولا يسمح لذلك بالزواج إلا بعد الفحص الطبي والتحقق من سلامة الزوج والزوجة من الأمراض الجسمية أو العقلية أو الاجتماعية كالإدمان على الشرب واللصوصية وغيرها. وهناك مدارس صارمة للزعامة يدخلها من يريد الانخراط في سلك الزعماء على اختلاف درجاته لها أنظمة شديدة، ومن هذه الطبقة تنشأ طبقة خاصة هي طبقة الأشراف، أشراف المستقبل الذين يقودون الجيل الجديد على طريقة فرسان الجرمان القدماء

أما الزعامة العنصرية أو الأممية فتتلخص في أن الأمم ليست متساوية كذلك في القابليات والأنتاج؛ وهي فطرية كذلك كما هي في الأفراد. والشعوب الآرية في نظر الوطنية الاشتراكية هي الشعوب المنتجة وحدها، وكل حضارة في العالم أو مدنية هي من صنعة هذا الجنس، وهذا ما يدعو طبعاً إلى قلب التأريخ ظهراً على عقب وإلى كتابة تاريخ عالمي جديد. لذلك حاربت النظرية المادية في التأريخ وهي نظرية كارل ماركس وزميله أنكل. وبيبل وهي النظرية المعروفة ب ? القائلة بأن التأريخ أو التطور البشري نتيجة من نتائج التطور الاقتصادي، وكذلك على وجود حضارات بشرية مختلفة، فهنالك حضارة بابلية وهناك حضارة مصرية، وهناك حضارة صينية، وهنالك حضارة عربية. كما أن هناك حضارة ألمانية أو حضارة إنكليزية، ولكل حضارة من هذه الحضارات نفسية خاصة (أنظر كتابه المشهور سقوط الغرب) وكذلك نظريات الكتاب الأحرار الذين يرون العالم ككتلة واحدة والمبادئ التي نشأت من الثورة الفرنسية

إن فكرة الزعامة العنصرية هذه ليست فكرة هتلر بمعنى أنه هو الذي ابتدعها وكوَّنها، بل هي فكرة عالمية قديمة كانت لدي اليونان إذ كانوا يحتقرون الشعوب الأخرى ولا يعترفون لها بالإنتاج؛ وكانت كذلك لدى الرومان والعرب، وظهرت في العصر الإسلامي باسم الشعوبية وهي حركة كانت ضد العرب؛ وكانت لدي الأمم الأخرى، والحركة المعادية للسامية قديمة أيضاً حتى أن لوثر المصلح الديني العظيم في ألمانيا كان من الذين يكرهون اليهود. ولكن تلك الفكرة لم تطبع بالطابع العلمي وتصبح عقيدة كما أصبحت في ألمانيا اليوم. وأشهر الذين نادوا بالزعامة العنصرية قبل هتلر هم الألماني (1802 - 1867) الذي بحث عن الشعوب الفعالة وانتشارها على الكرة الأرضية واعتقد بأن الشعوب الهندو آرية هي الشعوب المنتجة وحدها. وكذلك الفرنسي المشهور كراف كوبينو (1816 - 1882) فيكتابه ' وقد توصل إلى نتيجة تفوِّق العنصر الجرماني على جميع العناصر؛ ثم الكاتب الفيلسوف الشهير هوستن شامبرلن (1855 - 1928) في كتابه 19 وهو إنكليزي الأصل ألماني الثقافة صديق الموسيقي الشهير ريشارد واكنر المعروف بكرهه لليهود أيضاً. وكان شامبرلن هذا يكره اليهود وحاول في كتابه بعث ألمانيا من جديد إثبات أن العنصر السامي هو عنصر غير منتج. ولأفكاره أعظم أثر في شخصية هتلر وآرائه. وقد زاره مراراً، وتعتبر كتبه من أهم الكتب التي كونت الوطنية الاشتراكية بجنب كتاب كفاحي ويرى من خلال دراسته المصبوغة بطابعه الجرماني الخاص أن الشعب الجرماني وحده له حق القيادة والزعامة إذ هو الشعب المنتج على الإطلاق، وأن اليهودية والشعوب السامية لم تنتج شيئاً وما أنتجه هو نتيجة العقلية الآرية فقط

كانت فكرة العنصرية قد توسعت منذ عهد بسمارك إذ أطلقت لليهود، لأسباب سياسية، الحرية المدنية وسمح لهم بالتوظف في الدولة من دون قيد ولا شرط. فازداد بذلك العداء وتوسعت الفكرة العنصرية ولا سيما بعد الحرب العظمى، وظهر مختلف الكتاب الذين شنوا الغارة على اليهود كالأستاذ أدولف بارتلز المشهور بكتابه (تاريخ الأدب الألماني) على الطريقة العنصرية، والبروفسور لدويك شيمان والبروفسور كنتر. وغيرهم، وأخذوا في دراسة العنصرية من جميع أوجهها متخذين للموضوع قواعد وأسسا وأدوات، وقد ساعدتهم الوطنية الاشتراكية طبعاً بكل قواها، وأسست معاهد للعنصرية في الجامعات والمستشفيات وجميع المؤسسات الشعبية. وظهر في عالم الدروس الجامعية فرع خاص يسمى باسم مبحث الأجناس وقد كيفت النازية السياسة والعلم والفن والرأي العام على هذا الاتجاه، إذ يرى هتلر أن مصدر كل بلاء نزل على ألمانيا هو إهمالها العنصرية وتصاهرها مع اليهود الذين أضروا بالأخلاق والتقاليد الجرمانية الموروثة، وكذلك المسيحية اليهودية التي لا تمثل إلا أخلاق اليهود. وهذه كانت نظرية الفيلسوف نيتشة الذي كان يصف الأخلاق المسيحية بأخلاق العبيد، وكذلك شامبرلن وغيرهما. لذلك أكره هتلر جميع العلماء والمؤسسات العلمية على تطبيق هذه النظرية، وقاوم كل نظرية تدعو إلى الأممية وإلى المساواة بين الشعوب كالهرم أيضاً، قاعدته متسعة يضم في أسفله الشعوب الزنجية والأقوام الابتدائية، ثم يضيق شيئأ فشيئاً حتى يصل إلى القمة حيث هناك الشعوب الجرمانية الألمان والسكاندناويين والدانمارك، وفي قمة هذا الهرم تماماً تكون ألمانيا. (أنظر كتاب ص 140) وهكذا طبق هتلر عقيدة الزعامة الفردية على الزعامة الأممية، فكما أن هتلر هو زعيم الألمان الذي يجب أن يطاع لما له من مواهب الزعامة الموهوبة الفطرية فكذلك يريد أن يجعل شعبه في قمة الزعامة الأممية التي لا يرتقي إلى مصافها شعب

كان من الطبيعي أن يعاني العلم والفن من جراء هذه النظرية مصاعب شتى ولا سيما العلوم العقلية منها كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم التربية والسياسة والاقتصاد وخصوصاً التأريخ الذي يعتني به هتلر عناية خاصة، وخصص له عدة صحائف في كتابه كفاحي لأنه يرى في التأريخ خير درس وعبرة للأفراد والشعوب على الطريقة التاريخية القديمة التي تنسب إلى المؤرخ اليوناني توكيديدس (460 - 400ق. م) والمعروفة في التاريخ باسم أو التأريخ التعليمي. وبما أن الطريقة العلمية في مثل هذه الموضوعات حرة وآراء الأساتذة مختلفة طليقة تكره التحيز والتعصب، لذلك كانت مهمة العلماء في مثل هذه الموضوعات صعبة جداً. والنتيجة المنطقية لذلك كانت إحجام الكثير منهم عن التأليف وتبيان آرائهم بصراحة، وإجهاد الفكر لإيجاد براهين جديدة لتحقيق نظرية الزعامة وقلب العلم رأساً على عقب. ولو تصور القارئ مثلاً أن علم التاريخ حسب هذه النظرية يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً عرف صعوبة المهمة الشاقة ونظر العلماء الأجانب إلى أمثال هذه الآراء. فالنظرية النازية الجديدة في التاريخ ترى أنه من الكفر الابتداء منذ اليوم بالتاريخ القديم بممالك الشرق الأدنى كالمصريين والبابليين والأشوريين، بل ترى في ذلك الخطأ الفادح لأن من عقيدتها أن الحضارة الجرمانية أساس الحضارات، ومن الجرمان أخذت الشعوب الشرقية حضارتها مستدلة يذلك على نظريات الهجرة، وتوسع السكان الذي جرى ولا يزال يجري إلى الآن، وعلى حفريات تقوم بها المؤسسات الألمانية ثم تحكم هي بنفسها على تقدير أعمار المكتشفات الأثرية وقدمها. ولا شك أن ذلك مما يسخر منه علماء الأقطار الأوربية الأخرى ولا يدينون به، وكذلك علماء ألمانيا أنفسهم، ولكن السياسة طبعاً هي التي تتغلب الآن على العلم

يقسم علماء التاريخ اليوم في ألمانيا العالم إلى قسمين: شعوب سياسية تنشئ التاريخ وتكونه وهي الشعوب الجرمانية طبعاً، وشعوب غير سياسية وهي التي لا تلعب دوراً في التاريخ ولا في السياسة بل يلعب بها وهي الشعوب السامية والزنجية وغيرها. ويصرح هتلر بهذه الفكرة في كتابه كفاحي، ويرى فضلاً عن ذلك أن التاريخ هو محصول الأفراد لا الشعوب، أي أن الزعماء هم الذين يكونون التاريخ لا الجماعة، إذ الجماعة تساق فتنساق وتؤمر فتطيع ومن أجل ذلك أمر بكتابة تاريخ جديد، وأنشأ تاريخاً عاماً للعالم يستند إلى أساس العنصرية فيبدأ بالجرمان وبالشعوب الأوربية السياسية المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة، فتفحص فحصاً من جديد، وكل ما وجد فيها من حضارة يسند إلى الآرية كما فعل الفريد دوزنبرك في كتابه (خرافة القرن العشرين) 20 في الفصل الذي كتبه عن الحضارة العربية الإسلامية

وكان من جراء هذه النظرية تعديل الكتب التاريخية ومناهج البحث ووضع قواعد ثابتة للتأريخ وفق القيم النازية، ولقد لخصها الوزير الألماني ديترش كلاكس في كتابه التأريخ بما يأتي:

إن الحياة كفاح، والشعوب ليست بشيء أبداً دون زعيم، والشعب هو مستقبل الفرد، والمواطنين يرتبط بعضهم ببعض في السراء والضراء على قاعدة العنصرية والدم، وكل خائن عقابه القتل. يموت الفرد ويبقى الشعب، ولكن الشعب يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن تكون نقية ذات عنصر واحد.

ولكي تعيش هذه الشعوب تحتاج إلى قوى وجهاد وأسلحة وعتاد إذ بدونها لا تعيش الأمم. وبين هذه الأمم اختلاف في العقل والجسم، وفي مقدمة هذه الأمم الأمة الألمانية؛ لذلك فإن كل من ينادي بالأممية وبالتطور البشري وبحقوق الشعوب يجب عقابه عقاب مفتر كذاب، إذ أن الطبيعة البشرية تناقض ذلك. والشعب السعيد هو الذي يخضع لزعيم مطاع. والعنصرية هي مفتاح تاريخ العالم. (أنظر ص 141 - 143).

هذه هي نظرية الوطنية الاشتراكية وعقيدتها التي تتمسك بها وكل ما يتعارض مع هذه العقيدة ينظر إليه نظر المسلم إلى الكفر والإلحاد، لذلك فالماسونية والشيوعية والديمقراطية والأديان العالمية التي تساوي بين الشعوب والأفكار الأممية كلها آراء فاسدة تتعارض حسب نظرها مع الطبيعة البشرية والتأريخ. هذه هي فلسفة النازية، من أدرك شكل هذا الهرم الذي يمثل الزعامتين عرف المذهب تماماً وأدرك سبب كره هتلر للمبادئ المذكورة. ولعل في نفسية هتلر وقسوة العالم الخارجي بعد الحرب العظمى على ألمانيا هي الباعث على تطرف الألمانية الوطنية هذه

جواد علي

خريج جامعة هامبرج بألمانيا