مجلة الرسالة/العدد 325/كان ما كان!. . .

مجلة الرسالة/العدد 325/كان ما كان!. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1939



للأستاذ صلاح الدين المنجد

ترى لم تحط هذه الطيوف بمضجعي. . . في هذا الليل الوسنان، فتملأ نفسي حنيناً إلى أيام الطفولة اللاهية، ومرابع العيش الرغيد؟. . . ولم ترقص حولي، قافزة من حفافي السرير، رائعة في حنايا الستور. . . فتدفعني إلى إغماض جفني، أستشف من خلل الهدب الرفاف بالدمع، تلك المغاني الحبيبة، التي فارقتها منذ بعيد. . . فأضحت - يا رحمتا لها - خلاءً، لا البشر يضحك في جنباتها، ولا الأم الرؤوم تناغي فيها الوليد. . .!

لقد رأيت الآن. . . ذلك الطفل الذي درج بالأمس على قبلات الأهل، وبسمات الجيران؛ وتمثلته، وقد نبت بين الفضة الباهية والذهب الرّنان. . . ولمحت أمه تنظر إليه ضاحكة جذلى؛ ترى فيه منية النفس ورغيبة الشباب، ثم أراه. . . يرتع فوق الأرائك مع أخيه، في غرفة واسعة، وقد روّق الليل، وانتشر الظلام، وأرنو إليه يرسّ حديثاً في نفسه، كان قد سمعه من جارته الصغيرة تحت شجرة الليمون في النهار. . . ثم يسمع إلى أبيه يهمس في أذن أمه أن (سأودعه دار الشيخ غداً. . .!)، فلا يفهم الطفل عنه، ولا يحاول الفهم، على الرغم من حبه للاستطلاع، ورغبته في الكلام. . . فقد كان له في كرته الصغيرة، وفي أخيه الحبيب، غني عن السؤال، وغني عن الكلام!. . .

ويتهادى الصبح باسماً كغانية خلوب، فينتشر النور وينقشع الظلام. فإذا كان طفل الغداة، نادى الأب ابنه، ليرافقه إلى البستان. وتسرع الأم فتلبسه الرداء الفاخر والحذاء اللامع. لقد غضب آنئذ، وعلم أن الرداء يمزق فوق الغصون الدوالي. . . وأن الحذاء سيبلى في التراب الأحمر الناعم. ولكن الأب يمسك بيد ابنه ويمضي. . . وقد أطرق الوليد يفكر في الشجيرات التي يجعلها أرجوحة له، والفراشات التي سيطاردها في كل مكان. . . والعصافير التي سيقفز ليقبض عليها. . . فتفلت منه. . . والأزاهير التي يحملها إلى جارته الصغيرة إذا رجع إلى الدار مع المساء. ثم يحدث نفسه عن رفقائه المساكين الذين لم ينعموا بما ينعم به من عيش ليّن ولهو كثير؛ ولا ينسى أن يروّر في نفسه كلاماً يتأبه به عليهم إذا رآهم في الزقاق عند العشاة. ولكن الأب يمضي. . . لا يلتفت إلى ثرثرة الطفل، مسرعاً في مشيه، موفضاً في خطاه؛ والطفل يقفز وراءه كعصفور جذلان، ثم يقصد زقاقاً مظلماً من تلك الأزقة التي تعج فيها رائحة العفن ويتعالى الغبار. . . فينقبض صدر الطفل. . . فقد حدثوه أن الشيخ كامل، وهو مصدر التقوى والعفة والصلاح - كما حدثه أبوه - ومصدر الخبث والشر والفساد - كما حدثه رفيقه - يقطن بهذا الزقاق. فيبكي الطفل بدموع غزَّر ويحاول الفرار، ولكن الأب ممسك بيد ابنه يجره ويدفعه ويغريه باللعب إذا بلغ البستان، وينفحه (بنصف مجيدي) لينقطع عن البكاء. حتى إذا بلغ غاية الزقاق، عرج به فطرق باباً غليظاً. ويقف الطفل، ما يدري لِمَ يجره أبوه وهو الذي يحبه، ولم يدفعه وهو الذي يؤثره على نفسه.! ويفتح الباب شيخ هم، كان كلما تمثله في خاطره بعد ذلك اليوم قف شعر رأسه، وأغمض عينيه من الاشمئزاز: فقد بقى في ذاكرته، أنه كان ذا قامة فارعة، مسنون الوجه أسمره، خفيف العارضين، لم تبق الأيام من لحيته إلا شعرات لا لون لها نبتت هنا وهناك، تقفز وتهتز كلما ضحك أو تكلم. وبقى في ذاكرته أيضاً أنه كان أدرد، إلا من بضعة أسنان ملتوية صفراء تبعثرت في فمه الذي حسبه مغارة الجن ومأوى الشيطان. أما عيناه فكانتا غائرتين صغيرتين. . . يرد الذباب على موقيهما ليرتشف الطيبات، وهو يذكر أيضاً تلك السبحة الطويلة التي علقها في عنقه. . . وحسب حباتها الكبيرة (دحاحل) رفقائه الصغار، وتلك الجبة التي حال لونها وسخف نسجها. ويبادره الأب بالسلام، فيهش الشيخ ويبش، ثم يرحب ويقول: ما شاء الله. . . ما شاء الله. . . ثم يربت على كتف الطفل مردداً كلمات وتعاويذ لم يفهم الطفل لها معنى وإن كانت أطربته فأنصت لها. ويدخل الأب ويتبعه الطفل قائلاً بصوت حزين: (أهنا البستان يا بابا؟) ولكن الأب يحتال عليه ويسلمه للشيخ ليطعمه من نقله المبارك. فيدخل الطفل تتنازعه الرهبة من أبيه والرغبة في نقل الشيخ، ويرى فيما يراه آنئذ غرفة مظلمة سوداء لقي فيها رفقاءه الصغار؛ وقد جلس أحدهم فوق قطعة من الحصير البالي، يردد كلمات أفزعته وأضحكته، منحنياً إلى الأمام وإلى الوراء؛ ووقف ثانٍ يحملق فاغراً فاه؛ وانحنى ثالث يبكي بكاء كعواء الكلاب؛ فتستولي الكآبة على الطفل وينقبض صدره، ويرتد راجعاً ليرى أباه، فإذا بأبيه قد فر، وإذا بالشيخ يلحق به ليرجعه وفي يده بضع (سكرات) يدفعها إلى فمه الصغير. ويجلس الطفل بجانب الشيخ على دكه من القش. لقد جال بصره في هذه الغرفة الحقيرة، فرأى أشياء أنكرها، ولم يكن له بها عهد من قبل: شعر بهذا الظلام الذي يرفرف فوق الغرفة فيجعلها كالقبو الذي تضع فيه أمه ما رث من الأثاث، ورأى هذه العناكب التي امتدت في أعالي الجدران كأنما تريد أن تزّين الغرفة كما تزّين أمه الجدران بأوراق الشجر وأزاهير البستان، ولمس الحصير البالي فأبصر الخشب وقد نخره السوس، وحدق بتلك الخشبة المستديرة المستطيلة كبندقية خاله التي ودّ لو يحملها ليصبح جندياً فأبوا عليه ذلك، فتساءل لم عّلَّقها الشيخ ولم يهدد بها الصبيان؟

عندئذ ضاقت نفس الطفل فانفجر باكياً. . . ويقوم الشيخ ليخفف عن الطفل حزنه. . . ويكفكف دمعه، والصبيان يرمقونه دهشين، يحسدونه على ما يلقى من عطف، وما يظهره الشيخ من لطف، على حين يضربهم ضرباً ويصفعهم صفعاً. . . ولكن الطفل لا يهدأ، بل يزداد بكاءً وصراخاً، شأن الأطفال كلهم، فينادي الشيخ زوجته (الشيخة صفية)، التي علم الطفل أنها تجمع النساء يوماً في الأسبوع، ليقرأن معها (الوردُ)، وينقرن الدفوف، ويهززن الروادف والبطون ابتغاء مرضاة (الشاذلي) وتقرباً من الرسول. . . وما يكاد يراها طفل حتى يتولى عنها؛ فإن تلك الشعرات الطويلة التي تنبت على شفتها العليا، وتدلت فوق فمها الرخو أزعجته، على الرغم من دعائها له، وصلاتها على النبي، وقبلاتها التي اقشعر منها بدنه. . . فيعود إلى غرفة الشيخ يسأله عن أبيه، فإذا يجده يصرخ برفيق له، ثم يدفعه إلى الأرض ثم يعمد إلى تلك الخشبة المستديرة، فيجعل رجلي الطفل بين الحبل والخشب، ويفتل الخشبة مع صبي آخر. . . ويضربه بقضيب من خيزران ضربات موجعات فيصيح الصبي ويستعطف الشيخ، ويقسم لئن تركه ليحفظن الدرس ولكن الشيخ لا يلتفت إليه، فهو لاه عنه بعدّ الضرباتّ. . .

ويرأرئ الدمع في عيني الطفل - شفقة على رفيقه الصغير - فيهب منادياً: (هذا رفيقي. . . ليش تضربه؟)

فيحدق الشيخ في الطفل يوعده بالجزاء، فترعبه نظراته ويلجأ إلى البكاء. . . ويصرخ ويصيح. . . وينادي أمه وأباه، ويضرب وجهه بكفيه والأرض بقدميه، فيحوقل الشيخ ويرجع ويترك الصبي ليرضى الطفل، والطفل يبكي ويصيح. . . فيمضي الشيخ. . . ليأتي (بسكاكره) المحورة، فينقطع الطفل فجاءة عن البكاء. وينظر إلى رفاقه ويقول:

(راح. . . هيّا. . . تعالوا نهرب قبل أن يجئ. . . نغلق الباب. . . ألسنا أقوياء. . .

نختبئ في الزقاق. . . قوموا. . . قوموا. . .) ولكن الصبيان الذين ألفوا الذل واعتادوا الضرب، أنكروا ما قاله الطفل. . . فلم ينتظرهم بل تأبط حذاءه. . . وقام يعدو نحو صحن الدار. . . ثم فتح الباب وخرج إلى الزقاق يتنفس الصعداء. . .

ويعود إلى الدار كالقائد الظافر. . . فيستعيذ أبوه من الشيطان عند ما يراه، وتشهق أمه من العجب فتسأله كيف فرّ من الكُتاب! ولكنه يطأطأ رأسه ويسرع فينزع ثيابه. ثم يتسلق خشب العريشة، وينادي ابنة جاره الصغيرة فيسألها:

- أتلعبين بالدحاحل يا حسنا. . . لقد عدت من البستان! أما الأب فيعبس ويثور. وأما الأم فتضحك وتقول:

دعه. . . فإنه صغير

وانغمس في الفراش، وفي العين دمعة، وفي الصدر آهة، وفي النفس آلام

(دمشق)

صلاح الدين المنجد