مجلة الرسالة/العدد 326/من الأدب الفرنسي
مجلة الرسالة/العدد 326/من الأدب الفرنسي
امرأة نوح. . .
للأستاذ ناجي الطنطاوي
تناول الكاتب الكبير (جان نوروا) في هدأة من الليل، في غرفة عمله المنعزلة، الكتاب الذي وقع تحت يده وفتحه، فالتقت نظراته بهذه الجملة:
(. . . عندئذ أمطر الله من السموات على سدوم وعمورة الكبريت والنيران. . .
ولكن امرأة نوح نظرت خلفها، فانقلبت في الحال تمثالاً من الحجر. . .)
فقرأها، ثم أغلق الكتاب المقدس
لقد كان هذا مع خياله الواسع، نقطة ابتداء كافية جداً. . . لقد وجد قصته. لم يبق إلا أن يسكبها في قالب جديد. ولفت نظره، في جريدة بجانبه، هذا العنوان الضخم:
(انتحار شاب في مطعم ليلي)
فقرأه وابتسم. . . لقد تم له ما يريد، وتألفت القصة. ليس هناك حاجة إلى النظر في أعمدة الجريدة. لقد كان بطله ماثلاً أمامه، يراه بوضوح: فتى ممشوق القد، في العشرين من سنه، أحرقته حمى حب ملتهب، ولم تكن لديه الشجاعة الكافية للفرار فهلك. وما الفائدة من الاطلاع على التفاصيل التي توصل إليها مخبر الصحيفة؟ لقد كانت عناصر الموضوع وتفاصيله التي تبعث فيه الحياة، كانت تتجمع لديه شيئاً فشيئاً: المرأة الأفاقة، والفتى الضحية. . . وأخيراً الحكيم الذي تجده في كل قصة (صورة المؤلف ذاته)
كان جان نوروا يحس لذة فائقة في هذا التلاعب. ولكن كان يخيل إليه أن الكلمات والحوادث تأتيه هذه المرة بأسرع وأحسن من كل يوم.
وانقبض صدره فجاءة. لماذا تسيل الكلمات بهذه السهولة على ريشته هذا المساء؟
وتذكر أن هذه الكلمات ذاتها خرجت من بين شفتيه قبل الآن. . . ومنذ وقت قريب. . . على أثر مأساة كادت تزعزع كيانه
وأخذ يفتش، كالمحموم، بين أوراقه المبعثرة على المكتب. . .
وكان يتمتم: (مستحيل! ليس من الممكن أن يكون (هو) قد وصل)
و (هو) كان ولده الذي تبناه، موريس لا ندري، ابن أعز أصدقائه عليه. شاب حدث، ق خطواته في الحياة. يتيم، أخلص له، هو، جان نوروا، الأعزب الأناني.
لقد كان يذكر كيف تقبله عنده، وكيف أخذ يملأ قلبه وعقله من عقله وقلبه.
أجل، لم تكن جائزة جونكور التي نالها موريس في السنة الماضية إلا له هو، جان نوروا، ولولاه ما نالها. . .
ولكن ما كان أشد المأساة التي تبعت هذا النصر!
لقد علقت بموريس امرأة خطرة، فتأثر بها بشكل مزعج، بحيث أصبح من الضروري أن يتدخل جان نوروا، بقسوة في الأمر.
أين كانت ستقوده هذه المخلوقة بعد تبديد دراهمه القليلة؟ إلى الجنون؟ إلى السرقة؟ إلى الجريمة؟ ربما
لقد قال له وهو يعظه: (انتقل من هذا البلد. غيّر هذه الحياة. سافر دون أن تلتفت وراءك، وإلا فأنت هالك)
هه!. . . جملة التوراة بذاتها
وكانت تضطرب في يده إشارة تلغرافية من سَيْفون (الهند الصينية):
(ضجرت جداً. . . سأعود. . . أصدق عواطفي. . . موريس)
لقد غاظته هذه الإشارة حين تلقاها. النذل! وأخيراً، لا مناص من الحزم. لشدّ ما ساءه هذا
وهاهي ذي إشارة أخرى بين يديه:
(سَفْرة هانئة. . . سأكون في فرنسا قريباً. . . أعانقك)
وإذن ماذا؟
وكان جان نوروا يلتهم خبر الجريدة بنظراته. ما كان أروع هذه التفاصيل:
(بعد أن تعشى في المكان المذكور مع امرأة ذات هيئة غريبة، وبعد أن ذهبت صاحبته في الصباح الباكر، طلب الفتى غرفة خاصة وأخذ يحتسي فيها وحيداً أكواب الشمبانيا. وبعد نصف ساعة كانوا يخرجون به منها وقد اخترقت صدغه رصاصة. والبحوث الأولى تحمل على الظن بأن الفتى عائد من المستعمرات. ومع ذلك لم يتمكن من معرفة هويته)
وكان صوت خفي يصيح بجان نوروا: (ليس هناك أي شك، هذا الشاب المجنون هو موريس. . . موريس العزيز! وليس عليّ إلا أن أعدوا، لا أدري أين، للتعرف على جثته!) وكان جان قد وقف
وطُرق الباب في تلك اللحظة. . . فعرته رعشة وتمايل أليس هذا هو الخبر المشؤوم يحملونه إليه؟ وقفز. . .
ومع ذلك كان يتردد ويده على الباب
ولكن القرع عاود. . .
- أبي العزيز، أبي العزيز! هذا أنا! هذا ما كان يصيح به صوت عزيز عليه. . .
وفتح الباب سريعاً. . .
وبدا موريس جميلاً كالشبح
- أنت؟ أنت؟ أهذا أنت؟
- ولم الدهشة؟ ألم أخبرك بقدومي؟
- و. . . قدمت. . . من المحطة؟
- ومن أين تراني إذن أقدم؟
ومد له (جان) ذراعيه، فاندفع فيهما
ثم قال موريس:
- ما أشد سروري برؤيتك! كم ضجرت، باريز. باريز العزيزة! لم أكد أخترقها، حتى أحياني جوها!
وكان سكون. . . كان (جان نوروا) يفترس ابنه بنظراته كما لو كان يحاول الوصول إلى أعماق فكره. ثم صاح به وقد اصطكت أسنانه:
- لماذا عدت؟
فأجابه موريس مازحاً:
- لأني عاشق
- أتجرؤ؟
- ولم لا، يا أبي العزيز؟ فكرت فيها فوجدتها ساحرة ولا أدري في الحقيقة ما الذي يمنعني من زواجها. . .
- هم؟! وكان جان نوروا قد رفع قبضته. وصاح به:
- أنت مجنون
- أوه، ما هذا الذي تقول؟
- ما أقول؟ ستعود إلى السفر حالاً دون أن ترى (كريستيان) امرأة السوء هذه
فانفجر موريس ضاحكاً:
- ولكنني لا أتكلم عن كريستيان! هه، لقد نسيتها منذ زمن. . . أريد أن أتزوج فتاة - فتاة حقاً - لاقيتها هناك مع أسرتها، وقد عادت إلى باريس
ولم يعد جان يصغي إلى ما يقول، بل كان يضمه إليه
وقال موريس:
- ما أحسنك الآن! لقد قطعت عليك عملك فيما أظن، فأنت فيما أعرف لا تنقطع عن العمل، أليس كذلك؟ لقد قرأت هناك مؤلفك الأخير. بماذا تشتغل الآن؟
فرمى جان نوروا قطعة من الورق على ما كان يكتب، ولكنه لم يصب الهدف، وصاح موريس:
- امرأة نوح! هه، هذه القصة القديمة! مسخت تمثالاً من الحجر جزاء التفاتة! أعجب دائماً برموز الكتاب المقدس!
أما هذه النقطة فلن نتفاهم عليها قط.
فأجاب جان بحرارة:
- كلا، لا تستطيع أن تفهم، ولن تتخيل يا صغيري كم يسرني هذه المرة ألاّ تفهم!. . .
(دمشق)
ترجمة
ناجي الطنطاوي