مجلة الرسالة/العدد 327/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 327/رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن بين (الآميبات) و (الاميبين)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لي صديقة صغيرة غاية ما تريده مني هو أن تسخر بي وأن تحطم كل رأي أبديه ولو كان إعجاباً بها وتقريظاً لها حتى آمنت بأنها دسيسة مسلطة عليّ فلم أعد أحمل كلامها محمل الجد ولو كان تعزيزاً لرأي كنت قد أراه وأصدق عليه. فنحن ما نكاد نلتقي حتى نختلف منذ نتبادل التحية. فإذا قلت لها: (نهارك سعيد) قالت: (وكيف عرفت؟). فإذا قلت لها إن هذا دعاء وليس خبراً، سألتني: (ومتى كنت من أولياء الله الصالحين حتى تدعوه إلى إسعاد غيرك. . .؟ أفلا جربت دعائك لنفسك أولاً؟ فمن يدريك أن يستقبل الله رجاءك، من غضبه عليك، بسخطه ولعنته؟)
هذه هي صديقتي المفكرة التي قابلتني أمس وفي يدها العدد الأخير من الرسالة فما رأتني حتى نادتني:
- تعال، الله يخيبك!
- أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقية! ماذا حدث يا هذه؟
- حدث الحدث، ونزلت الكارثة. أهذا كلام تقوله عن استراوس وصاحبته؟
- وماذا كنت تريدين أن أقول؟ اكتبيه في ورقة حتى إذا اتفقنا عليه لا تعودين فتنقضينه. . .
- ناصح جداً. من ذا الذي قال لك إن البارونة فشلت مع استراوس؟
- هي التي قالته، وأرجو ألا تسأليني متى قابلتها ولا أين لقيتها، فهي لم تقل لي أنا بالذات، وإنما عبرت بهجرانها لاستراوس عن هذا الفشل الذي تنكرينه
- ولم لا يكون في هذا الهجر تعبير عن فشل استراوس نفسه؟ ألم يوافق هو عليه؟
- ربما يكون قد وافق عليه، ولكنه لم يسع إليه. ثم إنها هي التي بدأت مناوشته؛ فكان هذا دليلاً على أنها تريده، فهجرها إياه لا يدل بعد ذلك على شيء إلا أنها عجزت عما كانت تريد. . . فهي التي فشلت، وليس هو الذي فشل
- بل إنه هو الذي فشل منذ سمح لها بأن تريده ولم تأخذه عزة الرجولة، ولم يبدأ هو بالإرادة وإعلانها
- وما عزة الرجولة هذه؟
- بِه! أأنت أيضاً (ستراوس)؟
- فال الله ولا فالك! ولكني أريد أن أتفق معك على تحديد معناها حتى لا نختلف بعد في المناقشة
- عزة الرجولة هي قوة الأمر التي خص الله بها الرجل ليتسلط بها على المرأة
- وما المرأة؟
- والمرأة أيضاً تريد أن نتفق على تحديد معناها؟
- إذا كان لها معنى؟
- داهيتك أسود من الليل! المرأة هي شريكة الرجل في حياته
- بأي حق. . . إلا حق الضعف؟
- بحق القدرة على النسل. وليس رجل قادراً عليه بغير امرأة
- كان استراوس قادراً عليه بغير امرأة. وليس استراوس وحده الذي استطاعه، وإنما استطاعه مثله كثيرون غيره.
- هذا هراء. وإذا كان هناك من أعقب من غير شريك، فإنها مريم العذراء. . . ولم تكن رجلاً. . .
- وكانت آيتها: أنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. لم يجد كتاباً، ولم يجد وحياً، ولم يجد آية أخرى
- ماذا تعني؟
- أعني أنها رضي الله عنها كانت هبة آل عمران للخبير الرحمن، وأنها اتقته وتبتلت له، فأغناها عما تطلبه كل امرأة من هذه الدنيا وهو الرزق، فيسره لها من حكمته وكرمه، ثم نفخ فيها من روحه، فكانت هذه هي معجزة المرأة الكبرى: أن ينفخ فيها من روح الله. . . ومع هذا الجلال، فإنها بمشيئة الله لم تعقب من روحه فكرة، وإنما أعقبت المسيح الإنسان (ص)
- وهو كلمة الله!
- المتجسدة! الجسد! ولا تنس أنه رجل، وانه أعقب ديناً جل من دين.
- وهو ابنها؟
- وهل أنكرت أنا هذا؟ ولكن دينه ليس منها!
- الدين من الله.
- وكل حق من الله، سواء أكان ديناً أم كان علماً، أم كان فناً. . .
- تريد أن تنسب الفنون أيضاً لله؟ حرام عليك!
- حرمت عليك عيشتك! أليست الفنون هبات من الله ومنحاً؟ هل يستطيع كل إنسان أن يكون فناناً إلا من وهبه الله القدرة على ذلك، ومن أخذ نفسه بطلبه. . . إن الله وعد عبده التقي أن يعطيه حتى يرضى. . .
وقد اتقته مريم (رضى الله عنها) فأعطاها رزقاً، واتقاه المسيح فأعطاه ديناً، ويتقيه ناس فيعطيهم فنوناً. . . ألم تسمعي بالإلهام؟
- ما أكثر الذي نسمعه، وما أقل المعقول فيه. . .
- ليست مسألة الفنون يا مولاتي شيئاً يفهم بالعقل. . . إنها كالحب تماماً شيء يحس. . . هل تعرفين ما معنى (يحس)؟ كما تخزك الإبرة، وكما تلسعك النار. . . وكل ما في الأمر أنهما وخز ولسع روحيان. . . فهل تعرفين ما هي الروح؟
- من أمر ربي.
- ولا شيء غير هذا؟
- القرآن عرفها بهذا، فهل عندك أنت تعريف أوضح منه؟ توقح وقل ما شئت وعليّ وعلى الأزهر الشريف ما بعد ذلك
- هو ذنبي أن أناقش امرأة إذا قهرتني جمعت علي الناس شماتةً وغلا. فإذا هممت أن أصرعها استنجدت وولولت وبكت واستعدت على كل من تأخذ نفسه الرحمة والشفقة بحواء الضعيفة التي سيقتلها الوحش الذي هو أنا. . . أليس كذلك؟ أني ألقي السلاح يا آنسة
- إذن فقد فشلت - كما فشلت البارونة مع استراوس
- لكنها لم تفشل. وإنما كانت في أنوثتها أنصع من استراوس في رجولته. وقد كان عليه أن يتطهر وأن ينقي نفسه ليدركها وليطاول حسنها. . .
- أما كان استراوس متطهراً؟ هذا الذي لم تخلبه الأبدان مثلما كانت تستهويه الأرواح من ورائها؟
- ما هذا الكلام الفارغ الذي لا معنى له. أنا لا أعرف إلا أن الله خلق الناس ذكراً وأنثى. وكل منهما في حاجة إلى صاحبه. وعلى الرجل أن يطلب الأنثى وليس عليها أن تطلبه، بل إن عليها أن تتريث وأن تتمنع، وأن تنتظر حتى تتأكد أنه يريدها حقاً، كما قلت لك أن للرجولة عزة، فإن للأنوثة كرامة، وكرامة الأنوثة تقتضي هذا التريث وهذا التمنع حتى لا يجيء يوم يعير فيه الرجل المرأة بأنها هي التي طلبته، أو أنها هي التي ألقت بنفسها بين ذراعيه. . .
- ليس هذا كرامة كما تقولين، وإنما هو نفاق
- بل إنه كرامة
- كان يمكن أن يكون كرامة لو أنه كان ممكناً أن تعيش المرأة من غير رجل، ولكن ما دامت هي تحتاج إليه حقاً فالتريث والتمنع واللف والدوران، وغير ذلك مما تتقنه بنات حواء ليس شيئاً غير الإثارة الجنسية، فإذا خفتت النزعة الجنسية في الرجل لم تعد هذه الصناعة تجدي شيئاً.
- ليست هذه صناعة، وإنما هي طبيعة
- فليكن
- فليكوننّ! والآن قل لي كيف تخفت النزعة الجنسية في الرجل
- كلما كف عن حياة الحيوان، وكلما استخلص من الحياة الفضائل، ومن هذه الفضائل تلك الكرامة التي تتحدثين عنها، والتي تريدين أن تقفيها على الأنوثة
- ولكن هذه الكرامة التي أتحدث عنها خاصة بالأنوثة وحدها ولا يمكن أن تجتمع في الرجل هي وقوة الطلب التي تلتهب فيه الرغبة، والتي تدفعه وتحدوه إلى التسلط على المرأة. . . لا يمكن أن يحدث هذا الذي تقوله إلا إذا كان الرجل (كالأميبة) ينشق جسده شقين، ثم ينشق كل شق منهما شقين، فلا ذكر، ولا أنثى، ولا زواج، ولا تناسل. . . فهل في الرجال (أميبون) يا هذا؟
- فيهم يا آنستي فيهم. . . كما أن في النساء (أميبات)!
- وما هؤلاء؟
- هن اللواتي بلغن للعالم رسالات. هن اللواتي خلفن لهذه الدنيا آثاراً. هن اللواتي أعرضن عن الرجال كثيراً أو قليلاً، وتداخلن في أنفسهم، ثم انشققن على أنفسهن فأنجبن أحياء غير البنين والبنات. صحيح أنني لا اذكر منهم ولا واحدة لأني قليل الإطلاع على التاريخ، ولكنك تستطيعين أن تسألي عنهن واحدة من بنات جنسك المثقفات. اسألي الآنسة سهير القلماوي. اسألي الآنسة. . . لا. . .
- من هي الآنسة (لا) هذه؟ يابانية هي؟
- عجائب! ألا تعرفينها؟ أستاذتك التي لم يمنعها من دراسة هذا الموضوع معك، إلا أنكما أنثيان تعودتما ألا تمسا الحقائق إلا من بعيد.
- وما لك تحمل عليها هكذا؟
- لأنها (أميبة) ولكنها متكتمة. . . وأنت (أميبة) مثلها ولكنك مترددة!
- لا تقل هذا. . . إني أموت إذا خلته حقاً.
- وهل في الحق ما يفزع؟ الحق جميل، وهو من عند الله فأحبيه يا مكروبتي الصغيرة. . . ولا تكوني مثل بارونة استراوس!
- آه منك! لقد طوحت بنا إلى موضوع لم يكن يخطر لي مطلقاً أن أندفع إليه. وما دمنا قد مسسناه، فأظنك لا تمتنع عن المضي فيه إلى آخره. . . هل تصلح الحياة بين (الأميبة) و (الأميب)، كما تصلح بين والمرأة والرجل؟
- إما أن تصلح صلاحاً ما بعده صلاح. . . وإما أن تستحيل استحالة ما بعدها استحالة. . . ولا وسط بين الحالتين. . . والدرس الواحد في هذا الموضوع بعشرة جنيهات، فهو موضوع لم يطرقه إلى اليوم أحد.
- يا لك من مادي مظلم! عشرة جنيهات مرة واحدة!
- وعلى أي حال فإني أرضى منك الآن (بسيجارة). . . أشعليها ولكن بعد أن تمسحي عن شفتيك هذا (الأحمر) الذي تكذبين به على الناس وعلى نفسك. . .
- يا لطيف! هل أكلت اليوم مسامير تنفخها في كلامك فتخرق بها الآذان والأفئدة؟
- يا ما أكلت المسامير والزجاج والنار. . . وتجيئين أنت في آخر الزمن لتهزئي بالسحار الذي علمته الأفاعي الصدق والرحمة، لنا الله معاً.
- هل هذا الكلام موجه لي أنا؟
- لك أنت، لكما أنتما، لكن أنتن، لي أنا، لنا نحن. . . ألا تحفظين بقية الضمائر؟
- لا ريب أنك مجنون؟
- ولم لا؟ ربما كانت البارونة تقول هذا عن استراوس! أما هو فلا ريب أنه قال هذا عنها
- فأيهما كان المجنون؟
- الاثنان معاً!
- لماذا؟
- لأنهما افترقا، ولم يكن يصلح لها غيره، ولم يكن يصلح له غيرها. وما كانت لتهجره لو أنها قرأت مقال الأسبوع الماضي الذي أسخطك، فقد كانت (أميبة) لا يعجبها كل رجل، وكانت فيها قوة الإبداع الفني والانشقاق على نفسها، وإن كانت لم تمارسها لظنها أنها امرأة
- بدأ الغرور يركبك
- أعتذر. وأستغفر الله. وأمسح الأرض بوجهي ورأسي بين يدي جلاله وعزته، وأعود فأقول إنهما كانا يتفقان لو أنهما رأيا نفسيهما كما أراني الله إياهما. . . ألم نقل إنهما كانا (آميبين) كل منهما ينشق على نفسه فنوناً، أو لم أقل لك إن من (الأميبين) من يصلح (للأميبات) كل الصلاح. لقد كان هذان من هؤلاء
- كيف؟
- الرجل يا آنستي ابن رجل وامرأة ففيه من الرجولة والأنوثة، وهو لم يكن رجلاً إلا لأنه ورث من أبيه أكثر مما ورث من أمه. فلو تعادل الذي ورثه منهما كان خنثى، وكذلك المرأة، وفي الرجال من تبلغ رجولتهم تسعين في المائة من حيويتهم وهؤلاء (حيوانون) أكثر منهم أناسا، ولعل راسبوتين كان من هؤلاء، فالتاريخ يروي أنه كان يعصف بالنساء عصفاً، ورجل مثل هذا لا تشبعه المرأة إلا إذا بلغت أنوثتها تسعين في المائة من حيويتها هي أيضاً، وهذا الصنف من الرجال والنساء هم الذين يصفهم أهل هذه الأيام بأنهم أصحاب السكس أبيل. أما الرجل الذي لا تزيد رجولته على ستين في المائة مثلاً فلا بد له من امرأة ليس فيها ما يزيد على ذلك من الأنوثة وهذان يتحابان ويتقاربان. . .
- وكيف تعرف هؤلاء الرجال. . . هل يظهرون للأعين؟
- نعم. فيهم من ملامح النساء. . . استدارة الأطراف، طراوة الصوت، دلال المشية، واستدارة الأعناق أيضاً. . . وبروز الأثداء. . . والنساء الأميبات فيهن من ملامح الرجال غزارة شعر الشاربين، وضئولة الأثداء، وعنف المشية. . . وهناك علامات غير هذه. . .
- ومتى لا يتحاب (الأميبان) ولا يتقاربان. . .
- عندما تشتط الأنوثة في الرجل، أو الرجولة في الأنثى. أو الاثنتان معاً. . . عندئذ يتنافران
- وماذا أيضاً؟
- فكري برأسك هذا قليلاً. . . ولا تقولي (ماذا وكيف) أفأن لم تسألي لا تتفهمين؟
- لقد دخت. . . دوخك الله أنت واستراوس
- أما أنا فقد دوخني الزمن. . . وأما استراوس فقد دوخه الفن. . . إلى اللقاء
عزيز أحمد فهمي