مجلة الرسالة/العدد 328/التعليم والإنتاج

مجلة الرسالة/العدد 328/التعليم والإنتاج

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1939



للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

ها قد انتهت العطلة الصيفية بخمولها أو آذنت بالانتهاء. ودب في المعاهد التعليمية نشاطها وعادت إليها حركتها السنوية العادية، حركة القبول والرفض وتوفير المحال للطلاب. وهي حركة تشمل عدداً كبيراً من أبناء هذه البلاد وتشغل بال أولياء الأمور كما هو الحال في مثل هذه الأيام من كل عام. وهي حركة إن نمت عن شيء فهي تنم عن إقبال شباب الأمة فتيانها وفتياتها على معاهدنا سعياً وراء العلم والتعلم. وهي لا شك بشير الخير والبركة لو سار التعليم عندنا سيرته عند غيرنا، ولو اتجهت معاهدنا في توجيه أبنائها الاتجاه الصحيح الذي يدفع بالشباب إلى السبيل المستقيم سبيل الإنتاج، لأن حياة الأمم وعزها وقوتها في الإنتاج، والفرد غير المنتج، تكون حياته عديمة القيمة. فإلى أي حد يا ترى أصبح تعليمنا منتجاً؟ وإلى أي مدى يا ترى تعد مدارسنا أبناءها ليكونوا مواطنين منتجين؟ وكم في المائة منهم يلجون أبواب الإنتاج الفعلي بعد تخرجهم في معاهدهم؟ وهل تستطيع معاهد التعليم عندنا أن توافينا بعدد خريجيها في كل عام، وعدد من انخرطوا منهم في سلك الإنتاج والمنتجين، وعدد من أصبحوا منهم في عداد الموظفين، وعدد من بقوا عالة على أهلهم وصاروا في عداد المتعطلين؟

هذه أسئلة قد اعترضتني أثناء البحث الذي أجريته خاصاً بمؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) ولم أستطع أن أجد لها حلاً وافياً لأني سألت كثيراً من المعاهد في ذلك، فلم يرد علي البعض ورد البعض الآخر رداً مقتضباً عديم القيمة، ولكن مدرسة واحدة هي مدرسة التجارة المتوسطة بالإسكندرية ردت علي رداً وافياً بإحصائية كاملة عن حالة خريجيها من سنة 1930 إلى سنة 1937 أوردتها بصفحة 250 من مؤلفي السابق الذكر. ويتبين منها أن عدد خريجي هذه المدرسة بين العامين السابقي الذكر هو 531 منهم 201 موظفون في الحكومة أي بنسبة 37. 7 في المائة ومنهم 98 موظفون في الشركات والمصارف أي بنسبة 18. 5 في المائة ومنهم 165 متعطلون لا عمل لهم أي بنسبة 31. 1 في المائة ومنهم 37 حالتهم مجهولة أي بنسبة 7. 2 في المائة ومنهم 23 يزاولون أعمالاً حرة أي بنسبة 4. 3 في المائة، وقد ارتفعت نسبة المتعطلين في العام الأخير عام 1937 ارتفاعاً كبيراً؛ فكان عددهم 76 من 98 متخرجاً أي بنسبة 77 , 5 في المائة مما يدعو إلى الأسف الكثير. ومما يدعو إلى الأسف الأكثر أن 4. 3 في المائة فقط من المتخرجين جميعهم هم الذين ولجوا أبواب الإنتاج الحقيقي بمزاولة الأعمال الحرة

ولقد كان من السهل علينا الحصول على نتيجة حاسمة في هذا الموضوع لو أن كل معهد من معاهدنا احتفظ بسجل خاص بخريجيه يمكنه من عمل مثل الإحصائية السابقة وتقديمها لكل باحث في هذا الموضوع الهام الذي له شأن كبير في توجيه التعليم ورسم سياسته. وأعتقد أن وزارة المعارف لا بد أن تعنى به عناية جدية في عهدها الجديد المبشر بالخير. على أنه قد استجدت في مصر الآن حركة قوية غمرت معظم معاهدها، وأخذت بلب شبانها، ووجهت الكثيرين منهم وجهة جديدة، هي الانخراط في سلك ضباط الجيش العامل والمرابط، أو في زمرة عمالة، وهي حركة تبشر بالخير، وتنبئ عن صدق الوطنية وحرارتها، وتقابل من جميع المصريين بالتقدير والإعجاب، ولكنها حركة مؤقتة أوجدتها ظروف المعاهدة وظروف الحرب الحاضرة. وليس من الممكن أن تستنفد الكلية الحربية كل خريجي مدارسنا الثانوية، ولا أن تستنفد ملحقاتها من مدارس صناع الجيش ومصانعه كل خريجي مدارسنا الصناعية. وإذا كانت الكلية الحربية قد أخذت عدداً كبيراً من هؤلاء، وإذا كانت المدارس الحربية الملحقة بها قد أخذت عدداً آخر كبيراً من أولئك، فإنها في الوقت نفسه قد رفضت منهم العدد الأكبر وردتهم عنها رداً خيب آمالهم وآمال أهليهم في توفير عمل يضمن لهم العيش في المستقبل. . . ولا شك أنها سترد عنها في السنين المقبلة جموعاً غفيرة من هؤلاء الطلاب أكثر بكثير ممن ردتهم هذا العام، لأن استيعابها للعدد الكبير منهم الآن راجع كما أسلفنا لظروف الحرب وظروف تنشئة الجيش العامل والمرابط وتكوينهما وتسليحهما، وهي ظروف طارئة لا تلبث أن تزول، وبزوالها يعود الآلاف من شباننا من خريجي المدارس والمعاهد يتراكمون، كما قال المسيو كلاباريد في تقريره، كأنقاض الهدم لا يرجى منهم للإنتاج خير. ولذا أصبح لزاماً علينا أن نفكر جدياً في ربط معاهدنا بالحياة العامة حياة العمل والإنتاج ربطاً حقيقياً، كما فعلت قبلنا أمم وكما تفعل الآن الأمم الحية. على أننا نستقبل هذا العام الدراسي الجديد بخطوة طيبة خطتها وزارة المعارف نحو الإصلاح المنشود، وهي خطوة نادينا في تقاريرنا المتكررة إلى الوزارة بضرورة تنفيذها منذ أكثر من عشر سنوات كما نادى بتنفيذها الخبيران الفنيان المستر مان والمسيو كلاباريد في تقريريهما قديماً إليها

تلك هي إنشاء المناطق التعليمية الجديدة، وهي خطوة حسنة تخلصنا من أعباء المركزية الثقيلة وقيودها ولكنها في نظرنا لن يكون لها أثر فعال في إصلاح معاهد التعليم وربطها بالحياة العامة حياة الإنتاج إلا إذا تخلصنا من أمر أشد ثقلاً على المعاهد من المركزية نفسها، لأنه يقيدها بأثقل القيود، وينهك قواها في مجهودات غير منتجة ويضطرها إلى التزام طريق خاصة تبعدها كل البعد عن الاتصال الفعلي بمصادر الإنتاج في الحياة العامة: تلك هي الامتحانات وأعباؤها. وإذا كان الثقات من علماء التربية الحديثة أمثال دكرولي ومنتسوري وديوي الخ يقررون أن المعاهد يجب عليها ألا تتصل فقط بمصادر الإنتاج المحيطة بها، بل عليها فوق ذلك أن تكون هي نفسها مصادر للإنتاج على نمط مصغر أو مكبر حسب ظروفها - فكيف يمكن لمعهد من المعاهد يضع نصب عينيه إعداد تلاميذه للامتحان في مسائل خاصة امتحاناً يعد هو الحد الفاصل في مستقبل تلميذه؟ كيف يمكن لمثل هذا المعهد أن يحيد قيد أنملة عن المنهج الخاص بذلك الامتحان أو أن يفكر لحظة في غير مسائل الامتحان الذي يرفع الناجح ويقضي على الراسب، لأنه يعد الحد الفاصل بين العلم والجهل وبين الذكاء والغباء كما يقرر أنصار القديم؟ وكيف يمكن لناظر أو مدرس أن يفكر في غير الامتحان أو أن يعمل لغير الامتحان وهو المسئول عن نتيجته ومن ورائه المفتش يعمل وينقب للوم كل من يخرج عن المنهج المقرر في أمر ما مهما كان الأمر هاما ومهما كان متعلقاً بحياة الطالب ومستقبله؟!

لهذا كله لا أشك في أن الامتحانات بعد تنفيذ اللامركزية أصبحت بصورتها الحاضرة هي العقبة الكأداء التي تعوق المدارس عن القيام بواجبها الحقيقي نحو أبنائها، إذ هي علاوة على ابتلاعها لوقت المدارس والمدرسين والنظار والطلاب وحرمانها إياهم من الاتصال المباشر بالإنتاج المحلي وتعرف دقائقه وأسراره ليست مقياساً مضبوطاً للكفاية كما نمت عن ذلك التجارب والإحصاءات وكما قرر ذلك أكابر الثقات، ثم هي فوق ذلك تحرم المدارس من العناية بشخصية التلميذ كفرد مستقل له ميوله الخاصة واتجاهاته الخاصة التي يعني بها الآن أكبر عناية في جميع المدارس الحديثة في البلاد الأخرى، كما أنها تعمل على تنمية بعض قواه العقلية وإهمال البعض الآخر مما له أهمية كبرى في حياته، وتفقده لذة العمل للعلم ذاته علاوة على ما فيها من مرتع خصيب للغش وإفساد الأخلاق وقد كتبت عن مضارها فصلاً مطولاً في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 198 إلى صفحة 213 بدأته بما يأتي: (إذا كان أظهر عيوب السلطة التعليمية المحركة للأعمال الفنية والإدارية عندنا هو المركزية فإن أظهر عيوب الأعمال المدرسية هو الامتحانات) وقد جاء فيه (وإذا كان علماء التربية في البلاد ذات التعليم الحي التي تربط تعليمها ومدارسها بالحياة العامة قد أجمعوا على أن الامتحانات ليست مقياساً حقيقياً للكفاية فإن مدارسنا لا زالت إلى اليوم تعتبر النجاح فيها هو الغاية الوحيدة التي ترمي إليها، وأصبحت الشهادة في نظر الجميع هي الدجاجة ذات البيض الذهبي التي تدر على صاحبها الذهب والفضة والخير والحياة السعيدة فهي الغاية التي ليس من ورائها غاية الخ)

وإذن؛ فقد وضح الآن أنه لا سبيل إلى جعل اللامركزية مجدية ومفيدة في سبيل إصلاح معاهد التعليم وربطها بحياة الإنتاج ربطاً يدفع بأبنائها إلى حياة العمل إلا بالتخلص من شر الامتحانات إما بإلغائها أو بتعديلها تعديلاً كبيراً يخفف من شرها ويفسح المجال للعمل بدونها. وإن مصر كلها لتضع آمالها في إصلاح حال التعليم وجعله منتجاً، في ذلكم المعلم الفذ الذي دانت لهمته الكبير ألوية الثورة المصرية قديماً كما دانت لشخصية القوية ونزاهته ألوية النهضة حديثاً، ذلكم المعلم الفذ القابض على زمام وزارة التربية والتعليم الآن الذي يجعلنا بماضيه المجيد نضع في جرأته وقوة شكيمته ومضاء عزيمته آمالنا في الإصلاح المنشود، سائلين الله تعالى أن يوفقه لخير العلم والتعليم، ولخير مصر والمصريين.

عبد الحميد فهمي مطر