مجلة الرسالة/العدد 329/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 329/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1939



تحت راية الإسلام

لفاضل مسيحي

بقلم الأستاذ عز الدين التنوخي

(تحت راية الإسلام): كتاب جديد يبحث عن سيرة النبي العربي وحقيقة الإسلام، ويدرأ عنهما شبهات المبشرين ومفتريات المستشرقين ألفه الأستاذ خليل جمعه الطوال العربي المسيحي الكاثوليكي، من أدباء شرقي الأردن أو مشارف الشام؛ ولو كان المؤلف عربياً وأرثوذكسياً لخف العجب، ولكنه يؤلف (تحت راية الإسلام) وهو كاثوليكي وبابوي صميم!

وكثيراً ما كنت أجادل بعض إخواني من دعاة الجامعتين العربية والإسلامية، وأكثر من الاحتجاج لرأيي القائل بأنه لا فرق بين العربي الأرثوذكسي وأخيه الكاثوليكي إذا ما بُثت فيهما روح العروبة منذ الصبى، لا فرق بهذا الشرط بينهما في الإخلاص لدين العروبة، وبالتالي للأمة العربية ودولها العربية

ولولا مدارس التبشير الأجنبية، وما تبثه في بلادنا الشامية من روح التعصب، وما تنشره في صفوف المدارس من الدعايات السياسية المصمومة، لولا ذلك لكانت لعمري روح شباب الشام واحدة، على الرغم من اختلاف الأديان، ولما كان للأقليات نواب في مجلسنا النيابي، ولما وجد المستعمرون مطايا لهم في بلادنا العربية. ولو كانت الروح القومية واحدة لرأينا العربي المسلم يدرس إلى جانب العربي الأرثوذكسي والكاثوليكي على مقعد واحد في مدرسة واحدة.

ومن دعاة الجامعة الإسلامية من يوجس في نفسه شراً من الجامعة العربية، وكأنه يحسب أن الإفراط في الارتباط بالقومية، والمبالغة في التمسك بحبل العروبة مما يحل عقدة العقيدة، ويوهن عصب الجامعة الإسلامية، ومن دعاة الجامعة العربية من يخال أن الجامعتين متضادتان، وأنه قلما اجتمعت الوطنية الصحيحة والقومية الصادقة في أحد من دعاة الجامعة الإسلامية، وكلا الفريقين غال في رأيه، مخطئ في حكمه: ذلك لأن العربي المسلم قد يشاطر الياباني والهندي المسلم عقيدته وعاطفته وهيامه بالمثل الإسلامي الأعلى، ويحب لهم من الخير والاستقلال وبلوغ الكمال ما يحب لنفسه؛ ولكن حبه الخير لأخيه في الإيمان لا ينافي حبه الخير والسعادة لأخيه في الأوطان.

ولا ضرر على الإسلام ولا ضرار في انتشار دين العروبة في البلدان العربية، فكثيراً ما عرفت بين نصارى العرب أو عرب النصارى من شبان يدينون بدين العروبة، ويجاهدون في سبيلها حق الجهاد، ومنهم من هو أكثر خيراً للعروبة وأقل ضرراً للإسلام من بعض ملاحدة المسلمين.

ذلك لأن منهم من كانت عروبته الصادقة تحطم قيود عقيدته التقليدية، وتحمله على درس القرآن وسيرة النبي العربي، فيجلو بدرسه الحر وبحثه المستقل وما ران على قلبه من أضاليل المستشرقين ودعايات المبشرين.

ولو سردت أسماء إخواني في العروبة في لبنان وفلسطين والشام والعراق ومصر وأمريكة وعرضت لذكر آرائهم لضاق بي نطاق البحث، وحسبي أن أذكر من هؤلاء الأدباء النجباء في أرومتهم والصرحاء في عروبتهم الأستاذ خليل جمعه الطوال مؤلف (تحت راية الإسلام)

لقد عرفت قبل اليوم هذا المؤلف معرفة روحية بقراءة ما كان يكتبه في مجلة الرسالة من الأبحاث الدقيقة الممتعة، وعرفته في الفيحاء اليوم عربياً مشهوداً له في بلاده بصدق النسب العربي، والاعتزاز بالنبي العربي، الذي أحيا أمته وجمع بعد تفرق شملها، وشفاها من أمراض الجاهلية المعضلة، وأخرجها من القبلية الضيقة النطاق، إلى الشعبية الفسيحة الآفاق، فجعلها أمة واحدة تحمل بيمناها كتاب القرآن، وبيسراها كتاب علوم الأكوان، فهدت بالأول الأمم إلى مَسمى الإنسانية، واهتدت بالثاني في معترك حياتها الدنيوية، ففازت بالإسلام بسعادة الدارين معاً

استمع لما توحيه إليك كلمة المؤلف في مطلع كتابه إذ يقول: (لقد نشأت بتأثير تربيتي المسيحية الكاثوليكية نفوراً من الإسلام كارهاً له ولأهله، لا أقر له بحسنة، ولا أبرئه من سيئة، وغاية ما كنت أعرفه عنه أنه شريعة فاسدة تنطوي على عيوب كثيرة، أقامتها جماعة من الغزاة المحبين لسفك الدماء والنهب والسلب، ثم اعتنقتها شعوب بدائية وأمم بربرية لا حظ لها من الثقافة والمدنية. ولست أرى عليَّ الآن أيّ لوم في تلك الصورة الملفقة المشوهة التي كنت أحملها عن الإسلام، لأني لم أكونها لنفسي بنفسي، ولا بنيتها على ما قد انتهى إليه اجتهادي في دراسة حقيقة الإسلام، أو اقتنعت به بعد إنعام النظر وإعمال الفكر في كتابه، ولكني ورثتها منذ حداثتي وراثة تقليدية. . .)

ورأى صديقاً له مسلماً يبتاع نسخة من التوراة والإنجيل ليدرسهما قائلاً له: (من الناس من يكره شيئاً ويحب آخر دون أن يكون له في كلا الحالين أمر أو رأي، ولكنه مقيد في جميع سلوكه بمألوف عادات بيئته وتقاليدها، ويسرني أنني لست من ذلك الطراز، ولذلك اشتريت هذه الكتب لأقبل ما فيها أو أرفضه عن فهم واقتناع لا عن جهل وتعصب)

ورأى أن حالة صديقه المسلم تنطبق عليه، وأن كلمته هذه الحرة جدير به أن يقول مثلها إن كان منصفاً وعاقلاً حراً. قال المؤلف: (ثم نظرت فإذا بي أكره أخي العربي المسلم وأنفر منه وأتحاشاه لا لعلة إلا لما كان من إسلامه الذي كنت أشعر بكراهته قد خالطت لحمي ودمي، إلا أنني على كل حال لا أكاد أعرف عنه إلا اسمه، فعزمت لذلك على دراسة أملاً أن أقف على صحته أو فساده

(وفي ذات يوم عرجت على إحدى المكاتب العربية وابتعت منها نسخة من القرآن العربي المبين، وأخرى من سيرة ابن هشام فطواهما البائع لي في رزمة، وتسللت من عنده كاللص، واضعاً إياها بين ملابسي، وحريصاً كل الحرص على ألا يطلع عليها أحد من أقاربي وأهلي، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت سوى ذلك تحرم على المسيحيين مطالعة جميع الكتب الدينية غير الكاثوليكية ولو كانت مسيحية، فكيف الكتب الإسلامية؟!)

تلا المؤلف القرآن باستقلال فكر وإنعام نظر، وقرأ معه سيرة ابن هشام فرأى ما رأى من شبهات غير المحققين من المبشرين وشاهد ما شاهد من مفتريات غير المحقين من المستشرقين، فكان كما قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: (من عرف الحق عزَّ عليه أن يراه مهضوماً)، ولذلك انتبه من رقدته منتصراً لمحمد فخر أمته، وللحق يراه مهضوماً، وللعدل يبصره مظلوماً، فألف كتابه هذا (تحت راية الإسلام)

على أنه ينتظر لمثله أن يؤذى ويظلم في حرية تفكيره فقد قال المسيحيون عنه: (زنديق مارق عن الدين وكافر يجب حرمانه) وأجاب المسلمون: (بل هو دجَّال متملق يقول هذا لغرض يريده حتى إذا ظفر به انقلب على عقبيه)، ولقد ظلم كثيراً من المسيحيين والمسلمين بقوله هذا، لأن المسيحيَّ العاقل الفاضل يعذره، ولا يكفره، إذ لا يجتمع عقل سليم وتعصب ذميم، والفضل يحول بين المرء والعدوان في كل زمان ومكان؛ وأما المسلم الذي يعرف ما لقيه المؤلف في سبيل عقيدته الحرة من ضروب الأذى، فإنه لا يقول لمثل خليل جمعة الطوال متملق دجال!

إن دين الله السماويَّ واحد، وكالقطر حين ينزل من السماء واحد، وتحليله الكيميائي واحد، وإنما تباعدت النصرانية الحاضرة عن الإسلام بكثرة ما دخلها من الزيادات الكنسية، كماء السماء ينزل صافياً نقياً، وكلما ازداد اتصالاً بالأرض وجرياناً عليها قل صفاءه بمقدار ذلك وبقاءه، والمؤلف مع اعتقاده بمحاسن الإسلام وصدق دعوته العامة لا يزال يعتقد بالنصرانية الأولى ولا يرى تنافياً في الدعوتين، لأن الإسلام كما قال السيد جمال الدين الأفغاني: نصرانية وزيادة، ولذلك يقول في كتابه (تحت راية الإسلام) ما نصه: (إن اعتقادي الصحة في معتقدي لا يمنعني البتة من أن أعتقدها في مذهب غيري)، ويقول في موطن آخر معترفاً بأن محمداً لم يرسل إلا رحمة للعالمين: فبه اهتدت السفينة الضالة وكملت البشرية الناقصة، وعزت الإنسانية المهينة، فمن لم يحبه عن طريق الدين الذي أظهره، أحبه عن طريق الدنيا التي طهرها، ومن لم يمجده عن طريق الإسلام الذي رفع مناره مجَّده عن طريق العنصر العربي المجيد الذي أعز مكانه ورفع قدره وأعلى كلمته. . .)، فالأستاذ خليل جمعه الطوال الذي شرح الله للإسلام صدره لا يزال في يوم الناس هذا ممن يكتم إيمانه، وإن صدَّق بنبيه العربي محمد وأحب قرآنه، ودون للناس في كتابه حسنَ دعوته وإحسانه

(دمشق)

عز الدين التنوخي