مجلة الرسالة/العدد 329/على ذكر الحرب الراهنة

مجلة الرسالة/العدد 329/على ذكر الحرب الراهنة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1939



موقف العلم من الكمال الإنساني

للأستاذ توفيق الطويل

1 - العلم وتطور غاياته في شتى العصور:

نشأ العلم جنيناً في أحشاء المعرفة البشرية عند قدماء المصريين والهنود ومن إليهم من شعوب الشرق القديم، وكان أداة لخدمة الحياة العملية، وتحقيق الملح من مطالبها، ووسيلة لتنمية العقيدة الدينية وتوكيد سلطانها في قلوب الناس، ثم أقبل عصر الفلسفة اليونانية فجاهد أهلها لإنقاذه من عبء الحياة العملية وضغط العقيدة الدينية معاً، ورفعوه إلى البحث البريء الذي لا يعرف غاية يرمي إليها إلا اللذة العقلية وحدها. ثم أقبلت العصور الوسطى وقد تمكن الدين المسيحي من قلوب الناس، وهيمن على عقولهم، فهبط العلم من سمائه وأدركته العبودية من جديد. إذ سخره أهله لخدمة الدين وتمكين نفوذه، وأقام العلم على احتماله لهذا الاستعباد حين تمرد أساطين النهضة على سلطان الكنيسة، وتولوه بالتحطيم والتدمير. وأقبل القرن السادس عشر، وأوربا في غليان فكري أثار لوناً من الشك الهدام. أفقد الناس اليقين في مجال العلم، والاطمئنان في ميدان العمل، وحطم وحدة أوربا وتركها ركاماً وأنقاضاً، واطمأن لهذا الانتصار الفاشل دعاة الشك اليائس: أجريبا وسانشيه ومونتاني. بيد أن الناس قد ضاقوا بدعوتهم وتطلعوا إلى اليقين والاطمئنان واستخفهم الرضا عن دعوة جديدة ظهرت في أواخر القرن السادس عشر لمقاومة هذا الشك الهدام، تولاها ثلاثة من أعلام الفكر هم: شارون وديكارت وبيكون، فدعا الأول إلى الاطمئنان عن طريق الإيمان الديني - وكان روح العصر لا يلائم دعوته - وبشر الثاني باحترام العقل واعتباره أصدق معين تستقى منه المعرفة الصحيحة فكان أبا الفلسفة الحديثة؛ ونادى بيكون بالإيمان العلمي عن طريق التجربة، وحدد للباحث طريقته ورسم له منهجه، وأعلن ميدان العلم وغايته في وضوح لا يحتمل الالتماس فكان أبا العلوم الطبيعية الحديثة، وعلى يديه خرج العلم من أحشاء المعرفة البشرية، واستقل عن الدين والفلسفة والأدب، وتميزت شخصيته وتحدد ميدانه وعرفت غايته. ذلك أن بيكون أعلن احتقار العلم الذي يدرس العقل أو خدمة الدين، وأكد الدعوة إلى ربط الأبحاث العلمية بالحياة العملية وقصرها على صالح الإنسان ومنفعته. فكان ميلاد العلم الحديث شبيهاً من بعض الوجوه بميلاده القديم. واستبسل بيكون في الدفاع عن العلم حتى كفل له الاستقلال عن سائر ألوان المعرفة، وحط عن كاهله عبء الأغراض الدينية ولكنه لم يكفل له حريته كاملة موفورة، فأذله مرة أخرى وسخره لخدمة الحياة العملية وتوفير السعادة للناس. وهكذا بدأ العلم في عصوره الحديثة مستقل الشخصية صاحب منهج محدود وغاية مرسومة، يتهكم بالفلسفة ويسخر من أهلها، ويبتعد عن العقيدة الدينية ويقيم الحدود الفاصلة بينه وبينها، ولكنه مع هذا الاعتزاز الذي لازمه الغرور قد شعر بعد بأنه ليس سيد نفسه. إنه مسخر لخدمة الإنسان، ونجاحه رهن بتحقيق هذه الغاية. فلما شب العلم بعد هذا ونضج عقله، ثاب إلى رشده، فكف عن الطعن في الفلسفة، وتقبل منها النصح بعد أن أرشدته إلى الكثير من أخطائه، وأخذ يجاهد لتحرير نفسه من ذل الأغراض التي رسمها له أبوه، وأصاب النجاح في مسعاه، وحقق حريته كاملة غير منقوصة، وأصبح يدرس لذاته بقطع النظر عن كل غاية - بالغاً ما بلغ سموها - إلا إذا اعتبرت اللذة العقلية نفسها غايته. إنه قد تحرر من ذل الحياة العملية واستعباد العقائد الدينية وامتهان الأغراض القومية - أو هكذا يزعم أصدقاؤه وحواريوه - وأصبح يفاخر الأدب والفن والفلسفة بأنه سيد نفسه، لا يخضع للعاطفة، ولا يحترم الهوى، ومنهجه موضوعي قائم على تعرف الشيء من حيث هو شيء، دون نظر إلى علاقته بخير المجتمع وصالح الإنسان. وقد أدى هذا بقواعده إلى أن تكون بمنجاة عن التأثر بالزمان والمكان وما يلابسهما من ظروف. أما الفلسفة والأدب فإن أحكامها تقديرية بالإضافة إلى ذات شاعرة مدركة تتأثر بمزاجها وتتفاعل مع بيئتها وظروفها. ووجه الخلاف بين هذا المنهج العلمي الحديث، والمنهج الذي رسمه بيكون قائم في الغاية وحدها. كان بيكون لا يحترم العلم إلا بمقدار ما يحققه للإنسان من خير، وما يوفره للمجتمع من نفع وهناء، فاسترد العلم حريته التي كانت له أيام اليونان، وأصبح يجاهر على لسان المجمع البريطاني لتقدم العلوم سنة 1915 بأن العلم يطلب لذاته أولاً. قال رئيس المجمع ما خلاصته: إني أقدر العلم حق قدره، وأكبر خدماته للمجتمع الإنساني، ولكني أعلن أن العلماء إذا اغتبطوا للظفر بما تضم الأرض من ثراء، وما تنطوي عليه كواكب السماء وجواهر المادة من قوة، فليس مرد اغتباطهم إلى أنهم يرفعون الثروة المادية فوق اللذة العقلية؛ وإنهم ليستشعرون اللذة مضاعفة عندما يستعملون قوى العقل للوصول إلى منفعة الأمة، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يمنعنا من تخطئة الحط من شأن المبادئ الأدبية، فإن هذا الامتهان قد ولد الرأي الفاسد القائل بأن القوة تخول صاحبها امتلاك ما يشاء (لعله يقصد ألمانيا التي أشعلت الحرب الكبرى قبل خطابه ببضعة شهور). ثم قال المجمع في اجتماعه الذي عقده بعد ذلك بعشر سنوات: إن القائلين بأن غاية العلم هي التسلط على قوى الطبيعة لخدمة الإنسان - وهي دعوة بيكون - يبالغون في الاعتقاد بصحة ما يزعمون، فما كانت المنفعة أكبر الأسباب التي حملت العلماء على مواصلة أبحاثهم، ولكن أول غرض يرمي إليه العلم، إنما هو الكشف عن قوى الطبيعة ومعرفة ما بينها من صلات، وتصنيفها حتى يأتلف من مجموعها نظام معقول. ذلك أول أغراض العلم؛ أما المنفعة المادية فيجنيها الناس بعد من وراء ذلك، وبهذا يصبح الاشتغال بالعلم لذة عقلية تكاد تلحقه بالفنون الجميلة!. . . والعلماء الذين يبلغون مناهج العلم العليا يشعرون بالرابطة التي تصل بين العلم والفن، وتجعل الطبيعة موضوع بحثهما معاً لغير ما غاية إلا التملي بجمالها. إن التحليل الجبري المنظم لشبيه بالنغمة الموسيقية ذات التوقيع المتسق، وهذا تشبيه يثير دهشة الذين لا يرون في الجبر إلا أرقاماً وعلامات، ولكنه مقبول عند الذين يعرفون نسبة هذه الأرقام والعلامات إلى المعنى الذي تخفيه وراءها، فهي كنسبة العلامات الموسيقية إلى الأنغام المطربة، والأثر الذي تخلفه في نفوس سامعيها. ثم يعزو رئيس المجمع اهتمام العلماء بالعلوم الطبيعية إلى ما تنطوي عليه مباحثها من بهجة وجدة، لا إلى ما ينتظر من ورائها من نفع مادي، وإن كان تحقيق هذا النفع أمراً أكيداً!

بهذه الروح (الفنية) يتحدث العلماء المحدثون عن العلم وغاياته. كان بيكون في مستهل العصور الحديثة يتهكم بالعلماء الذين ينفقون الوقت الطويل في الدراسات النظرية التي لا ترمي إلى خدمة الإنسان، فأصبح العلماء في آخر القرن الماضي يتحدثون عن علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الأدبية، ومشاركتها لها في تهذيب النفوس، ويقولون أنا نلوم العلوم الأدبية إذا اقتصرت على دراسة الإنسان وأعماله، وأهملت ظواهر الطبيعة وقواها؛ ثم نلوم أنفسنا إذا اقتصرت - علومنا الطبيعية - على النظر إلى الطبيعة ولم تتجاوزها إلى الإنسان وأعماله. ثم تطورت هذه الروح في القرن العشرين حتى أصبح العلماء يفكرون في العلاقة بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، ويتحدثون عن الجمال الذي تكشفه الدراسات إذا انصبت على ظواهر الطبيعة، ويتكلمون عن أثر هذا (الجمال) في نفس العالم وتشجيعه على مواصلة البحث، وإن لم ينكر هؤلاء العلماء ما يترتب على دراساتهم من نفع إنساني لم يقصدوا إليه، ولم يتجهوا إلى تحقيقه. تلك أحدث وجهات النظر في فهم العلم الطبيعي وتجديد غاياته فيما نعلم

2 - تبعات العلم في الحرب والسلم

تحرر العلم من تبعة الويلات التي قد تترتب على بعض مبتكراته ومخترعاته، وإن لم ينج من النقد الحر الذي ترتفع به صيحات الناس إبان الحروب وبعد أن تخمد نارها، فإن الحرب إذا اندلع لهيبها قصر العلم غايته على تقديم الوقود لها، وخص بلاده بكل جهوده، وتحول العلماء بين جدران معاملهم إلى جنود بواسل، يبذلون الجهد صادقين في إنقاذ الوطن، أو يفرغون الوسع جاهدين لتحطيم أعدائه، ولهذا انصبت اللعنات على العلم دون حساب، وأحس أهله - في فترة مضت - بحرج مركزهم؛ فأخذوا يلتمسون لأنفسهم الأعذار. وتذرع المجمع البريطاني بحجة أعلنها سنة 1899، ثم كرر إعلانها سنة 1925 فقال: إن الجندي يسعى لحفظ حياة الأفراد، أما العالم فإنه يجاهد لحفظ حياة النوع بالعمل على إيقاف الحرب بما يخترع من آلات التخريب وأدوات التدمير، والظفر في الحرب يكسب السلم الذي يصون الحرية الفكرية ويستأصل الشر الذي يجور على محبة الأمم ويبشر بالحق والمحبة في بقاع الأرض طراً. . .! وهذا العذر يكاد لا يفترق عن الحجة التي تذرع بها نابليون يوم طمع في إخضاع العالم وتوحيد حكمه. وقد ردد الحلفاء صداها في الحرب الماضية، وتثار اليوم في الحرب الراهنة التي ترمي إلى القضاء على الهتلرية التي أنهكت أعصاب العالم وهدت قواه، بما تظهره من امتهان الوعود والحنث بالعهود. فكأن رجال العلم حين التمسوا لأنفسهم الأعذار عن تسخير علمهم لغرض قومي عملي، قد تحولوا إلى رجال سياسة! وقد كان في وسعهم أن يقولوا إن الحروب إذا اندلع لهيبها، انقلبت الأوضاع واضطربت الغايات، وأصبح من واجب العلم أن يلبي نداء الأوطان. إن المواطن في أعرق البلاد نزوعاً للحرية والديمقراطية، يكاد أن يستحيل آلة في يد الوطن إذا حاق به خطر، فلماذا ننكر على العلم خروجه عن حريته، ومرضاته بخدمة غرض قومي متى دعا الداعي ونادى الوطن؟

ورغم أن العلم قد تحرر من ذل الأغراض فما زال مثاراً لاتهامات تنصب عليه في أيام السلم كذلك، وحجة المتهمين أن مخترعاته قد ترتب على بعضها ما يراه البعض شراً وأذى، وقد يطالبونه بتحقيق ألوان من السعادة الموهومة ويحاسبونه على عجزه عن تحقيقها! قال الرئيس ولسون: إن العلم قد أخفق في تحقيق الإصلاح العاجل وتوفير الفردوس الأرضي للناس. إنه أفادنا في عالم المادة وحررنا من خوف الخرافة والمرض، ولكنه فشل في تغيير الطبيعة البشرية وتخليصها من أدران الأحقاد والضغائن، وبذلك ظل الناس عبيداً لأنفسهم. فرد عليه المجمع البريطاني قائلاً: لماذا نلقي على عاتق العلم تبعة الفشل الذي انتهت إليه آمال لم يعد العلم بتحقيقها؟ إن العلم لا يدعي إصلاح الطبيعة البشرية، وقد يكون في مقدوره أن يغير البيئة ويزيد في منفعة الإنسان، ويوسع من رحاب مداركه، ولكنه غير مسئول إذا أساء المرء استعمال آثاره. فعلم الطب قد يطيل حياة الناس، ويكفل لهم الصحة والعافية، ولكنه غير مسئول عن تُقْضى الحياة التي نجح في إطالتها. وقد يكفل للأشرار القوة كما يكفلها للأخيار ولكن ذلك لا يبرر المطالبة بإغلاق المستشفيات حتى لا يفيد منها دعاة الشر والإجرام

ترى مما أسلفنا أن العلم وإن كان قد بدأ في العصور الحديثة موصول الرابطة بصالح الإنسان، إلا أنه مضى في تطوره حتى أزاح عن كاهله خدمة المجتمع واسترد حريته وسيادته، وأضحى عند أهله بحثاً موضوعياً يعينهم على التملي بجمال الطبيعة واستشعار اللذة العقلية عند فهم ظواهرها. أما المنفعة المادية فتجيء عرضاً من تطبيق نتائج العلم لصالح المجتمع، واعتبر المحدثون توجيه العلم للنفع المادي استعباداً للعقل وامتهاناً لقداسته، بالإضافة إلى ما ينشأ عن تقييد حريته من انحطاط فكري شهد به تاريخ الفكر منذ أقدم العصور. وما دام العلم في عهده الأخير لا يتصل بالكمال الإنساني اتصالاً مباشراً، وهو زاهد في ثناء الناس على ما قدم من خدمات، غير مستعد لاحتمال التبعات التي يلقيها على عاتقه خصومه، فليس من حقنا أن نتولاه باللوم كلما تطايرت إلينا أنباء الحروب وفظائعها. وإن كان لابد من الحديث عن موقف العلم من الكمال الإنساني لمعرفة ما حققه من خير وما جره من ويلات - وجب أن نتحدث عن العلم في أول مراحله كما صوره فرنسيس بيكون أداة لخدمة الإنسان. والكلام على بيكون وتبشيره برسالة العلم والمدنية، يذكرنا بجان جاك روسو ورسالته القائمة على الدعوة إلى الطبيعة والعيش على مقتضى الإلهام والفطرة البسيطة؛ وذلك ما نخصص لمناقشته مقالنا القادم

ت. الطويل