مجلة الرسالة/العدد 33/الثعبان والانسان
مجلة الرسالة/العدد 33/الثعبان والانسان
للدكتور حسين فرج زين الدين
دكتوراه في التاريخ الطبيعي من فينا
من رسالة قيمة وضعها في (الحيات المصرية) سننشر بعض فصولها تباعاً
لعل من يزور حدائق الحيوانات بالجيزة لا يستوقف نظره شيء اكثر مما تستوقفه تلك الحيات السجينة في بيوتها الزجاجية، فهي على الرغم من جمال منظرها وما هو معروف من نعومة ملمسها تبعث في النفس شيئاً من الاشمئزاز والكراهية، وعلى الرغم من سجنها والامان من شرها يهتز القلب فزعاً منها، ولعل السر في ذلك تلك الاعتقادات السائدة التي تناقلها الناس جيلاً بعد جيل عن فتكها وخيانتها حتى جاء ذكرها في كثير من تشبيهات الكتاب وخيال الشعراء. كما ورد ذكرها في الكتب السماوية
وقد يكون ذلك راجعاً الى شكلها الطبيعي ووقوفها شاخصة لا تغمض ولا تطرف وحركات السنتها الدائمة السريعة، واعتقاد الناس خطأ أنها أعضاء اللدغ منها فترى أثر الخوف منها شديداً في نفوس الكبار الذين عرفوا شيئاً عنها، ولكن الاطفال الصغار لا يدركون قليلاً ولا كثيراً من امرها، وكذلك صغار القردة قد ترى الافاعي زاحفة فلا تخشى ان تقترب منها وتلمسها وتعلب بها، وقد ايد هذه المشاهدة البحاثة ميتشل في تجارب عدة قام بها، وقد أثبت كل من العالمين & بعد بحثهما في أفاعي الهند والصين انها على ضخامتها تفزغ من الناس، وتفر منهم ولا تحاول ايذاءهم الا محرجة مضطرة للدفاع عن نفسها، غير ان ذلك لم يقلل من اعتقاد الناس بخطرها، وليس هذا عجيباً منهم فانها كانت دائماً موضع اهتمام عظيييم. كثر ذكرها في الكتب السماوية وفي الديانات على اختلافها، وفي الكتب الادبية والعلمية، فهناك حية آدم عليه السلام، وعصا موصى وثعبان كليوبطرة، وترى اسكليبوس إله الطب عند اليونان يحمل عصاً ملتفة عليها أفعى، وابنته هيجياً إلهة الصحة ترى دائماً معها أفعى تقدم اليها الماء، وقد صنع عقداً لألهة مينرفا من صور الأفاعي، وإن رأس ميدوزا إلهة الانتقام معصوب بها؛ وكان قدماء المصريين يعبدون الناشر المصري المعروف، وكان من الخرافات السائدة في الشعب في ذلك العهد، ان هذه الأفاعي الخطرة تختلط بالناس في بيوتهم وتعيش بينهم على العسل والنبيذ لا تمسهم بسوء. . ويروي أنه ظلت على هذه الولاء للناس حتى كان لأحد التجار طفل فعدا عليه يوماً ثعبان صغير فلدغه فمات؛ ولما عادت أم الثعبان وعلمت بجريرة ابنها قتلته ارضاء لآل الطفل. ومنذ ذلك اليوم هجر الأفاعي البيوت الى الخلاء، وساجلت ابناء آدم العداوة، وأضحت لدغتها قاتلة. ومنذ ذلك اليوم أيضاً جعلت الأفعى رمز القوة، ووضعت على تيجان الملوك القدماء.
وروي بلوتارك المؤرخ الروماني ان قبيلة السلر وهي من القبائل البائدة، كانت في رجالها مناعة طبيعية موروثة ضد سم الحيات، وكانوا يحافظون على طهارة أصلابهم ونقاء دمائهم المحافظة كلها فلا يسمحون لنسائهم أن يتزوجن أو يتصلن أي اتصال برجال من غيرهم، وكانوا يستوثقون من هذه الطهارة بان يطلقوا الحيات السامة على أولادهم حين ولادتهم فان قتلت واحداً منهم تبينوا خيانة أمه.
ومن الحيات المعروفة في الهند ذات النظارة وتسمى الناشر الهندي، وفي الاساطير التي تروي عنها ان الأله بوذا هبط مرة الى الارض على شكل انسان ونام في الهواء فجاءت هذه الحية ونشرت عليه عنوقها فأظلته من الشمس فجزاها على ذلك بان آمنها من شر المخلوقات جميعاً، وبعد حين ذهبت اليه تقتضيه وعده وتشكو اليه الطيور الجوارح واضرارها بها فوهبها تلك النظارة تمتاز بها لدى الطيور فخشاها ولا يصل اليها اذاها.
ومن الروايات الشائعة التي يتناقلها سكان الجمهورية الفضية ان البقرات التي يقل ادرارها تكون قد رضعتها الحيات، بل يعزون ضعف بعض أطفالهم الى أن الحيات تمر ليلاً بأمهاتهم فترضع ثديهن.
ويعتقد الناس أن في الحواة سحراً أو قوة خارقة يسلطونها على االحياة. ففي الهند مثلا يمر الحااوي بالناشر الهندي ومعه عصا ومزمار، فيظل يداعبه باالعصا والحية تعضها، وبعد ان ييكون قد أجهده التعب يرمز له فيهدأ ويسكن فييظن االنااس أن الثعبان لا يلدغ االحاوي خوفاً منه والواقع أنه يكون أفرغ سمه حين عض العصا كماا يحسبون أن للقيثارة أثرا في تهدئته، والحقيقة اانه التعب الذي اضناه.
وكذلك نرى حواتنا في مصر يطوفون بأنواع من الحيات يحملونها عادة في جراب من الجلد ويلعبون بها العاباً مختلفة فيطوقون بها بعض النظارة أو يضعون رؤوسها في أفواههم أو يمزقونها بااسنانهم أو يتركونها تشرب من اناء ثم يشربون منه، ومنهم من يدرب بعض القردة على اللهو بها وقذفها على الناس ويوهمون العامة ان ذلك راجع الى سر الولاية الرفاعية فيهم، والحقيقة ان بعض هذه الحيات ليس ذات خطر مطلقاً كالدساس الذي يعتقد الناس ظلماً انه اشد انواعها خطراً، وكأنواع الارقام وكبعض الحيات الاخرى الخطرة المنزوعة الانياب، ولا يعرف غير الحاوي سر ذلك.
وقد حدث في المنيا في مايو سنة 1931 ان احد هؤلاء الحوّاة الرفاعية كان ينزع أسنان ناشر فأفلت من يده ولدغه فمات. وحية الناشر محفوظة الى الآن في المستشفى االاميري هناك
اما الطريقة التي يستخدمها هؤلاء الناس في امساك الحيات فانها ترجع اولاً الى الذعر الذي يعتري الحية عندما يفاجئها مفاجئ غريب فانها تقف بغتة بتأثير الحركات العكسية فيها، ثم الى خفة حركة الصياد في القبض على رقبة الحية، وفي تحريك عصاه، والى قوة تأثيره النفسي وشعرو الحية بهذه القوة كقوة التنويم المغناطيسي. والدليل الآتي يؤيد صحة هذه النظرية. وذلك أنه قد تقدم أحد الاشخاص وكان يخاف من الحيات فامسك دساساً فعضه، ثم تقدم آخر لا يخشاها ولا يخاف منها وأمسك الحية، فلم تحرك ساكناً وكلاهما لا يدين بمذهب الرفاعية.
وعلى ذلك لا يجوز أن تعزى قوة الحواة الى شيء من السحر أو الولاية، ولا أدل على ذلك من أن أهالي البرازيل وعمال حديقة الحيات الشهيرة عندهم يمسكون بأنواع الحيات، ومنها ذات الجرس المخيف دون أن يمسهم سوء، وهم ليسوا أتباعاً ولا ينتسبون للرفاعي.
وقد شاءت حكمة الله أن يسلط بعض المخلوقات الحية على بعض حتى لا تزدحم بها الأرض أو يطغى جنس منها على غيره من الأجناس، ولهذا نرى رحى الحرب دائرة بين هذه المخلوقات منذ نشات الدنيا فبينما نرى الطيور الجوارح وغيرها مسلطة على الحيات فلا تكاد تراها حتى تنقض عليها وتمزقها تمزيقاً فلا تحميها منها لدغاتها ولا سمومها، تجد هذه الحياة بدورها مسلطة على الضفادع والسحالي وصغار الطير والثديات، ولا ينجو من شرها الانسان نفسه، فكثيراً ما تعدو عليه وعلى أطفاله وعلى ما يربى من طيور وثديات نافعة كما تفعل الأرقام في مصر والبواء في الهند والبرازيل وهناك الحيات المائية الشرهة التي تفتك بالاسماك، ويكثر فتك أنواع من الحيات بالانسان فان للغريبة والناشر في الهند وذوات اللاجراس في أمريكا والابتر والناشر في افريقيا لا ينهض بعبء احصائها العادون.
ولكنها الى جانب هذه الاضرار لا تخلو من فائدة، فهي تقضي في الهند على الفيران التي هي من أكبر العوامل في نقل عدوى الطاعون فتقلل بذلك انتشاره وتحمي البيوت والمزارع من هذه الفيران كذلك بخاصة الغيطية منها، وبعض الحيات تأكل الديدان الضارة، وهناك أنواع ضخمة تؤكل لحومها ويصنع من جلودها أجود أنواع الأحذية وحقائب السيدات.