مجلة الرسالة/العدد 33/في الأقصر. . .

مجلة الرسالة/العدد 33/في الأقصر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1934


لا تجد في معبد الأقصر ما تجد في معبد الكرنك من ذلك الاستغراق الذهني الذي يمحو الوجود من ناظرك، ويعفو الحاضر في خاطرك، ويحييك مع أمينوفيس ورمسيس في دهر واحد! فأن هذا المعبد يقع في جبهة المدينة ونزهة الناس فلا تنفك وأنت فيه بين نظرة خادعة من مفاتن النهر، وزفرة صادعة من بواخر كرك، ولفظة صاخبة من لغط المار؛ ولن تستطيع وعيناك تضطربان بين الهيكل والكنيسة والمسجد وقصر السلطان وونتر بلاس، ان تحصر ذهنك في موضع، وتقصر فكرك على موضوع. فكل صورة من هذه الصور الموائل يمثل فكرة وييسجل نهضة ويؤرخ حقبة؛ أما معبد الكرنك فظل بنجوة من تيار الزمن الجارف، ينعم بسكونه الشعري في اعتزاله، ويتمتع في جوه الفرعوني باستقلاله

فتننا سحر الأصيل عن شعر المعبد، فذهبنا فيي طريق السلطان حسين نشهد أروع مجالي الجمال في الطبيعة. ومن حدثك أن بلداً من بلاد الله غير مصر يتمتع في يناير بدفء يستجيش العرق والبهر، وضوء يغمر القلب والنظر، وصحو يدوم النهار والليل، فهو ولا ريب لم ير الأقصر! وأي منظر تألقت به قدرة الله، وتأنقت فيه يد الطبيعة، كمنظر الغروب في طيبة؟ فالشمس المصرية تغرب في جلال وراء الجبل، وأشعتها الفاترة قد تجمعت حولها من سهول الوادي، فلم يبق منها الا غرر تلمع في أجنحة الطير وسعف النخل ورؤس الهضاب، وشفقها الوهاج قد شب في أطراف السلسلة اللوبية حريقا بارد اللهيب ايذانا بالمغيب، والمشتون من سراة أوربا وأمريكا يطالعون في شرفات الفندق أجمل ما خطته يد البارئ المصور في صفحة الوجود، وأنا وأصدقائي الثلاثة نسير الهويني على الشاطئ الضاحك، يشيع في دمائنا مجد هذا الماضي، وفي أعصابنا عظمة هذا الوادي، وفي أخلاقنا صراحة هذا الجو، وفي مشاعرنا جمال هذه الطبيعة، فنكاد من فرط الزهو نقول لمن نلقى من السائحين االغربيين: نحن تلية هذا المجد، وصنيعة هذه الشمس، وصورة هذا الجمال، فهلا تروننا اخلص الناس جوهرا. واصدقهم مظهرا، وازكاهم أرومة؟

وكان حديثنا في هذه الساعة الجليلة نغمة منسجمة في هذا اللحن السماوي الذي تنشده الكائنات كل يوم عند الغروب، وما ظنك بحديث نقي الحواشي يشققه أستاذ في كلية الآدب، واستاذ في كلية العلوم، واستاذ في كلية الحقوق، وكاتب صغير من كتاب الرسالة؟ كان صباح اليوم العيد موعد (المقابلة الملكية) فعبرنا النهر في رهط من أطباء المؤتمر، ووقفنا بالضفة الأخرى نتحسس الآثار الهوالك، فلم نجد أمامتا غير الحقول الزمردية تكسو السهل، والجبال الوردية تسد الأفق. وكانت هذه الضفة الخلاء في دهرها الغابر حيا من أحياء طيبة يسكنه محنطو الجثث وصناع المومياء، فما كان يومئذ يموت انسان أو ينفق حيوان الا أتوابه هذا الحي فيمضي فيه أهله (عملية) الخلود!!

انطلقت بنا السيارات بين الزروع الخضر أرتالا يسفى بعضها الغبار في وجوه بعض، فمررنا بالقرنة وقد خرج أهلها في زينتهم يعيدون فوق المقبرة! وأكبر الظن أنهم بقايا ذلك الحي البائد، فهم يسكنون الجحور كبنات آوى، وينبشون القبور كلصوص الموتى. وينحتون التماثيل كصانعي الآلهة، ويخدعون بالتمائم كدهاة الكنهة!

وقفت بنا الحقول فجأة، ثم أسلتنا الى قفز من الأرض بعضه مرمل وبعضه مترب، فسرنا فيه بين أعلام من الحجارة المنضودة، حتى دفعنا الى شعب في الجبل تكثر على جانبيه الغيران الموحشة والفجوات العميقة، فنحسبها بادئ ذي بدء من أثر الوحوش الحافرة، ولكنك تدرك بعد هنيهة أنها من أثر الانسان الذي نكبت به هذه الأرض منذ أربعة آلاف سنة فلم يرفع معموله عنها الى اليوم!!

شقها فدفن بها الملوك! ثم شقها فسلب فيها الملوك! ثم هو يشقها اليوم دائبا ليخرج منها الملوك!

أخذت طراءة النسيم تتخلف عنا رويداً رويداً حتى انقطعت، وهب يناوحنا من فجاج الوادي الملكي جو ثقيل كجو مايو، وأصبحت سلسلة الجبال فوقنا بعد ان كانت أمامنا، ثم انعطفت الطريق الصاعبد بغتة فاذا السيارة أمام باب من الخشب، وبواب من الناس، وقائل يقول: هنا جبل الخلود وحرم الملوك ومثوى توت عنخ آمون!!

الجبل من أعلاه إلى أسفله قطعة واحدة من الحجر الجيري الصلد لا تجد فيه صدعا ولا فرجة! نقرت يد الانساان القديم في أصله فتحة مربعة دخل منها الدليل ودخلناها على أثره، فاذا سلم حادر يهبط بك قليلاً أو كثيراً الى بئر عميقة تضلل اللصوص: ثم يعود فيهبط الى قاعة فسيحة تجمع أشتات المتاع، ثم يعود فيهبط الى حجرة تضم جثمان الملك! وسقوف الحجر محلاة بصور من جماعات الكواكب، وجدران الانفاق مغشاة بسور من كتاب الموتى: فالبرزخ الفاصل بين الحياة الفانية والحياة الباقية مصور كله في وضوح ودقة! فهنا الميزان، وهناك الصراط، وهنالك المطهر، وفيما بين ذلك عقبات هائلة وحيات قاتلة لا يفلت منها الا من حمل جواز الأمان وعرف كلمة السر!!

وقفنا حيال فرعون وهو راقد في أكفانه الذهبية رقدة الضراعة والهون! يشمت به الفناء، ويسخر منه البقاء، ويصيح في أذنيه القدر:

لقد علوت في الأرض، وغلوت في الجبروت، وسخرت الزمان لتخليدك، والانسان لتمجيدك، ثم كانت عاقبتك يا فرعون هذه العاقبة المضحكة!! فصاحب اذنك خادم حقير، وكبير أمنائك (ترجمان) أجير، وشعبك العابث يحضر (التشريفة الكبرى) يوم العيد في غير حلة رسمية، ولا هيئة جدية، وجلالتك الالهية كلها لم تقو إلا على الدود، ولم تحظ إلا ببسمة ساخرة من ثغر الخلود!!

أحمد حسن الزيات