مجلة الرسالة/العدد 330/وزارة الشؤون الاجتماعية

مجلة الرسالة/العدد 330/وزارة الشؤون الاجتماعية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1939


الجهل. . .

- 1 -

ذلك هو العنوان الأول من العناوين الثلاثة التي اقترحنا في العدد الماضي من الرسالة أن يتألف منها الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية، وهي الجهل والفقر والمرض.

والجهل كما يظهر لأدنى نظر هو علة العلل في اضطراب الأسرة، وانحطاط البيئة، وفساد المجتمع، وأفن الرأي العام. فإذا وقفت هذه الوزارة بالفعل إلى أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة فقد تيسر لها أن تقول فتفهم، وتكتب فتقرأ، وتشير فتتبع؛ وإذن يخفف عنها عبء الإصلاح باعتماد كل امرئ على نفسه في تدبير عيشه من طريق الكفاية فلا يكون فقر، وفي علاج بدنه من طريق الوقاية فلا يكون مرض، وفي تهذيب خلقه من طريق الدراية فلا يكون شر. ذلك إلى أن الشعب متى أدرك القدر المشترك من المعرفة قوى عقله فيعمل عمله بروية، ونضج رأيه فينتخب نائبه بحرية؛ وبروية العزيمة تثمر فروع الإنتاج، وبحرية الرأي تثبت أصول الديمقراطية

ولكن كيف نكلف وزارة الشؤون الاجتماعية أن تساهم في نشر المعرفة وهناك على مدى قريب منها وزارة المعارف بميزانيتها الضخمة وجامعتها الفخمة ومدارسها المختلفة الدرجات والغايات، ورجالها المتعددي الألقاب والشهادات؟ فهل يسوغ في العقل أن تترك هذه الوزارة الغنية الفنية في مصر بعد قرن ونيف من لا يعرف حروف الهجاء، ولا يدري أفي الأموات هو أم في الأحياء؟

الواقع الذي يحار في تعليله الذهن الفلسفي أن التعليم الحكومي والأهلي، والديني والمدني، والوطني والأجنبي، لم يستطع أن ينفي الأمية في مصر - وهي ملتقى بحرين ومجتمع ثلاث قارات - إلا عن 25 ? من الذكور و8 ? من الإناث. ونفي الأمية لا يثبت العلم؛ ولكني أسلم بأن هؤلاء تميزوا عن نظرائهم أولئك بإدراك الحياة الإنسانية على نحو معقول. فإلى من نكيل تعليم البقية وهي سواد الأمة وعماد الدولة وعدة الإنتاج؟ إن تثقيف وزارة المعارف لا يشمل كل الصغار لأن قانون التعليم الإجباري لم يشرع، ولا يقبل كل الكبار لأن قانون التربية لا يجيز؛ فلا يبقى إذن للذين افلتوا من القيد أو شبوا عن الطوق إ وزارة الشؤون الاجتماعية؛ فهي وحدها التي تستطيع أن تعلم الزراع والصناع والعمال والخدام والباعة من كل سن وفي كل مكان وعلى أي حالة

أما كيف يتهيأ لوزارتنا الجديدة بلوغ هذه الخطة فسبيله القصد إنشاء المدارس الشعبية الليلية في معاهد المدن ومساجد القرى، وحشد العامة إليها عن طريق الإغراء المادي والإكراه غير المباشر، كأن يفرض للمنتهين والمتفوقين جوائز مالية، وأن يشرط على طلاب الرخص للسعي أو للخدمة أن يلموا بالقراءة والكتابة؛ ولسنا بصدد التفصيل فذلك عمل له وقته وله أهله

هذه المعاهد الليلية المبثوثة في أرجاء الوادي وأعطافه وأريافه ستكون - فضلاً عن عملها الثقافي - أداة مضمونة لنشر الإصلاح الاجتماعي في جهاته المتشعبة وغاياته المتعددة، فإن الوزارة تستطيع أن تجعل من كل فرد يتعلم فيها بوقاً رافعاً لأصوات وعاظها ومرشديها الذين يساعدون بالمحاضرة فيها على تقوية المدارك وتهذيب العادات وتنظيم العيشة وتدبير الصحة. وسيكون كل معهد من هذه المعاهد الشعبية وحدة اجتماعية يتفرق عنها الضوء والحرارة في كل بيئة وفي كل أسرة فإذا قامت الوزارة بذلك ثم حملت وزارة الدفاع على أن تعلم الجيش المرابط والجيش العامل فقد ظفرنا بقتل الأمية في قليل من الزمن بيسير من النفقة. وإذا قتلنا الأمية فقد أحيينا في الشعب خمود الحس وموات الضمير ومعنى الواجب

ستقول الوزارة من أين لي المال وقد ولدتني الضرورة لأعيش على ما طفح من رجال الدواوين وما فضل من مال الوزارات؟ وجوابنا أن الوزارة التي لا تقوم على المال، لا تنتج غير الأقوال. وربما كان ذلك علة ما نرى من نزوع هذه الوزارة في سياستها الإصلاحية إلى الوسائل الكلامية حتى حدثتها نفسها أن تنشئ لها مجلة خاصة بها تملأها بالمقالات والمناقشات والقصائد والحكم والأمثال لتكون كمجلة (التعاون) و (زميل الفلاح) و (المجلة الزراعية) و (الصناعة والتجارة) آلة شرهة لاستهلاك الورق والحبر في غير رحمة ولا جدوى!

يا معالي الوزير، إن فن الإنشاء مستقيم فلا يحتاج إلى إصلاح، وإن سيل الكلام دافق فلا يفتقر إلى رفد، وإن ميادين العاصمة مكتظة بالمجلات فلا تتسع إلى زيادة، وإن ما عندكم من مذخور البلاغة لا يختلف عما عند الناس. فلماذا نؤثر النظر على العمل ونبذر الجهد والمال والوقت في استثمار الصفصاف واستيلاد العقيم؟

إن الذين يستطيعون أن يقرءوا المجلة العتيدة هم بثقافتهم مستغنون عنها، والذين يهمكم أن يقرءوها لا يستطيعون لأميتهم أن يستفيدوا منها. فأعدوا القارئ قبل أن تعدو المجلة؛ وإعداد القارئ هو الميدان الأول لجهاد الوزارة؛ فإذا انتصرت فيه فقد ضمنت النصر المؤزر في سائر الميادين.

على أن تثقيف الشعب من طريق التعليم في هذه المدارس الشعبية لا يكلف الحكومة أكثر مما تكلفها الفرقة القومية أو مجمع فؤاد للغة العربية، والخير الذي تصيبه الأمة من وراء هذه الكتاتيب المتواضعة لا يجوز أن يوازن به عمل لا يزال صلاحه في ذاته أمراً مشكوكاً فيه!

هذا بعض ما يدخل تحت عنوان (الجهل) أجملناه في هذه الأسطر لتمضي الوزارة في سبيل التفكير فيه، وفي ظننا أنها ستجد في طوايا بحثه أبواباً للعمل وسبلاً للإصلاح تغنيها عن المشروعات المبتسرة التي تلقفها من المجالس، والموضوعات المرتجلة التي تأخذها عن الصحف

احمد حسن الزيات