مجلة الرسالة/العدد 331/التعليم والإنتاج

مجلة الرسالة/العدد 331/التعليم والإنتاج

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939



للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

أبنا في مقالنا السابق أهمية ارتباط معاهد التعليم بمصادر الإنتاج وضرورة اتصالها بها اتصالاً وثيقاً يضمن لخريجي هذه المعاهد العمل المباشر بين تلك المصادر بمجرد انتهائهم من عهد الدراسة ومغادرتهم لدورها إلى الحياة العامة

أما الإنتاج فهو في الحقيقة نوعان: إنتاج عقلي وإنتاج مادي. ولا شك في أن الإنتاج المادي، وهو أمر يتعلق برفاهية الأفراد والأمم وثروتها ومجدها الإقتصادي، يستمد قوته ونشاطه وحيويته من الإنتاج العقلي، إذ كلما كان الذهن نشيطاً وكانت الثقافة مزدهرة استطاع العقل البشري أن يبتكر طرقاً جديدة مفيدة في زيادة الإنتاج المادي وإنماء الثروات المختلفة مما يؤدي طبعاً إلى السعة بين الأفراد ورفع مستوى الحياة بين طبقات الشعب. ولذلك نعد الإنتاج العقلي الأساس الذي ينبني عليه عز الأمة وقوتها ورفاهيتها. ولعل هذا كان السبب الذي من أجله اتجهت المدارس المصرية بكل قوتها منذ فجر النهضة إلى دراسة مبادئ العلوم الحديثة النظرية ظناً من القائمين بأمرها أن الإنتاج بنوعيه محصور في ذلك لما هو ظاهر من الارتباط الوثيق بين المدنية الحديثة وبين تلك العلوم العصرية، مهملين بجانب ذلك أموراً حيوية أخرى لا محيص عنها في سبيل الحصول على الثمرة الحقيقة من التربية والتعليم في تلك المدارس، وهي أمور تعني بها العناية كلها جميع المعاهد العلمية في مختلف الأمم المتمدنة. فكان لهذا العمل أثره الكبير فيما نلمسه من الفروق الكبيرة بين شبابنا وشبابهم: فبينما تجد الشاب منهم ينغمس في أعمال الإنتاج بمجرد انتهائه من دراسته، إذا بالشاب المصري يسعى حثيثاً إلى الوظيفة ويفضلها على أي عمل منج آخر، معتقداً أن فيها ضماناً للعيش في هدوء وطمأنينة مهما قلت مواردها، ومهما هزل مستقبلها على حد قول الشاعر:

حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل

ومن ثم نرى الشاب المصري لا يقوى على المخاطرة في الأعمال الإنتاجية لأنه ضعيف العزم قليل الصبر على ما يعترضه من عقبات، يجب أن يصل دائماً إلى نتيجة حاسمة سريعة مما لا يصل إليه غيره في البلاد الأخرى إلا بقوة العزيمة والأناة والصبر والجد المتواصل؛ ونراه يتعجل الثروة قبل أوانها ويتعجل المجد قبل أن يحين حينه، يضجره البطء ويقضي عليه التسرع فيسلمه للفشل كمن قيل فيه: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). ونراه متراخياً متواكلاً يفضل الاعتماد على والديه وذويه وما يمنحونه إياه من فضلات الرزق، على القليل مما قد يصيبه من الكد وعرق الجبين، وهكذا نجد في شبابنا نقصاً في نواح متعددة بل في كثير من الصفات التي تقتضيها الرجولة ويحتمها الجهاد في الحياة الحاضرة. وما ذلك إلا لأن المدرسة لم تجد من الوقت ما يمكنها من العناية بغرس تلكم الصفات الضرورية في أبنائها لأنها خصصت كما ذكرنا في مقالنا السابق كل وقتها لحفظ الكتب المؤلفة في برامج الامتحان ليصل الطالب إلى الشهادة التي كانت ذات قيمة ذهبية في سوالف الأيام، وقد أصبحت اليوم في نظر عقلاء المجتمع لا قيمة لها في الحياة العملية العامة. وإذا كان الإنتاج العقلي كما قررنا هو الأساس الذي تبنى عليه قوة الإنتاج المادي فإن الأمم الحية لا تعنى بالإنتاج العقلي وحده مهملة في معاهدها كما فعلنا نحن في معاهدنا، الاتصال المباشر بمصادر الإنتاج المادي ولكن السياسة التي يسير عليها التعليم في تلك الأمم تقوم على فكرة حصر الإنتاج العقلي على قدر الإمكان في المتفوقين من أبنائها فلا يباح لكل متوسط العقل أو ضعيفه أن يخترق الصفوف إلى معاهد التعليم العليا ما دام قادراً على دفع مصروفاته كما هو الحال عندنا. ولكن هؤلاء قبل أن يتزاحموا على أبواب المعاهد العليا تزاحمهم عندنا اليوم، يوجهون توجيهاً صحيحاً إلى معاهد الإنتاج المادي لتتكون منهم فئات الزراع والصناع والتجار العاديين قبل أن يكونوا عالة على معاهد الثقافة العليا فلا يكون الكثيرون منهم نكبة على تلك المعاهد فقط بل نكبة كذلك على الإنتاج العقلي نفسه! بهذا تتكون طبقات الأمة عند تلك الأمم تكوناً صحيحاً، وتنحصر القيادة العقلية والعلمية في المتفوقين من ذوي العقول الناضجة والإفهام القوية، ولا توجد عندهم تلك الثقافة المزيفة التي تحمل شبابنا من شعبة الرياضة اليوم مثلاً على أن يلجئوا مكرهين كليتي الحقوق والتجارة مع أنهم لم يخلقوا لهما، تلك الثقافة المزيفة التي وصفها الأستاذ العقاد في إحدى مقالاته بالرسالة بقوله:

(فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في النهاية وهي القوى التي يظن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين)

من اجل هذا كله إذا بحثنا في إنتاجنا العقلي الحالي نجده مع الأسف ضئيلاً عقيما فما بالك إذن بالإنتاج المادي! ليس لدينا من الهيئات العلمية إلا العدد القليل، وأهمها طبعاً كليات الجامعة وهي وإن كانت لا تزال ناشئة إلا أننا كنا نأمل منها في زهاء 15 سنة مضت أن تثبت وجودها العلمي بين جمهور المثقفين كما أثبتته بين جدرانها الخاصة، فهي وإن كانت لها بحوث علمية إلا أنها إلى الآن لم يحس الجمهور المثقف بوجودها لأنه لم يستفد من بحوثها إلا قليلاً ولأنه لم يحس بأثر لها في الحياة العامة أكثر مما كان للمدارس العالية قديماً، فالجمهور لم يستفد شيئاً محسوساً إلى اليوم في أغانيه وأناشيده وأقاصيصه القومية من كلية الآداب مثلاً، والجمهور لم يجد فائدة تذكر من كلية العلوم وكلية الزراعة ومصلحة الكيمياء في أمور تتصل بالصميم من حياته الإنتاجية كمسألة دودة القطن التي تقضي على ملايين الجنيهات من ثروته سنوياً، لا ولا فيما هو أبسط من ذلك كالفوائد الصحية التي يمكن أن تجنى من عين مائية كالعين الجديدة في حلوان الخ

فإذا انتقلنا خطوة إلى التعليم الفني الزراعي والصناعي والتجاري وهو التعليم المتصل اتصالاً مباشراً بحياة الإنتاج المادي وجدنا حالة مع الآسف لا تسر أي مصري، إذ ليس لتلك المعاهد بأنواعها أثر يذكر في ذلك الإنتاج، لأن جميع خريجيها لا يعنون بمصادر الإنتاج المادي ولا يعبئون بالاتصال به. إنما همهم جميعاً الحصول على الوظيفة حتى ولو كانت وظيفة كتابية أو إدارية لا علاقة لها بفنهم. ولقد شرحت عيوب هذا النوع من التعليم في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 246 إلى صفحة 253

أما التعليم العام فالإنتاج العقلي يكاد يكون معدوماً بين رجاله أنفسهم، لأن كل إنتاجهم محصور في عدة كتب خاصة بمناهج الدراسة ليس للابتكار أثر فيها لأن معظمها منقول عن الكتب الإفرنجية لغرض الكسب المادي لا لغرض الثقافة والتثقيف، مما لا يحبب الطالب في المطالعة بل يبعده عنها ويبغضه فيها، على عكس الحال في المدارس الأجنبية التي تعتبر الغرض الأساسي من وجوها ووجود مؤلفاتها إنما هو تعويد أبنائها القراءة وتحبيبهم في المطالعة وإفهامهم جيداً أنهم إذا تركوا المدرسة فإنما يتركونها ليبدؤوا تعليمهم الحقيقي المستمد من داخلية نفوسهم بالاطلاع على الكتب المختلفة، مما لا أثر له عندنا مع الآسف. ولعل سبباً من أسباب ذلك العقم يرجع إلى النظام الذي ابتدعه دنلوب قديماً في مكافأة رجال التعليم وترقيتهم، والذي أخذ به أتباعه ولا يزال يأخذ به الكثيرون منهم، ذلك النظام العتيق الذي يقضي بقصر الترقية على ذوي المؤهلات التي حصل عليها الواحد منهم من غير نظر إلى ما ينتجه فترهم يقدمون دائماًَ صاحب المؤهلات الأوربية على ذوي المؤهلات المصرية مهما كان الأول عديم الإنتاج ومهما كان الثاني كثير الإنتاج لا لسبب إلى لأن الأول - كما يقولون - رجل إنجلترا أو وهذا النظام - وهو نظام المؤهلات والشهادات يقضي على الإنتاج العلمي قضاءاً تاماً، لأن الجميع عرفوا أنه يكفي للواحد منهم أن يقضي ثلاث سنوات في إنجلترا ليضمن القفز المستمر في التقدم على زملائه بل على أساتذته أنفسهم مهما كانوا منتجين! وبذا لا يهتم رجل التعليم اليوم بأن يكون منتجاً (وقد يضر الإنتاج أحياناً) بقدر ما يهتم بأن ينتسب إلى إحدى الكليات في أوربا ليقضي بها سنين معدودة تجعله في مقدمة الصفوف دائماً وتضمن له الوصول إلى أعلى القمة

وإنا لنأمل في هذا العهد الجديد أن يقضي على هذا النظام الدنلوبي العتيق قضاءاً تاماً، لأنه يقف حجر عثرة في سبيل النهوض بالإنتاج العلمي والعقلي الذي يجب أن يكون هو الأداة الفعالة في سبيل النجاح والرقي

عبد الحميد فهمي مطر