مجلة الرسالة/العدد 331/وزارة الشؤون الاجتماعية

مجلة الرسالة/العدد 331/وزارة الشؤون الاجتماعية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939


الفقر. . .

- 2 -

الفقر هو العنوان الثاني في الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية كما نقترح أن يكون. وإذا قلت الفقر فقد عنيت بهذه الحروف الثلاثة كل ما يقع في ذهن المرء وخياله وحسه من معاني البؤس والألم والأسى والجريمة والرذيلة والذلة والمسكنة والعداوة والانتقام والثورة. وأي مجتمع يتسنى له أن يلتئم أو ينتظم أو يسعد ما دامت هذه الآفات تلح عليه بالاعتلال والانحلال والوهن؟ وأنت إذا تقصيت بالنظر المتأمل أحوال الناس وأهوال الدنيا وجدت تنازع القوت هو المشكلة الأزلية للحياة، والفقر هو النكبة الأبدية على النظام، والجوع هو السبب القريب أو البعيد لكل ثورة في تاريخ الأمم وكل جريمة في حياة الأفراد. فهل في حدود الجائز إذن أن نطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أن تبيد الفقر وتقتل الجوع كما طلبنا إليها أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة؟ لا وا أسفاه! لأن شمول العلم أمر تقتضيه الفطرة وتجيزه القدرة، ولكن شمول الغني شيء تأباه الطبيعة ويمنعه العجز. وما دام الناس مختلفين في الذكاء والقوة، فلا بد أن يختلفوا كذلك في النفوذ والثروة. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة ونظام مسلم في الدين. إنما نطلب إلى وزارتنا المصلحة أن تخفف من نوائب الفاقة وتكفكف من غوائل الجوع بتقريب المسافة بين الغني والفقر، وتنظيم العلاقة بين القوة والضعف، فإنها إن نجحت في تحقيق هذه الأملين فقد نجحت في إقرار السلام في النفوس وإحكام النظام في المجتمع

ولكن كيف تستطيع وزارة الشؤون الاجتماعية أن تخفف آلام هذه العاهة المستديمة ما دامت لا تستطيع أن تحسم أسبابها بالطّباب الناجع؟ تستطيع ذلك من طريق الدين ومن طريق التشريع ومن طريق الإدارة. فأما ما تستطيعه من طريق الدين فجبابة الزكاة وتنظيم الإحسان. وجباية الزكاة فريضة على الحكومة المسلمة، كما أن أداءها فريضة على الشعب المسلم. فلا يجوز للوزارة أن تكل أمرها لحرية الضمير وإرادة النفس، فإن طمع الناس في عاجل ثواب الدنيا أقوى من طمعهم في آجل ثواب الدين. ومن أجل أداء الزكاة كان ارتداد العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر. إنما يجب أن تجبى الزكوات بالاضطرار كما تجب ضرائب الأرض وعوائد العقار، وأن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية جباة كما كان لوزارة المالية صيارف. ولا بأس أن يترك الاختيار في الإحسان على أن يستعان على غرسه في القلوب وجمعه في الأيدي بفرقة من الرجال والنساء تدخل البيوت والمكاتب على الأغنياء والغنيات من الأفراد والشركات فيذكرونهم بان الله الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل جمعة ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة. فإذا تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر فمنح القادر العاجز روحا من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها غير ظلعاء ولا وانية. فإذا ما جمعت الزكوات والصدقات من طريقي الطوع والكره تجعل في (بيت المال) لا في (الخزانة العامة)، ثم تدبر على النظم الحديثة في التأثيل والاستغلال، وتنفق في إنشاء المياتم والملاجئ والمستشفيات، ويستعان بالفرقة التي جمعت الإحسان من بيوت الأغنياء، في توزيع المعونة على المتعفف المجهول من بيوت الفقراء

وأما ما تستطيعه الوزارة من طريق التشريع فسن القوانين لحماية العامل والفلاح من صاحب المال ومالك الأرض؛ فإن أكثر ما يصيب الطبقة العاملة من المحن والإحن إنما ينشأ من إطلاق الحرية الطاغية لأصحاب الأموال الذين يستثمرونها في التجارة أو في الصناعة، ولأرباب الأطيان الذين يستغلونها بالتأجير أو بالزراعة

فهؤلاء وأولئك على قلتهم يتحكمون في الأجراء ويستبدون بالمستأجرين ولا تدركهم بهم رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف؛ ولكن أصحاب الأموال والأطيان لا يكادون يتركون لعمالهم وفلاحيهم ما يمسك الروح ويستر البدن

وإذا شاءت الوزارة أن تحقق ما يعانيه العامل والصانع من أولى العمل، وما يقاسيه الأجير والزارع من ذوي الطين، تكشفت لها أستار المجتمع عن مآس مروعة من الظلم والغبن والطمع والأثرة لا يستطيع منع تمثيلها المحزن المخزي غير سلطان القانون

بقى ما تستطيعه الوزارة من طريق الإدارة وهو يشمل ما لا يدخل في نطاق الدين أو القانون بنص صريح، كمكافحة البطالة بتيسير سبب العمل للعامل، وتدبير رأس المال للصانع، وتمصير المعامل والمصانع والمتاجر والمصارف والشركات يداً ولساناً ليحل الوطنيون المتعطلون فيها محل الأجانب، وذلك مورد للرزق يمكن أن يعيش عليه ألوف من الأسر المحرومة أهملته الحكومات السالفة لاشتغالها بسياسة الكلام وخصومة الحكم عن كل نافع

بهذه الخطة المحكمة لكفاح الفقر بمعونة من سلطان الدين وسطوة القانون وقوة الحكومة تستطيع الوزارة أن تنقذ من غوائله الطفولة المعذبة والشبيبة المشردة والشيخوخة العاجزة والأسر المنكوبة والكفايات المعطلة، وأن تطهر المجتمع مما يجره عليه بقاء هذه الأحوال من فساد الأخلاق ونغل القلوب واضطراب الأمن وقلة الإنتاج وكثرة الجرائم. ونجاحها في ذلك معناه بناء المجتمع المصري على أسس جديدة من تقوى الله ورضوان الناس وتعاطف النفوس وتعاون القوى وتضامن الأمة.

احمد حسن الزيات