مجلة الرسالة/العدد 332/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 332/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939



دراسات في الفن

الفن في حياتنا الاجتماعية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

شاءت وزارة الشؤون الاجتماعية أن تتعرض للفن فأنشأت في نفسها إدارة للدعاية خصتها بأمور ستة: الأول نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، والثاني الإشراف على برامج الإذاعة وترقيتها، والثالث تدعيم المسرح القومي والعمل على جعله وسيلة فعالة لتثقيف الشعب وإصلاحه، والرابع مراقبة الروايات والأفلام السينمائية والأغاني الشعبية، والخامس الإشراف على تنظيم المهرجانات والأعياد القومية والموالد بما يحقق استفادة الجماهير منها من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية، والسادس تنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بمحال دور التسلية. . . وهذه الأمور الستة شديدة الصلة بالفن، وهذا ما يدعوني إلى إنعام النظر فيها محاولاً أن أجد الطريق العملي إلى تحقيقها.

والمسألة فيما يخيل إلى دائرة. . . ذلك أننا نعرف أن الفن هو ثمرة الحياة الاجتماعية، فكما تكون الأمة يكون فنها، وأمتنا كما هو ملحوظ في حاجة إلى إصلاح اجتماعي، فإذا حاولنا أن نصلحها بفنها لم نفعل شيئاً، لأن فنها منها وما هو منها لا يمكن أن يصلحها. إنما هناك رجال سبقوا عصرهم وهؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يؤثروا في مواطنيهم لو أن فرصة العمل أتيحت لهم، وفرصة العمل لا تتاح لهؤلاء عادة في سهولة لأن مواطنيهم متأخرون عنهم فهم لا يتذوقونهم كما يتذوقون غيرهم من الفنانين والمفكرين الغارقين في هذا العصر الضال، فأول ما يجب علينا إذن هو البحث عن هؤلاء الرجال، وإلقاء مقاليد الإصلاح بين أيديهم. . .

ونحن إذا استرجعنا هذه الأهداف الستة التي تريد وزارة الشؤون الاجتماعية أن تصل إليها وفكرنا فيمن يصلح لقيادة الشعب لها. . . رأينا الهدف الأول هو نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، ولعل هذا يتم بإنشاء مجلس أعلى للشؤون الاجتماعية يضم كل من عرفت مصر أنهم يهتمون بشؤونها الاجتماعية اهتماماً حقيقياً لا اهتماماً زائفاً، ويكون على رأس هؤلاء جميعاً صاحب السعادة عبد العزيز فهمي باشا. . . فهو الزعيم المصري الذي آمن بحق الوطن حينما لم يكن يؤمن به إلا نفر قليل جداً من أبناء الوطن، وهو الذي سبق كل الزعماء في تقدير القسط الصالح من سيادة الشعب وقتما كان كل الزعماء يريدون للشعب سلطة فضفاضة وهو لم يزل طفلاً ناشئاً. . . وهو الرجل الذي لو أراد أن يعيش متنقلاً بين الكونتنتال ومينا هاوس وسان استفانو لفعل، ولكنه على الرغم من جهل الجماهير لفضله يفضل دائماً أن يقترب من الجماهير، ويختار جمهوره الأقرب إليه فهو يلزم (كفر المصيلحة) قريته التي نبت فيها والتي وهبها كل الفراغ من وقته، والتي ظل فيها يكافح الجهل حتى محا منها الأمية محواً، ويكافح الفقر حتى لم يعد من أبنائها متعطل ولا متسكع، ويكافح المرض حتى أصبح أكثر أهلها من هواة الألعاب الرياضية وهم يقيمون فيها المسابقات. . . هذا الرجل وغيره من رؤوس الريف العاملين المجربين هم الذين يعرفون ما هي السبيل إلى نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، وليشترك معه الكتاب والمفكرون والمجاهدون الذين لهم ماض بين الفقر والجهل والمرض. . . أولئك الذين خالطوا الناس وعرفوا أوجاعهم، والذين أهينوا وعذبوا وسجنوا وجاعوا وتألموا. . . أبناء الشعب، ونبت الطين المصري. . . من يهمهم إصلاح الحياة في مصر لتصلح حياتهم هم أنفسهم، ولترتاح ضمائرهم. . . أما الإذاعة فتنقسم إلى قسمين: أولهما قسم الأغاني والموسيقى، وثانيهما قسم الأحاديث والمحاضرات والتمثيل. وقسم الأغاني والموسيقى لا يمكن أن يرقى إلا إذا أشرف عليه رجل موسيقي، وهو اليوم ملقى بين يدي مصطفى بك رضا الموظف بوزارة الأوقاف، وهو رجل من أبناء الذوات تعلم العزف على القانون كما يتعلم أبناء الذوات وبنات الذوات العزف على البيانو، فهو عندهم وعندهن زينة وأبهة. . . هذا الرجل يجب أن يبعد عن محطة الإذاعة وعن المعهد الملكي للموسيقى العربية ليحل محله واحد ممن كافحوا الحياة في سبيل الفن، وممن بذلوا للفن حياتهم؛ وأنا، ومن يعرفون لا يشكون في أن مثل زكريا أحمد هو أول هؤلاء فقد كان مقرئاً للقرآن كما كان من منشدي القصائد ومرتلي مولد النبي، ثم إنه من ملحني التخت له أدوار وطقاطيق وموشحات لا يحصى عددها وهو بعد ذلك من ملحني المسرح والسينما أيضاً. . . وليس في مصر من جمع هذه المميزات على نجاح مشهود وتفوق ظاهر غير زكريا، فكيف يبعد رجل كهذا عن الإشراف على ترقية الأغاني والموسيقى في مصر؟

ويجيء بعد ذلك قسم الأحاديث والخطابة والروايات، ولابد أن يكون المشرف على هذا القسم ممن سبق لهم أن تحدثوا إلى الشعب وأن عرفوا ما هي الأحاديث التي تؤثر فيه وتخلبه، وكيف يمكن أن يقاد وكيف يمكن أن يُهدى.

أما تدعيم المسرح فلا يمكن أن يكون إلا بتحريره، وتحريره لا يمكن أن يكون إلا بتشجيعه، وتشجيعه لا يمكن أن يكون إلا بالمال يوزع على الفرق الأهلية، فيكون للريحاني نصيب، ويكون ليوسف وهبي نصيب، ولفاطمة رشدي نصيب. . . وقد تستجد فرق أخرى تنافس هذه، ولا ريب أن الروح ستدب من جديد إلى المسرح المصري الذي قتل حين أظله (الميري) بظله. . . إن الفرقة القومية تشبه جريدة الوقائع الرسمية والمجمع الملكي للغة العربية. . . فكم من الناس يكترثون لهذه الجريدة وهذا المجمع؟ وما مدى تأثير كل منهما في الحياة المصرية؟ وبم يشعر الناس لو أنهما ألغيا؟ هل يحس أحد بأن الحياة المصرية قد نقصت شيئاً؟

وأما مراقبة الأفلام والروايات السينمائية فلابد لها من خطة خاصة أيضاً. . . لابد أن يعهد بالإشراف عليها إلى هيئة لا إلى فرد فهي تؤثر في الجمهور من عدة نواح مختلفة، وهي شديدة الخطر على النشء، فإذا لم تكن خاضعة لرقابة صالحة يقوم بها نفر ممن يغارون على وطنهم وأهلهم فإنها من غير شك ستجرف مصر إلى هاوية ليس لنا قبل بالتردي فيها. . . هذا إلى ما يكون في روايات السينما أحياناً من مظاهر التعصب الغربي ضد الشرق عامة، وضد العرب خاصة. . . والروايات التي تنحو هذا النحو يقبلها الغرب لأنها ترضي كبرياءه ولأنها تنم عن ألوان من الكفاح اصطنعها الغرب ضد الشرق وانتصر فيها. . . ولكن هذه الروايات نفسها لا يصح أن تعرض في بلد شرقي لأن عرضها فيه إهانة له ولأنها تربي الصغار على كراهية الشرق وعبادة الغرب بينما هم شرقيون.

لابد لنا من عالم نفساني اجتماعي يشاهد هذه الأفلام قبل عرضها ليحكم عليها وليقرر أنها تقربنا في المثل العليا التي نحب أن نحققها فيبيح عرضها أو أنها تحيد بنا إلى مثل سفلى لا يصح أن نتدلى إليها فيمنع عرضها، ولابد إلى جانب هذا من رجل غيور على التقاليد والنظم الشرقية غيرة صحيحة، ولابد إلى جانب هذا وذاك من مرب يعرف مدى ما تؤثر هذه الروايات في نفوس الصغار، وفي صغار النفوس.

وتجيء أخيراً المهرجانات والأعياد والموالد، وهذه هي معضلة المعضلات. . . فكم من أمة حكمت مصر، وكم من حضارة ألمت بها، وكم من دين غزاها، وكم أريد بها أن تكون على هوى من أراد فلم تكن إلا ما أرادت بها طبيعتها فنفضت عن نفسها كل ما حاول الجبابرة أن يصبغوها به من ألوان الحياة، ولم تستبق من هذه الأصباغ إلا صبغتين اثنتين هما صبغة الفراعنة وصبغة الفاطميين. أما الفراعنة فلا يزال في مصر من مخلفاتهم هذه الآثار القائمة من الصخر والحجر، وهذه اللغة التي يتكلم بها بعض أهل النوبة، وهذا التقويم الذي يؤقت به المصريون الزراعة، وهذه العواطف التي لا تزال تختلج في نفوس المصريين اليوم بالمنطق نفسه الذي كانت تختلج به في نفوس المصريين من أقدم العصور والتي نحب بها ما كان يحبه أجدادنا ونكره بها ما كانوا يكرهون، فنحن لا نزال نحب النيل ونحتفل بفيضانه كما كانوا يفعلون، ونحن لا نزال نحب الجاموس الذي يساعدنا في فلاحة الأرض كما عبدوا العجل أبيس، ونحن لا نزال نكره الهجرة من بلادنا مهما قست علينا الحياة فيها كما كانوا يكرهون هم الهجرة من بلادهم مع أننا اليوم مسلمون، ومع أن الإسلام يمقت الذين يتشبثون بأرض يستضعفون فيها. وفينا كذلك من تفكيرهم هذه القدرة العجيبة على الاستعاضة بالخيال عن الحقيقة والأمر الواقع، ولعلنا الشعب الوحيد الذي يرضى اليوم أن تلاقيه ولا تغديه، كما أن فينا من أخلاقهم (فرعنة) تجري في عروقنا مع الدم، فالواحد منا إما فرعون يتفرعن على من هو دونه، وإما عبد لكل فرعون ممن هم فوقه رؤساء وحكاماً. وأما الفاطميون فلا تزال مصر تحتفظ بكل ما أقاموه فيها من دعائم حكمهم، فهذه الأضرحة التي تملأ القاهرة وغيرها من مدن مصر وقراها، وهذه الموالد التي لا يزال المصريون يجرون وراءها من القاهرة إلى دسوق إلى طنطن إلى دمنهور، وهذه الخرافات العجيبة المتأصلة في أذهان الناس والتي تخالط عقائدهم من دينية ودنيوية والتي يستقونها من القصص الفاطمي المتفشي بينهم، ومن الكتب المدسوسة عليهم باسم الإسلام والإسلام منها بريء. وهذا التشاغل عن الحياة، وهذه القناعة بخيرات الأرض إذا جادت الأرض بالخيرات. . . هذا وذاك باقيان في الحياة المصرية إلى اليوم من أثر الفراعنة ومن أثر الفاطميين، حتى الدين تأثر بالفراعنة والفاطميين، فالإسلام الذي في نفوس العامة من المصريين إسلام فاطمي، والمسيحية التي في نفوس العامة منهم مسيحية فرعونية. . فالمسلمون من المصريين يفكرون في أهل البيت أكثر مما يفكرون في الله، ويستنجدون بالحسين والسيدة زينب أكثر مما يستنجدون بالله الواحد الأحد خالق الحسين والسيدة زينب وجدهما عليه الصلاة والسلام، وهم يقرؤون قصص السيد البدوي ومناقبه وأحاديث أكلاته ومواقعه أكثر مما يقرؤون القرآن وتاريخ النبي. والمسيحيون المصريون فرعنوا مسيحيتهم هم أيضاً؛ فهم يسمون أنفسهم بأسماء فرعونية مع أن الفرعونية وثنية في رأي المسيحية، ثم إنهم لا يزالون يتفننون في الحزن على موتاهم تفنناً عجيباً لم يكن يحسنه في الشعوب الغابرة أحد إلا قدماء المصريين، ويحسنونه هم اليوم، مع أن المسيحية إيمان مطلق بإرادة الله ورضا مطلق بمشيئته. . . فلماذا انطبعت الحياة المصرية بهذين الطابعين وحدهما. . .؟ ولماذا استطاع هذان الطابعان أن يغالبا الزمن في مصر وأن يبقيا فيها على مر العصور دون غيرهما مما كان يصح أن يؤثر في الحياة المصرية وأن يطبعها بطابعه. لابد أن في الأمر سراً. والسر هو أن الفراعنة والفاطميين أنشئوا دولتيهم على أساس من الدعاية والفن، وقد راعوا في فنونهم أن توافق الروح المصرية، وقد عرفوا أن مصر أرض زراعية، وأن هذه الأرض الزراعية تستذل أهلها بخيراتها، وأنه إذا توفر الخير لأهلها طابت لهم الحياة فيها فلم يعودوا يفكرون في شيء إلا اللهو، فشغلوهم بأنواع من اللهو، كما شغلوهم بأنواع من الاسترقاق خيلوا إليهم أنها أصل خيرهم، فحملوهم على عبادة النيل، وعبادة الحكام، وعبادة العجول، وأولياء الله الصالحين واختلقوا لهم ألواناً من البطولة هي ألوان الآكل والشرب. . .

ولم يكن الفراعنة مجانين ولا كان الفرعون منهم يصدق أنه إله لأنه كان يعرف أنه ضعيف، ولم يكن الخليفة الفاطمي سخيفاً ولم يكن يصدق أن السيد البدوي يأكل بقرة وكبشاً ومائة دجاجة وألف عصفور. . . وإنما كانت هذه هي السياسة التي قام عليها حكم الفراعنة وحكم الفاطميين. . . ونحن اليوم نجتاز ظرفاً جديداً من ظروف الحياة ثبت فيه أن الزراعة لم تعد تصلح أن تكون أساساً لحياة راقية في أمة ناهضة، وثبت فيه أن العلم والحرية أساسان للرقي والنهوض، لذلك يجب أن تتبدل هذه الأسس التي خلفها الفراعنة والتي ثبتها الفاطميون، وليس يستطيع هذا إلا فنانون مبتدعون يخلقون للمصريين المثل العليا للبطولة الجديدة، يستقونها من الإسلام الصحيح، ومن تاريخ النبي وعمر وصلاح الدين وأولئك الأبطال المسلمين. . . وليس يتأتى هذا إلا لفنانين عاشوا في الريف وعاشوا في المدن، وخالطوا البيئة الزراعية والبيئة الصناعية، وتمكنوا من الحياة المصرية الناعسة وتحرقوا شوقاً لحياة مصرية جديدة صاخبة حية. . . تنهض على أساس مصري إسلامي لا على أساس مترجم أو مسروق. . . لابد أن تعطل موالد الأكالين والدجالين وأن تحيا موالد الأبطال الحقيقيين. . لابد من رجعة إلى النور. . . بلسان المصريين. . . وأقدر الفنانين على هذا هم: بيرم التونسي وعبد السلام شهاب وبديع خيري. . على أن يعاونهم مؤرخون.

أما تنفيذ اللوائح فمن شأن رجال القانون.

عزيز أحمد فهمي