مجلة الرسالة/العدد 333/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 333/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1939



دراسات في الفن

العيد فن الطفولة

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

إلى الذين أسعدوني في أعيادي والذين ودوا ذلك، والى الذين سعدوا معي فيها فطاب لهم ذلك كما طاب لي، والى الذين وددت لو أسعدتهم بعد ذلك. . . حقق الله رجائي. . .

إلى أيام البهجة والصدق. إلى أيام الغفلة والحب

إلى رصيف الإسكندرية ورصافتها

إلى كل ما كان. . . تحية اللوعة والوفاء. . . يا ليت ما كان دام لولا أن من عاش رأى. ومن يدري فربما ود من رأى لو أنه لم ير. من يدري؟ لطفك اللهم!

كان العيد عيداً

كنا نتهيأ لفرصته من رمضان أو شعبان فكانت أيامهما أعياداً. وكنا نحلم بأيامه فكانت أحلامنا أعياداً، وكنا نتحدث بأحلامنا فكانت أحاديثنا أعياداً. وكان العيد يجيء وكنا نستغرق فيه، وكان العيد يمر، وكنا نذكره فكانت ذكراه أعياداً. وكانت نشوة العيد تأخذ الروح من العيد إلى العيد حتى لم نكن نحسب أن بين العيد والعيد أياماً ليست أعياداً.

. . . حتى جاء عام فطنت فيه إلى أن بين عيد الفطر وعيد الأضحى شهرين وبعض شهر، وأنهما ليسا أسبوعاً متلاحقاً: الثلاثة الأيام الأول منه عيد صغير، والأربعة الأخر عيد كبير. فكيف فطنت إلى هذا؟ وكيف عرفت أنها حقيقة جديدة لولا أني لم أكن أراها قبل ذلك، وأني كنت لا أميز الأيام من الأيام؟ وهل أنا وحدي الذي كنت هكذا؟ لا يمكن. . . وإنما كان مثلي كل الأطفال فهذا هو طبع الطفولة. . . لا تريد أن تعرف من الحياة إلا المرح والبهجة والفرح والعيد. . . فهل لم تكن تنغص عليَّ الحياةَ آلامٌ؟ كانت آلام ولكن كانت معها دموع تغسلها فتنقي الروح منها ولا تعود تذكرها.

ثم تعلمت الجلد. والجلد صبر على الألم، والألم كدر. . . فتراكمت في النفس أكدار فوق أكدار لعلها اليوم من كثرتها لم تعد تصلح علامة لتمييز الأيام من الأيام. . . ولكنها صلحت في الماضي كثيراً فقليلاً. . . فعرفت بها في البدء أن بين العيد والعيد أياماً لا زينة فيها ولا كعك ولا ضحية، ثم عرفت بعد ذلك أن هناك أياماً للمدرسة، وأن في المدرسة حساباً وعقاباً، ثم عرفت. . . ثم عرفت. . . حتى عرفت أن من الأعياد ما يقضى بين الجدران ووراء القضبان وكنت قد مررت قبل ذلك بسجن في عيد ولم أرض أن أفكر أن فيه ناساً يقضون العيد، ولم أطلب حتى لنفسي الرحمة من محنة كهذه المحنة.

كانت غفلة. ولكنها كانت سعادة. ولكنها كانت غفلة

فأي شيء نرجوك يا رب والسعادة تبدو كأنها من لوازم الغفلة. وأنت تكره الغافلين! نسألك العون على مرارة الفطنة. بل إنا نسألك الهدى إلى حلاوتها.

فكيف نكون إذا اهتدينا؟

فلنر إلى المهتدين

كان محمد يلعب مع سبطيه، وكان المسيح يدعو إلى ملكوت الأطفال، وكان في كل فنان من علامات الطفولة وإماراتها ما يشهد بأن في الطفولة ميزة لو أن الناس يحتفظون بها، ولا يجاهدونها بالستر والكبت والخنق، ولو أنهم يتركونها تنمو في حياتهم وتزدهر كما تنمو أبدانهم وتزدهر، لكبروا وكبرت هذه الميزة معهم واستطاعت أن تطبع حياتهم بذلك الطابع الذي تطبع به حياة الأطفال، وهو طابع السعادة. . . ولن تكون ثمة غفلة مادام العقل ينضج شيئاً فشيئاً، وما دامت هذه الميزة تهديه في نضجه فتحميه من الاتجاه إلى الخطيئة وتأخذه بالتصويب الحق الذي تأخذ به أهل الفن المهتدين. . . وإذا كانت الإنسانية قد غيرت في الماضي أهل الفن هؤلاء بشذوذهم عن أوضاع الناس المألوفة للزومهم هذه الطفولة والتزامهم منهجها فإنها إذا آمنت بها وانتهجتها هي أيضاً ستعرف أن محمداً لم يكن يعبث بوقته الغالي عندما كان يلعب مع سبطيه، وأن المسيح لم يكن يهرف حينما كان يلفت أنظار الناس إلى الأطفال ويؤكد لهم أنهم أقرب إلى الله والحق من الكبار وأشد به صلة، وأن موسى لم يكن مخطئاً حينما استنجده الذي من قومه وكان عدوه يضربه فلكم عدوه فقتله، فليس هذا إلا ما يفعله الطفل أو البدو وهم أطفال الشعوب بين حضارات البشر المكتهلة، وقد نجاه الله بعدها من الغم فلم تعد نفسه تنغص عليه حياته بالحساب والتأنيب والتعنيف. . .

فأي ميزة هي هذه التي في الأطفال تسعدهم وتبرئهم وتستنبت الفن فلي نفوسهم فإذا كبروا اجتزوها واستأصلوا الفن معها، وصاروا بعد ذلك هكذا كما نراهم. . .

إنها لاشك الميزة التي تبعث الفن، إنها الصدق في الحس، والصدق في الاستجابة له، والصدق في التعبير عنه. . . وهذا الصدق إذا صين في النفوس كبر الأطفال وهم لا يزالون أطفالاً، وأقبلوا على الحياة كما يقبل عليها الأطفال مطمئنين مبتهجين، ولم يكن لهم شغل في الدنيا إلا اللعب والغناء والطرب والبحث عن السعادة. فتصبح أيامهم عندئذ أعياداً. . . كما كان آدم وحواء في الجنة: لا تكليف ولا حساب، لأن التكليف والحساب لم يجبا ولم يلزما إلا فيما جد على الإنسان من حياة بعد الجنة، وفيما يجد على الفرد من حياة بعد الطفولة. . . تمهيداً لعودة الإنسان إلى الجنة، ورقيباً عليه وصوناً حتى يعود الفرد إلى طفولته الثانية وهي الشيخوخة، وفيها تضعف عند الإنسان قوة الكبت التي يضغط بها الصدق في نفسه فيطفو الصدق من جديد ولكنه يسرى عندئذ في أعصاب منهكة تراكمت فيها الأكاذيب وآثار الأكاذيب، فهو لا يحظى من سعادة الطفولة إلا بمقدار ما خلصت نفسه في حياته من الشر ودواعيه. فإذا كان قد عاش على الصدق والفرح فهو في طفولته الثانية كما كان في طفولته الأولى تملأ نفسه البهجة ولا تفزعها الوساوس، وإذا كان قد عاش على الغش والختل فيا ويله من طفولته الثانية! ويا ما أشد الذي يلقاه فيها من الصراع بين الصدق الذي طالت غمرته والذي يريد أن يفيض، وبين الكذب الذي طال تشبثه بنفسه ثم ضعف فهو لا يقوى على البقاء. . . ومع هذا فإنه يأبى أن يزول في هدوء.

والآن. . . هل صحيح أن الطفولة تمتاز بالصدق؟ وهل صحيح أن الصدق مبعث الفن والفرح معاً؟

أما أن الطفولة تمتاز بالصدق فإنه من غير شك صحيح. لأننا إذا تتبعنا أكاذيب الناس رأيناها تنقسم إلى قسمين: قسم يراد به تحصيل نفع أو دفع ضرر، وقسم آخر يراد به التسلية والترويح عن النفس، والقسم الثاني يدخل من باب الفن لأنه تخيل يستكمل به صاحبه نقصاً يحسه، وهذا لا يؤذي صاحبه ولا غيره إن لم ينفع البشرية ويحضها على استكمال النقص الذي رآه صاحبه. وأما القسم الأول الذي يراد به تحصيل النفع أو دفع الضرر فهو من مستلزمات التكليف والحساب، فلو لم يشعر صاحبه بأنه مطالب بأداء عمل من الأعمال وأنه قاصر عن أدائه لما لجأ إلى الكذب يستر به عجزه، ويموه به على صاحب الحق مدعياً أنه قام بما كلف به، وهو يريد من وراء ذلك أن ينجو من حساب صاحب الحق، وهذا شعور ينافي طبيعة الطفولة التي حررتها الأديان والقوانين الطبيعية والقوانين الموضوعة من التكليف والحساب، لأنها فعلاً لا تطيق التكليف ولا الحساب.

فالطفولة إذن صريحة صادقة بطبعها، والأطفال إذن يتعلمون من الكبار الكذب فيما يتعلمون من ألوان الكفاح والصراع في سبيل الرزق وغير الرزق من مطالب الإنسانية الجوفاء، والكذب الذي يتعلمه الأطفال له ثلاث شعب: هذه الشعبة الأولى التي رأيناها تأخذ تعبيرهم عن أنفسهم وتصبغه بصبغة الغش، والشعبة الثانية تلك التي تمنعهم من الاستجابة إلى إحساسهم الصادق فتقعد بهم عما يحبون، وتلقي بهم إلى حيث يكرهون متبعين في هذا اعتبارات ليست من الحق المطلق في شيء وإنما صنعتها هذه الحياة الملفقة التي اختلقت المذاهب، والمواطن، والعلاقات البشرية المتناقضة المضطربة القائمة على النفع العاجل والزيف. ثم هذه الشعبة الثالثة تقيم بينهم وبين الحق سداً منيعاً وتغلف أنفسهم عنه، فتعمي أبصارهم، ولا يعودون يرون الشيء على حقه، وإنما يرونه حسبما تشتهي أنفسهم الكاذبة، وشتان ما بين الحق وبين الذي يشتهيه الكاذبون.

ولكي يدرك القارئ مدى الحق فيما أقول أدعوه إلى أن يتصور صاحباً له ممن عرف فيهم الميل إلى الكذب وإدمانه، والتعلق بالغش والإسراف فيه، فإذا ما استحضره في ذهنه فإني أطلب منه أن يتابع حياته وأن يرى كم يقع هذا الكذاب الغشاش في أحابيل الكذابين الغشاشين؟

أما أنا فأعرف أمثلة عديدة لهؤلاء المساكين، وأعرف أنهم أسهل فريسة للكذب والغش مع تفوقهم في تدبير الكذب، وتمكنهم من حبك الخديعة. . . فإذا اتفق صاحب القارئ مع أصحابي في هذا جاز لنا أن نعتبرها قاعدة مطردة، وحق علينا أن نستقصي أسبابها. ولن يجهدنا السعي إلى أسبابها كثيراً أو قليلاً لأن ذكرها تقدم في الذي انبسط أمامنا من الحديث عن شعب الكذب. فالأصل في الإنسان أن يستطيع التمييز بين ما هو خير وبين ما هو شر، وإذا جاز للإنسان أن يعجز عن التمييز بين الخير والشر فيما اختلف عن نوعه من المخلوقات والموجودات فإنه لا يمكن أن يلم به هذا العجز في صدد الكائنات البشرية التي هي من نوعه ومن طينته، فهو نفس أو روح، وبقية الناس نفوس أو أرواح، والتعارف بين النفوس والأرواح لا يحتاج إلى تعليم ولا تدريب، وإنما هو شيء يحدث بالسليقة والطبع كما يعرف الزيت الزيت فيسعى إليه ويمتزج به مهما فرق الماء بينهما. ونحن إذا تأملنا الأطفال عندما تجمعهم الظروف لأول مرة بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه خيِّر، أو بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه شرِّير وكان مظهر كل من هذين يشبه إلى حد كبير أو صغير مظهر الآخر. . . رأينا الأطفال يندفعون إلى الذي نعرفه خيِّراً، وينفرون من الذي نعرفه شريراً، وليس هذا إلا لأن الأطفال أطلقوا إحساسهم صادقاً يميزون به وحدة النفوس والأرواح بعضها من بعض، ولا يقيمون بعد ذلك وزناً للاعتبارات الأخرى التي نقيم لها نحن الأوزان، والتي نتأثر بها قليلاً أو كثيراً في إصدار أحكامنا على الناس فنصدرها أحكاماً اختلطت (حيثياتها) فبعضها من القانون الطبيعي الصحيح وأغلبها من قوانين أخرى وضعناها نحن، ووضعها الزمان، ووضعها المكان، وما أكثر هذه عند الكذابين الغشاشين، وما أشد تأثيرها في أحكامهم، وما أشد ما يبتعدون بها عن الحق في هذه الأحكام فيغشون أنفسهم كما يغشون الناس.

هذا من ناحية الإحساس وصدقه

والأصل في الإنسان أيضاً أن يستجيب لإحساسه هذا الصادق متى تمكن من نفسه، فإذا أحب اندفع إلى ما يحب، وإذا كره انقبض عما يكره، ونحن إذا تأملنا الأطفال رأيناهم يستجيبون إلى هذا القانون الطبيعي أكثر مما نستجيب له نحن الكبار، ومهما أخذنا على الأطفال الأنانية في مسلكهم هذا فإننا لا نستطيع أن نتهمهم فيه بالخديعة والغش، ثم إن هذه الأنانية نفسها التي نأخذها على الأطفال تنقحها الحياة الطبيعية شيئاً فشيئاً، وتمحوها شيئاً فشيئاً، فالطفل كلما كبر على سجيته أدرك العلاقات الحقيقية - لا الزائفة - التي تربطه بالمجتمع الذي يحيط به، ورأى نفسه مطالباً أمام نفسه - لا أمام غريب عنه صاحب حق مفروض وتكليف مصنوع وحساب مسلط - بأن يراعي حق هذا المجتمع عليه كي يراعي المجتمع أيضاً حقه عليه. . . وهذا شيء ملحوظ في مجتمعات الأطفال، التي تتألب بسرعة على الطفل الطاغية الذي يميل إلى قهرها وفرض سلطانه عليها زوراً، وهو ما تتحرج عنه مجتمعات الكبار وتحتار وتختبل وتتعثر في القيام به.

وهذا من ناحية الاستجابة للإحساس الصادق. ويجيء أخيراً التعبير الصادق عن هذا الإحساس الصادق بهذه الاستجابة الصادقة، وأظن أنه لا أحد من القراء يختلف معي في أن الأطفال يمارسون هذا التعبير على طول الخط، وأنهم لا يتحرجون من مواجهة صاحب العيب بذكر عيبه أمام عينيه وفي مواجهته لا يخشون اللوم، ولا يحسبون حساباً لهذه المجاملات المعقدة التي يحسب الكبار حسابها والتي تحملهم على ابتلاع العيوب. . . ثم ابتلاع المحاسن أيضاً. . . ثم التحكم في تقرير الحكم على الأشياء وفق ما يعرض لهم بناء على هذا الحكم من نفع يكسبونه، أو ضرر يمنعونه. . .

الأطفال إذن هم الذين يحسون بالناس - على الأقل - إحساساً صادقاً، وهم الذين يستجيبون لهذا الإحساس الصادق استجابة صادقة، وهم الذين في آخر الأمر يعبرون عن هذا الإحساس الصادق في هذه الاستجابة الصادقة تعبيراً صادقاً. . . والأطفال بهذا سعداء. وهم بهذا أحب إلى الله من الكبار الكذابين. . . فهل كل الكبار كذابون؟ لا. . . بل أغلبهم. . . ونجا من الكذب الفنانون، أولئك الذين تحرر احساسهم، والذين لا يمنعهم من تلبية هذا الإحساس مانع، والذين يعبرون عنه في صدق وتحرر كالأطفال لا يعنيهم أن يسخط الناس عليهم أو أن يرضوا. . . وهم بهذا أطفال الرجال، وحياتهم على الرغم من الشقاء الذي يظهر لنا فيها حياة سعيدة لأنها حياة طبيعية تجري على سنة الله الأولى وفطرته.

عزيز أحمد فهمي