مجلة الرسالة/العدد 334/الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش

مجلة الرسالة/العدد 334/الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش

مجلة الرسالة - العدد 334
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1939



للأستاذ عبد اللطيف النشار

نشيد العودة

من وضع السيد الرسول

ولقد تتخيل عظم الفارق بين مسير الجيش ذاهبا إلى المعركة وبين عودته آيباً منها فهو يذهب بالأمل في النصر ممزوجاً بالخوف من الهزيمة. يذهب ليلاقي العدو، ويعود بالنشوة ظافراً ليلاقي الأهل والأحباب.

ومن أجل ذلك، جاشت بنفس النبي عليه الصلاة والسلام عواطف سامية حين عودته من غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق في العام الرابع أو الخامس الهجري، غير تلك العواطف السامية التي اختلجت بنفسه عند ذهابه إليها. كلا النوعين من العواطف سام، ولكنهما في طبيعتهما مختلفان.

عاد النبي من غزوة الأحزاب وهو ينشد:

آيبون

تائبون

عابدون

ساجدون

لربنا حامدون

صدق الله وعده ... ونصر عبده

وهزم الأحزاب وحده

أترى كيف تكون الخطوات العسكرية عند الأوبة، مخالفة لها عند الذهاب؟

أما عن اللحن، فيقول العلامة القسطلاني في شرح صحيح البخاري، تعليقاً على نشيد آخر، هو قول عبد الله بن أبي رواحة أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع صوته بالكلمة الأخيرة من ذلك النشيد: (أبيْنا) ويقول: أبينا، أبينا، مرتين. وسيأتي نص هذا النشيد.

ويقول العلامة القسطلاني أيضاً في التعليق على نشيد آخر، وهو الذي قيل في أثناء ح الخندق: إن النبي كان يقول فقرة ويرد عليه الصحابة بفقرة، (وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).

ومعنى هذين التعليقين أن هناك نغمة لكل هذه الأقوال، أي أنها كانت ملحنة. وما لنا نستدل على الترتيل أو التنغيم بمثل هذا الاستدلال ونحن نرتل نشيد غزوة الأحزاب بلحن موسيقي عقب صلاة العيد الأكبر؟ ثم مالنا نستدل على أن القول كان ملحناً بألحان موسيقية، وهو لا يمكن أن يقال إلا مصحوباً بنغمة موسيقية؟

فأنت ترى أن هذا النشيد هادئ رصين، وقد قاله النبي لأول مرة بعد عودته من غزوة الخندق، ولكنه صار يقال بعد ذلك عند العودة من كل غزوة، وكان يقال والجنود سائرون، وكان يقال ملحناً على لحن السير؛ فهو وفقاً للتعبير العصري: (مارش)

وليس يغير من طبيعته أنه ليس بالشعر، فليس من الضروري أن يدخل كل قول موسيقي في دائرة عروضية من دوائر الخليل بن أحمد. وإن تحدي الشعراء بما ليس من الشعر وليس من النثر، كان صبغة اصطبغ بها هذا الجيل.

ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بألحان المسير، بل أعد أو أمر بأن تعد له ألحان للعمل أيضاً. ولقد تقدمت الإشارة في هذه الكلمة إلى لحنين رتلا في أثناء العمل بحفر الخندق وحمل التراب منه على المتون ليكون جسراً على الخندق. أما أحدهما فهو من جزأين: جزء يقوله النبي، وجزء يرد به الصحابة عليه. ويقول شارح البخاري: (وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).

لحن النبي:

لا هُمَّ إن العيش عيش الآخرة

فاغفر الأنصار والمهاجرة

لحن الصحابة:

نحن الذين بايعوا محمداً

على الإسلام ما بقينا أبداً

أما اللحن الآخر فقد كان يقوله النبي والصحابة جميعاً في أثناء حفر الخندق، وهو من وضع عبد الله بن رواحة أحد شعراء النبي وقائد من قواده، وهو: لا همَّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الذين قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

(أبينا)

وكان صوته يرتفع كما يروي البخاري عند كلمة (أبينا) التي كان يكررها عليه الصلاة والسلام.

وفي هذه الموقعة أيضاً كانت أناشيد صغيرة تنشد تارة في أثناء المعركة، وطوراً في أثناء القتال مثل قوله عليه الصلاة والسلام:

يا منزل الكتاب

سريع الحساب

اهزم الأحزاب الخ

وقد استوفت هذه الأناشيد كل ما يشترط في أناشيد المسير، فهي قصيرة الفقرات بحيث تصلح ألحانها أن تكون على قدر خطى الجنود. وهي معبرة عما في أنفس الجيش من العواطف تعبيراً خالياً من التغالي المثير. وهي سهلة الحفظ، يتوافر فيها شرط السيرورة

هذه هي أناشيد الجيش، وهل يحسب الشعراء والموسيقيون أن لا غنى للشعوب عنهم؟

إن الشعوب لا تستغني عن الشعر ولا عن الموسيقى ولكنها تستغني عن الشعراء والموسيقيين إذا ما تعالوا عليها وترفعوا عنها.

هي تؤلف لنفسها إن لم تجد من يؤلف لها.

إنها تفكر على قدر طاقتها إن لم تجد فلاسفة ومفكرين، وإنها كذلك تعيش معيشة على وجه ما إن لم تجد من يجمع شملها ويؤلف لها نظاماً، وإنها كذلك تضع لنفسها الشعر والموسيقى إن لم تجد شعراء وموسيقيين.

كذلك الأرض التي نحن منها إن لم تجد مزارعين ينظمون لها طرق الري والاستنبات، فهي مخرجة من باطنها زرعاً غير منظم ولا منسق.

كذلك كانت الحال في مصر في الحرب الكبرى، فقد ألف الجيش الذي اشتغل في السلطة العسكرية لنفسه ألحاناً عبرت عما في نفسه وأنشدها بنفسه. فهل أنت من المخضرمين الذين حضروا الحرب الكبرى؟

لقد تذكر إن كنت من المخضرمين مسير المئات من الصعايدة المتطوعين وهم ذاهبون إلى حدود فلسطين وهم ينشدون:

يا عزيز عيني ... وأنا بدي اروَّح بلدي

بلدي يا بلدي ... والسلطة خْدِت ولدي

وهل تذكر لحن هذا البيت؟

في ذلك العهد لم تكن هناك قيادة للجيش المرابط ولا كانت السلطة الإنكليزية العسكرية تعنى بوضع ألحان للمصريين المتطوعين ولا كان هناك رجل كالشاذلي باشا يدعو الشعراء إلى تقديم أناشيدهم للجنة في وزارة الشؤون الاجتماعية، لجنة دائمة اسمها (لجنة الألحان)، ولا كان هناك قائد عظيم اسمه صالح حرب باشا يدعو الشعراء إلى وضع ألحان للجنود، ويعد بالمكافأة السخية. ولم يكن أمير الشعراء قد وضع لحنه (بني مصر مكانكمو تهيا) ولا كان أحمد رامي قد وضع نشيد الجامعة، ولا كان الأستاذ صادق قد وضع النشيد القومي.

لم يكن شيء من ذلك، ولكن كان مليون من المصريين في ساحات القتال في فرقة التشهيلات، وكانوا يسيرون، فكان لابد لهم من لحن عسكري. ولما لم يجدوا من يؤلفه لهم ألفوه لأنفسهم، ولحنوه بأنفسهم، فكان:

يا عزيز عيني ... وانا بدي اروَّح بلدي

بلدي يا بلدي ... والسلطة خدِت ولدي

ولكن ما رأيك في أن هذا النشيد لعذوبته ولصدق تعبيره بالنغمة الموسيقية عما في أنفس الجنود قد طغى على نشيد:

الإنكليزي فكان الجنود الإنكليز ينشدون في أثناء سيرهم:

يا أزيز إيني الخ. . .

ثم ما رأيك إذا كان نشيد يا عزيز عيني هذا أبلغ في نغمته وفي معناه وفي روحه من نشيد شوقي ومن نشيد الجامعة ومن النشيد القومي ومن نشيد الرافعي

أتحسبني أتجني؟

لا والله، ولكن أرى أن هؤلاء الشعراء الاماجد لم يتصلوا بالطبقة التي تجند منها السلطات على اختلاف ألوانها وأزمانها ولم يتصلوا إلا بالطبقات التي تقيم حول حياتها سوراً من الأرستقراطية المترفعة. لم يتصلوا بالشعب فهم لا يعبرون عنه. لذلك يحفظ شعرهم أمثالهم من طلبة المعاهد العلمية ولكن لا يصلح شعرهم للسيرورة بين العامة. وإنما يراد بالأناشيد وبخاصة العسكرية منها ما يصلح للعامة

ولقد ظهر اليوم من يكتبون للعامة ولكنهم لم يتقربوا بعدُ إلى العامة بفهم أرواحهم وبالمشاركة في عواطفهم وبتفهم أحاسيسهم وإنما تقربوا بهجر اللغة العربية وبكتابة الأزجال

(يا قاعد في دارك ... والعالم في نار)

هذا كل مبلغ للتقرب للمجندين. والمجندون يفهمون اللغة العربية ولكنهم لا يفهمون التغالي في تصوير العواطف ولا يفهمون التكلف، ومن أجل ذلك سيضعون لأنفسهم ألحاناً جميلة مثل:

بلدي يا بلدي ... والسلطة خدت ولدي

ويتركون أناشيد الشعراء ما لم يدرس الشعراء أنفسهم وسائل الاتصال بالشعوب فيقولوا مثل نشيد:

صدق وعده

الحمد لله وحده ... ونصر عبده

وأعز جنده ... وهزم الأحزاب وحده

فإن أعجزهم مثل هذا وهو معجزهم بالطبع ففي رسائلي التالية نماذج لأناشيد أخرى عربية ومترجمة وجديدة مؤلفة.

عبد اللطيف النشار