مجلة الرسالة/العدد 334/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 334/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1939



دراسات في الفن

مع هذه الأجسام

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- اسمعي! إذا كنت تريدين زوجاً صالحا فعليك بهذا الشاب الذي مر الآن ونظر

- أيهم؟ فهم كُثر، الذين مروا ونظروا

- نعم هم كثر، ولكنه هو واحد، وقد عرفك وأنت عرفتِه، وقد حياك وأنت حييته. . . فلم التجاهل؟

- أأنا حييت أحداً الآن وحياني؟ متى كان ذلك؟ وكيف كان؟

- زعموا أن آنسة كانت جالسة على قارعة الطريق في مقهى وكان معها دلو. . .

- دلو؟

- أي نعم. . . بمعنى رجل. . . وهو عند المرأة هكذا لأنها تلقي به حيث شاءت، وتملؤه بما يطيب لها، و (تدفقه) أينما أرادت، وتأخذ منه كل ما يحتويه فتختص به نفسها أو توزع منه على من تحب. . . فإذا انثقب رقعته، فإذا انكسر جبرته، فإذا تحطم حرقته واستدفأت بحطامه. . .

- يا له من ثأر بينك وبين المرأة. . .

- أنا؟ أنا ما بلغت إلى اليوم منزلة الدلو. . . مهما أكن فلن أزيد على لوح من ألواحه فلا يمكن أن يكون بيننا ثأر

- يا للفضيحة. . . ما علينا. . . أتمم قصتك. . .

-. . . وكان الدلو يتحدث إلى الآنسة بكلام تافه سخيف لا غناء فيه لأنه يدور حول أسرار الوجود. . .

- وهل يقال عن الحديث الذي يدور حول أسرار الوجود إنه تافه سخيف؟ فما الحديث الجليل الخطير؟

- هو عندكن ما يدور حول هذه الجثث التي هي أنتن، وحول هذه الخرق و (الهلاهيل) التي هي ثيابكن أو دروعكن وما أشد التباين بينها وبين دروع الرجال، فهم يتدرعون بما يقيهم الهجمات، وأنتن - يا ويلي منكن - دروعكن مغامز ومطاعن تكشفنها كشفاً، وتظهرنها عمداً ليسهل افتراسكن على الجرذ الضئيل كما يسهل على الأسد الضرغام

- يا أخي! أما تُتم قصتك وتدع هذه المهاترات. . .

- فلندعها. . . ومر بالآنسة وصاحبها. . . آخر. . . عريض المنكبين متين الألواح. . . طفت رجولته على جلده ولم يعد منها شيء في داخل نفسه. فلما رأى الآنسة، تجمعت قواه في عينيه، ثم انبثقت القوة تياراً، وانطلق التيار جارفاً قوياً، فصدم الآنسة في عينيها، وفيما بين عينيها، وفيما حول عينيها، فآلمتها الصدمة، فرفعت يدها إلى رأسها تحول بين رأسها وبين هذا التيار الذي لو ثقل عليها لتراخت وتخاذلت وتساقطت، ولنتحسس بيدها أيضاً مكان الصدمة تختبرها وتتعرف مداها، كما نصنع دائماً عند كل صدمة، ولكنها فطنت إلى أنها بين جماعة من الناس قد يكون فيهم من يتتبع حركاتها، فمررت يدها سريعاُ من جبهتها إلى شعرها حتى يظن الذي يراها أنها إنما رفعت يدها لتصلح من شعرها، لا لتتقي تياراً، ولا لتشد أعصابها. . . وجازت هذه الحركة على كل من رأوها. . . وصاحبها أولهم

- وما لنا وهذه الحكاية؟

- هذه الحكاية حدث الآن ما يشبهها، وكل ما في الأمر أني أردت ألا تفوت من غير أن ألفتك إليها لعلك تستغلينها، وتربطين إليك بسببٍ صاحبك هذا الذي مر، وهو فيما يظهر ممتلئ. . . رجولة وغروراً، ومالاً أيضاً. . .

- ولكن هذا أجنبي

- إذن فانتظري الذي ليس أجنبياً، والذي يؤثر فيك هذا التأثير، واعلمي أنه هو الأهل لك

- ولكن رجالاً كثيرين. . . كثيرين جداً يفضلون السحلب على (المغات). . .

- نعم لأن الكاكاو أطيب طعماً من جوز الهند

- عدنا إلى الخلط؟

- لقد مشيت معك. . . كنا نتحدث عن الرجال والنساء فانتقلت أنت إلى العطارة، فآثرت أن أجاملك وأن أمضي معك حيثما تريدين. . . فهل نعود إلى ما كنا فيه وتقولين لي مالهم الرجال الكثيرون الذين كنت تريدين أن تتحدثي عنهم. . . أو الأحسن أن ندعهم ونتحدث في الحمص وغزل البنات؟ مالهم الرجال الكثيرون. . . مالهم؟

- فأنت مصر على أن تهتك نفسي؟

- مهتوكة يا آنستي نفسك وكل نفس ما دامت الأنفس في الأجسام!

- إذن، فليست الأجسام حجبا كماً قلت مرات؟

- إنها حجب، وليست حجباً، كالنور يبصر فيه البلبل ويمشي فيه الخفاش. . .

- أو كالظلمة تبصر فيها البومة ويعمى فيها الطاووس. . . فهل أنت طاووس أو أنت بومة؟

- ولم لا أكون البلبل وأنت الخفاش؟

- لم أسمعك يوماً تصدح. . .

- لأنك تسهرين الليل وتنامين النهار. . . عيناك لهما الظلام ونفسك اطمأنت للسواد!

- قسمتي!

- ولماذا ترضين هذه القسمة وهي مما لم يكتبه الله على الناس فما كتب على المبصرين العمى، ولكنهم هم الذين يضعون أصابعهم في أعينهم كمن يخشى أن يرى، وكمن يجب أن تزل قدمه ليسقط فينهار! افتحي عينيك، وانظري، وابصري، وافهمي، والله لا يتعاطى من عبيده أجراً على ما يعلمهم، ولا هو يتقاضاهم رسوم الألعاب.

- وماذا تريد مني أن افعل؟

- ترقبي حركاتك، وترقبي دوافعها في نفسك، ثم ترقبي حركات الناس، تعرفي دوافعها في أنفسهم.

- وهل كل الناس يتشابهون؟

- من غير شك، هم يتشابهون في مقومات الإنسانية وأصولها كما تتشابه الأسود في مقومات (الأسدية) وكما تتشابه الأبقار في أصول (البقرية). . . وكل ما بين أفراد الناس من خلاف، فإنما يتناول الفضول والزوائد ولا يتعداها، فالأمير إذا مات وحيده حزن وبكى ومسح دموعه في منديل، والخفير إذا مات وحيده حزن وبكى ولكنه يمسح دموعه في ذيل ثوبه، وكل من المنديل وذيل الثوب، لا صلة له بالحزن ولا البكاء. . . أنت تضحكين فتكتمين صوتك تحشما، وأنا أضحك فأفزع الناس بقهقهة كالرعد ولكننا مع هذا نتساوى في أننا نضحك وإن كنت أنت تضحكين بقدر، وأنا أضحك بكل القوة التي في القدر والقضاء. وبهذه المراقبة يا آنستي تستطيعين أن تفهمي الناس، وتستطيعين بعد ذلك أن تكتبيهم وتصوريهم أو تعزفيهم أو تغنيهم أو تلعبي بهم ما شاء لك الفن. . . ولكن عليك - كما رأيت - أن تعرفي نفسك أولاً، وأن تحكمي عليها دائماً مهما آلمك هذا الحكم، وإذا كنت تكرهين الألم فحاولي أن تصلحي نفسك بالحق، واحذري أن تخدعيها بالباطل لأن الباطل يتلفها فلا تعود تصلح مقياساً للحق الذي تنشدينه، فالحق مستقيم، ولا يقيسه إلا ما استقام، ولا يمكن أن يحصره حلزون. . .

- وكيف تعرف الحق؟

- الحق معروف، هو ما فطر عليه الناس لا ما اصطنعوه، الله خلق الخلق بالحق. . . فالحق فيهم، وهو إلى اليوم على رغم ما جاهدوه طويلاً لا يزال فيهم، ونحن نعرفه في البشر بذيوعه بينهم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم. فالموت حق لأنه يتناول الناس جميعاً، والحب حق لأنه يتمكن من قلوبهم جميعاً، والفن حق لأنهم يطربون جميعاً. . . هذا هو الحق. . .

- هذا حسن. فكيف تريدني أن أبدأ في تفهم هذا النوع من الحق الذي تدعي حدوثه بين الأجسام، والذي يخيل إلي أنك تجعله كتيار الكهرباء. أنظر مثلاً: هذا رجل ممتلئ رجولة، هو أيضاً كذلك الذي رأيناه في البدء، وهو ينظر إلى هذه السيدة ولكنها تتحسس رأسها من الخلف لا من الأمام، فهل حركتها هذه هي أيضاً تدل على أن تياراً أنبثق منه نحوها، وأن هذا التيار أثر فيها إلى آخر هذه الدعاوى التي تدعيها. ليست المسألة إلا ارتباكاً فقط

- ما الذي قلناه شك. وكل ما في الأمر أن هذه السيدة أنضج أنوثة من الآنسة الأولى التي هي أنت، وعينها أشد تبجحاً من عينك، وحيلتها أوسع من حيلتك، وأعصابها أقوى من أعصابك. . . لقد رفعت يدها لتمر بها على جبهتها مثلما صنعت أنت، ولكنها أفاقت ويدها في منتصف الطريق فبدلاً من أن تضع يدها على موطن (النغزة) في جبينها الفت بيدها إلى قفاها. . . وهذه هي الدرجة الثالثة من درجات الصد

- وهل للصد درجات. . . غير ما فعلتُ وما فعلتْ؟

- نعم. . . أولى درجاته هي ما يلجأ إليها الأطفال عندما يهاجمهم مهاجم بعينيه ونظراته. .

فهم يرفعون أيديهم ويغطون بها أعينهم ويمسكون بها رؤوسهم، وهذه حركة من حركات الصد المكشوفة التي لا يلجأ إليها الواثق من ضعفه. . . وهي تشبه الجري والهرب. . . والدرجة الثانية هي هذه الحركة التي بدرت منك، والدرجة الثالثة هي هذه الحركة التي بدرت من هذه السيدة. . . والدرجة الرابعة هي الصد بالنظر. . . تيار ضد طيار. . . والفوز لمن غلب، والفشل لمن أرخى عينيه. . . ومن الناس مخادعون. . . يريد الواحد منهم عند الهجمة أن يغطي عينيه أو أن يغطي رأسه؛ فإذا رفع يده خشي أن ينكشف فعبث بعنقه أو بأذنه أو بأنفه. . . ألم تلحظي شيئاً من هذا. . . وبهذه المناسبة أريد أن أسألك سؤالاً لعلك تجيبين عنه. . . بعدما استنار لك الطريق

- اسأل. . . ولكن اجعل سؤالك خفيفاً فأنا لا أزال في السنة الأولى معك. . .

- ليتني أبلغ السنة الأولى أنا اسمعي، ألا تستطيعين بناء على ما تقدم أن تستنبطي للتحيات التي يتبادلها الناس منطقاً؟. . .

- وماذا تقصد بالتحيات؟

- التحيات. التحيات. رفع اليد إلى الرأس. أليست هذه تحيات؟

- الناس يحيي بعضهم بعضا لأنهم مؤدبون، والصغير يبدأ الكبير، لأنه مطالب باحترام الكبير. . .

- ليس لي شأن بهذه المطالبات. إنما أنا أريد التحيات الطبيعية التي لا يلحظ الناس فيها الفروق الصناعية. . . حتى فروق العمر والسن يجب أن تعلمي أنها ليست طبيعية في هذا الصدد فهناك صغار نفوسهم أقوى من نفوس الكبار. . . هاأنذا وضعت لك الأساس

- وبهذا الأساس زدتني اضطراباً. . .

- لا بأس. . . قوي وضعيف التقيا. . . يرفع الضعيف يده إلى رأسه بالتحية في هذا الزمن، ولكنه في الأصل كان يغطي عينيه ورأسه. . . والكبير يرد عليه بعد ذلك من باب (جبر الخاطر) لأنه في الواقع لم يشعر بالدافع الطبيعي الذي يحمله على أن يرفع يده إلى رأسه. . . ويلتقي القويان فيرفع أحدهما يده إلى رأسه في الوقت الذي يرفع الثاني يده فيه. . . وهكذا يفعل الضعيفان. هذا هو منطق التحية الذي أطلبه. . . والآن. . . وبعد هذا المثل. . . هل تستطيعين أن تستنبطي منطق التقبيل؟ - وهل للتقبيل هو أيضاً منطق؟ إن التقبيل استجابة لعاطفة، والعواطف لا منطق لها. . .

- من الذي قال لك هذا؟. . . كل ما في الطبيعة له منطق وقانون حتى المفاجآت والمصادفات. . . وإن الذي نثر الكون في هذا الفضاء وحفظه هذه الدهور وهذه العصور لا يمكن إلا أن يكون حكيماً له سنن هي الحكمة. . فكري معي قليلاً. . .

- طيب! قل لي من أين أبدأ؟

- من حيث تشائين. ابدئي بالقبلة التي يطبعها الأب على جبين الابن. . . لماذا يختار لها الجبين؟

- لماذا؟

- ليعطيه شحنة من الكهرباء القوية في هذا الموطن الذي هو أصلح مكان في جسم الإنسان لاستقبال الكهرباء. . . والجبين هو المكان الذي يسلطون عليه الكهرباء في أجسام الذين يعدمونهم بها في أمريكا. . . أو هو المكان الرئيسي لهذا. . .

- كأنه معقول. . . والابن يقبل يد أبيه. . . ثم إنه يضع يد أبيه على جبينه. . . فلماذا؟

- الابن يقبل يد أبيه فيمتص شحنة من كهرباء أبيه، واليد من أطراف الإنسان التي تشع منها الكهرباء باستمرار وبسهولة. . . والمنوم المغناطيسي يستعين بيديه على تنويم وسيطه إلى جانب القوة التي تنبعث من عينيه. . . والابن يضع يد أبيه على جبينه لأن الجبين كما قلت لك من أطيب المواطن في الجسم لاستقبال الكهرباء

- والأخَوان؟ يقبل كل منهما الآخر في خده، أو يمسح الواحد منهما وجهه في وجه الآخر. . .

- ذلك لأن المفروض في الأخوين أن يكونا متساويين في كمية الكهرباء التي شحن بها كل منهما. . . فالواحد منهما لا يريد أن يكسب من الآخر شيئاً، ولا أن يعطي الآخر شيئاً ولذلك فأنهما يلتفان كل منهما حول الآخر ولا يتعاطيان. . .

- والعاشقان؟. . . يتبادلان القبل من الشفاة

- لأنهما يريدان أن يتعادلا. . . فمن كان منهما قوياً أعطى الآخر الفضل من قوته. . . حتى يتم التعادل. . .

- عجيبة. . . ولكن غاب عنك شيء يا سيدنا. . . إن القبل ليست شائعة بين البشر جميعاً. . . وهي أقرب إلى العادات المكتسبة منها إلى الأفعال الطبيعية. . .

- إذا كانت القبل على هذه الصورة التي نعرفها ليست شائعة بين البشر جميعاً، فللذين لا يعرفونها من البشر قُبَلٌ ولكن على صور أخرى. . . فمنهم من يحك أنفه في أنف صاحبه ومنهم من يحك رأسه في رأس صاحبه. . . وبالملاحظة نرى أن من يفعلون هذا هم المتأخرون من الشعوب الذين لم يهتدوا إلى القُبل. . . وهم بتقبيلهم أقرب إلى ما يصنعه الحيوان. . . والإنسانية تتفتق عن الجديد كل يوم. . . والذين رأوا القُبل من هؤلاء المتأخرين مارسوها واطمأنوا إليها. . . ولا تخشى أن في هذا تنكراً على الطبيعة وإنما هو ارتقاء بها. فإنه لا يزال في الدنيا ناس يعيشون على الأشجار. . . وهؤلاء إذا عرفوا الحياة على الأرض اطمأنوا لها وعاشوا عليها كما يعيش بقية الناس لأنها الطور من أطوار الحياة الذي يتلو ذلك الطور الذي عاش فيه الناس على الأشجار. . .

- كأنه معقول. . .

- أنا أعرف أنه لن يكون كلامي معقولاً إلا إذا كان مترجماً أو منقولاً، وكي تطمئني يا آنستي اعلمي أني أخذت هذا الكلام عن الأستاذ وهو أستاذ مشهود له في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا وهوتولولو أيضاً

- على أي حال إن كلامه لذيذ. ألم يقل شيئاً غير هذا؟

- يا ما أكثر الذي قال. . . ولكني أنسى كثيراً مما يقول. انظري. . . ألم تري. . .

- ماذا؟ هذه الفتاة الجالسة في الركن؟

- نعم. . . لقد نظرتُ إليها فماذا صنعت؟

- هل تريد أن تقول إنها رفعت يدها إلى رأسها فتستدل بهذا على أنك رجل قوي الكهرباء. . . لا يا سيدي لقد رأيتها وكنت مثبتة نظري عليها. . . هي لم ترفع يدها. . . ولم ترفع يدها. . .

- ولكنها فعلت ما هو أحلى من رفع اليد

- ماذا؟. . . كل ما كان منها أن أطلت بلسانها من فمها فمرت به بين شفتيها. . .

- علامة على أي شيء. . .

- إذا كان وراء هذا معنى، فلا معنى له إلا أنها تخرج لك لسانها استهزاء بك. . .

- يصح هذا. . . ويصح شيء آخر. . . وهو أن يكون إخراج لسانها ترطيباً لشفتيها اللتين جفتا على أثر انطلاق التيار الكهربائي منهما، وهذا التيار لا ينطلق إلا في حالة التقبيل شوقاً إلى الازدواج. . . فهي قد شيعت لي قبلة في الهواء. . .

- كده؟ لقد اشتد البرد في هذا المكان. . . قم بنا. . . ألست تريد أن تدرك السينما من أولها. . .

- والله إني أفضل هذا (التياترو). . .

- وهذه الفتاة القبيحة التي تشيع للناس القبل في الهواء. قم. قم.

- قمنا. . .

عزيز أحمد فهمي