مجلة الرسالة/العدد 336/الثقافة العسكرية
مجلة الرسالة/العدد 336/الثقافة العسكرية
وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
في الثورة المصرية
ولقد مر بك أن (المتطوعين) المصريين في الحرب الكبرى لم يجدوا من يضع لهم أناشيد تعرب عن آمالهم، فوضعوا لأنفسهم تلك الأناشيد كما تخرج الأرض المهجورة زرعها (الشيطاني)، وكان بعض الذي وضعوه نظماً ولحناً مما يستحق الإعجاب لدلالته على خوالج نبيلة كالشوق إلى الوطن، وكالشكوى من تحكم السلطة العسكرية إذ ذاك في التجنيد باسم (التطوع).
ولقد قرأت في بعض الصحف الإنكليزية على أثر الثورة المصرية بحثاً ضافياً عن أسباب تلك الثورة، وقد عدَّ كاتب ذلك البحث مسألة (التطوع الإجباري) من أهم المسائل التي أدت إلى الثورة وأستدل على ذلك باللحن الذي أشرنا إليه في المقال السالف ونشره بلغته العربية بأحرف إنكليزية مع ترجمته إلى تلك اللغة، وهكذا كانت ترجمته:
والنص هو:
بلدي يا بلدي ... والسلطة خدت ولدي!
ومن البديهي أن الذين كانوا يتغنون بهذا النشيد ليسوا هم الذين أخذت السلطة أولادهم، ولكنهم هم الأولاد المأخوذون
وكان المأخوذة أولادهم مقيمين في مصر، أما الذين يرددون هذا اللحن فكانوا بعداء عنها يتحرقون تشوقاً إليها بدليل البيت الآخر وهو:
يا عزيز عيني ... وأنا بدي أروح بلدي
ولكن هكذا الشعر الذي ينال شرف السيرورة لا يمكن إلا أن يكون صادق التعبير عن البيئة التي صدر عنها.
وكان هؤلاء (المتطوعون) يعبرون عن مصر كلها لا عن الفريق المتطوع حينما وضعوا هذا اللحن الذي سار والذي استدل به الباحثون فيما بعد عن أسباب الثورة المصرية، كما يستدل الطبيب بالنبض على حركة القلب.
وكذلك الشعر لم يكن قط قلباً للأمة، ولكنه نبضها الذي يستدل به على حالة ذلك القلب. وهذه الحقيقة هي أساس النقد الحديث الذي يذعن له النقاد منذ وضع سانت بيف كتابه (تاريخ الحضارة الإنكليزية كما يظهر من خلال أدبها).
ولم يكن المتطوعون في الحرب الكبرى كلهم من طبقة واحدة ولا كان تطوعهم ذا صبغة واحدة، ولا كانت أغراضهم واحدة، ولكن كانت الكثرة كما تقدم وصفها، وكان فيها فريق تطوع بمحض الرغبة فراراً من الفتك الاقتصادي وطمعاً في القوت.
وكان هذا الفريق من لابسي (الهلاهيل)، وقد أبت طبيعة الأشياء إلا أن يسجل هذا الفريق من البؤساء على جبين الزمن شكواه من ذهابه للقاء الموت من أجل الكساء الذي يستر العورة ولم توفق مصر إلى شاعر من أبنائها يحس إحساس الفريق فيعبر عن مشاعره. فأعرب هؤلاء الرعاع عن مشاعرهم ولحنوها بأنفسهم (ولا الحوجة للشعراء والموسيقيين).
وهكذا كان في متطوعي السلطة في الحرب الماضية مصريون كالعراة ينشدون هذا النشيد:
(يا اللي رماك الهوى ... حود على الكامبو
يقلعوك الهلاهيل ... ويلبسوك البلطو)
ومن الذي تراه كان من شعرائنا أو موسيقيينا يستطيع أن يقول ذلك القول أو يلحنه؟
لقد كنا. . .
ولا تسل كيف كنا. . .
نتعاطى من الهوى ما نشاء. . .
كان شعراء مصر في ذلك الحين يشربون الكوكتيل أو الويسكي على الأقل!
هل تصدق أنني كنت في سنوات الحرب أتقاضى مرتبي من وظيفتي في الحكومة، وكان مضافاً إليه علاوة الحرب مماثلاً لمرتبي الآن؟ لقد ترقيت ترقية طبيعية في مسافة العشرين عاماً بين الحربين ولكن الترقية في مسافة عشرين عاماً لا تكاد تبلغ المائة في المائة التي كنا نتقاضاها علاوة حرب، وكان في الشعراء الآخرين من هو أيسر حالاً وأهنأ بالاً، والعلة مقطوعة بطبيعتها بين شعراء مصر وبين لابسي الهلاهيل، فلم نضع ألحاناً لمسير المليون مصري الذين تطوعوا في الحرب الكبرى ووضعوها هم لأنفسهم. فإذا بعضها:
يا اللي رماك الهوى ... حود على الكامبو
والكامبو هو الـ أي معسكر الجيش الإنكليزي
وانتهت الحرب الكبرى ونشبت الثورة المصرية وكان لها شأن آخر. كانت هناك قيادة للثوار واتحاد في الغرض والوسيلة، واشترك في المشاعر الثائرة أصحاب (الفراك) و (البونجور) و (الردنجوت) مع أصحاب الهلاهيل. ومن أجل ذلك كان هناك الأناشيد التي يضعها الشعراء للمسير والتي نالت شرف السيرورة لصدق تعبيرها عن عواطف البيئة.
قد لا تكون هذه الأناشيد مما يسميه الشعراء غروراً (بالشعر الخالد) ولكنها على كل حال ستظل باقية ما بقى لتلك الثورة ذاكر. وإذا شئت أن تدرس طبيعة تلك الثورة وتعرف أسبابها فإن أهم مرجع هو الذي يدلك عليه سانت بيف وهو الشعر الذي قيل فيها، هو تلك الأناشيد:
نشيد شوقي. ونشيد العقاد. ونشيد صدقي. ونشيد الرافعي. ونشيد صادق. ومائة نشيد ونشيد غير أناشيد هؤلاء. . . ولكن هل كانت الثورة المصرية خالية من الأوشاب؟ وهل كانت كل العواطف من طراز عواطف هؤلاء النبلاء! كلا. فقد كان في المتظاهرين من لا يقنعه (حيوا العلم!) ولا (مكانكمو تهيأ) ولا (فحيي فتاك شهيد هواك) ولا أمثال هذه الاتجاهات السامية
ولم يكن في الشعراء من يستطع الإعراب عن عواطف الذين يلقون بالأحجار على اللوحات الزجاجية فيحطمونها ولم يكن فيهم من يستطيع الإعراب عمن لا يجد تعبيراً أطيب من قلب مركبة الترام أو قطع خطوط التلغراف. وكان هذا الفريق من الأوشاب موجوداً بالفعل وكان لا بد له من الإعراب بالموسيقى عن عواطفه تلك. والإنسان برغم أنف المناطقة حيوان موسيقى وليس فقط بالحيوان الناطق، بل أستغفر الله فهو برضى المناطقة وعن طيب خاطر منهم حيوان موسيقى لأن النطق لا يمكن أن يتم إلا والموسيقى جزء منه.
ظهر في الثائرين أيام الثورة المصرية من يحطم اللوحات ويقذف بالطوب ولم يكن بينهم شعراء من أمثال (فرلان) ذلك الوغد الفرنسي المتشرد الشاعر ليضع لهم نشيداً فوضعوا هم أناشيدهم نظماً وألحاناً ومن بينها:
مش عاوزين حد أبداً يحكمنا ... وإلا إن غلطنا حد يلومنا
كان هذا الفريق أقل من أن يعقل (حيوا العلم) فلم يثر من أجل كرامة العلم ولكنه فقد النظام فأبى أن يحكم أبداً كما يقول
وبعد فيما شعراء الجيل هل تريدون أن ينال شعركم شرف السيرورة؟ إذن فانغمروا في كل وسط تريدون أن ينتشر فيه شعركم. أنتم (وأنا من بينكم) من رواد المقاهي فلن يروج شعرنا إلا بين رواد المقاهي
ويا وزارة الدفاع ويا وزارة الشؤون الاجتماعية ويا قيادة الجيش المرابط، هل تريدون ألحاناً للجنود تعرب عن روح عسكرية قوية وتدعم الروح العسكرية وتصل بين حاضرها ومستقبلها.
لن تكون تلك الأناشيد من وضع الجالسين على مكاتبهم في الدواوين ولكن أفسحوا المجال في المعسكرات في ساعات التدريب لطائفة من الشعراء.
تقول قيادة الجيش المرابط إنها تريد أن يتعلم الفلاح المشية العسكرية والنظام في الجلوس والقيام وحالة المعيشة العامة. هذا جميل كله، ولكن إذا استثنينا الأستاذ الشاعر عباس العقاد فمن من بين شعرائنا يمشي مشية عسكرية؟
أتمنى أن أرى في ساحات التدريب الأساتذة حسين شفيق المصري والدكتور زكي مبارك وشاعراً ثالثاً على الأقل وسيرى الجميع بعد أيام من التدريب كيف يمشي هؤلاء الثلاثة مشية غير مشيتهم الحاضرة. وإلى الملتقى في ميادين التدريب.
عبد اللطيف النشار