مجلة الرسالة/العدد 336/بين الأستاذين

مجلة الرسالة/العدد 336/بين الأستاذين

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1939



أحمد أمين وزكي مبارك

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

قلت في مقالي السابق إن الدكتور زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عن الأدب الجاهلي، وإنما قلت هذا لأنه هو وأستاذه الدكتور طه حسين لا يؤمنان بصحة ذلك الأدب، والدفاع عن الشيء لا يكون إلا بعد الاعتقاد بصحته، فقد ألف الأستاذ طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) وكان أكبر جناية على أدب الجاهلية، إذ أنكر فيه صحة ذلك الأدب، وقلد في هذا الرأي أعداء الأدب العربي من المستشرقين، فلم يكن من الدكتور زكي مبارك إلا أن احتفل بظهور ذلك الكتاب، وعده فتحاً جديداً في الأدب العربي وقال في هذا من جريدة البلاغ الأسبوعي (3 ديسمبر 1926): (كان كتاب الشعر الجاهلي الذي ألفه أستاذنا الدكتور طه حسين فاتحة لعهد جديد في دراسة الآداب العربية، وحسبك أن ترجع إلى ما كتب في نقده من الرسائل المطولة، والأسفار الضخام، لترى كيف أثار ذلك الكتاب ما خمد من القرائح، وكيف أيقظ ما هجع من العقول)

والفرق كبير بين رأي الأستاذ طه حسين في الأدب الجاهلي ورأيي ورأي الأستاذ أحمد أمين فيه، فالأستاذ طه حسين يرمي في رأيه إلى الهدم والطعن في ثقة السلف ونحن نرمي إلى الإصلاح ونريد تقويم اعوجاج الأدب العربي، وهذه غاية نبيلة يكاد علماء الأدب يتفقون الآن عليها، لإجماعهم على أن الأدب العربي في حاجة إلى الإصلاح، وعلى أن إصلاحه يجب أن يكون من الناحية التي أشرنا إليها، حتى يكون أدب ألفاظ مزوقة ومعان خيالية لا طائل تحتها.

ومن الغريب أن الدكتور زكي مبارك يؤمن أيضاً بذلك الإصلاح، ويدعو إليه في كتابه (النثر الفني) ولكنه ينسى ذلك في حب التغلب على الأستاذ أحمد أمين، ويأخذ عليه تهوينه من شأن التشبيه وما إليه من المعاني الثانوية، ومما جاء في ذلك الكتاب: ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح، وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة، ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع، ومثال ذلك قول حِطَّانَ بن المُعَلَّي يشكو فقره، وما وضع القدر في رجليه من قيود الأه والذرية:

أنزلني الدَّهْرُ على حكمه ... من شامخٍ عال إلى خَفْضِ

وغالني الدهر بِوَفْر الغنى ... فليس لي مال سوىِ عرضْيِ

أبكانَيِ الدهر ويَا رُبَّمَا ... أضحكني الدهر بما يُرْضِي

لولا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ الْقَطَا ... رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بَعْضِ

لكان لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعَرْضِ

وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض

لو هَبَّتِ الريح على بعضهم ... لامتنعتْ عيني عن الْغَمْضِ

فقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ، ولا إلى الأسلوب. ومن ذلك يتضح أن من يزعمون أن القرآن ليس من جنس كلام العرب لم يفهموا شيئاً من أسرار الإعجاز، ولذلك نراهم يدورون حول الظواهر والمحسنات اللفظية، ويرجعون في ذلك إلى الناحية اللفظية أو الفنية، ونحن نرى غير ذلك، فنرى أن محمداً عليه السلام اجتذب العرب لأنه نبي، ولم يجتذبهم لأنه فنان، فالفن الكلامي لم يكن جديداً عند العرب، وإنما كان الجديد عندهم أن يأتيهم رجل منهم بأساليب من الفكر والعقل والوجدان غير التي كانوا يألفون، ومن العبث أن نظن أن البلاغة لا تخرج عن المناورات اللفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزخرف، وامتهان لصولة العقول، إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجزة حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً، ويجيء الورق ثانياً، كما يقول الفرنسيون)

وإنما أطلت النقل من كتاب (النثر الفني) لأقيمه دليلاً قاطعاً على أن الأستاذ زكي مبارك لا يؤمن بتلك الناحية الفنية التي أخذ على الأستاذ أحمد أمين تهوينه من أمرها، ويكاد يتفق معه في أن الشأن في ذلك لقوة الروح والفكرة، ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ زكي مبارك لا يفرق في ذلك بين قوة الروح في الخير والشر، ويرى أن الشاعرية روح يتمرد به الشاعر فيهز نفس القارئ أو للسامع هزاً عنيفاً يحمله على أن يؤمن وهو طائع ذلول بما يدعو إليه الشاعر من تزيين الإثم والبغي، أو تقبيح الغي والفسوق ومن الأول قول ديك الجن: لمَّا نظرتِ إليَّ عن حَدَق المَها ... وبَسمتِ عن مُتفتِّحِ النُّوارِ

وعقدتِ بين قضيب بانٍ أهيف ... وكثيب رمل عُقْدَة الزُّنَّار

عفَّرت خدي في الثرى لك طائعاً ... وعزمتُ فيك على دخول النار

ومن الثاني قول معن بن أوس:

لَعمْرك ما أهويت كفِّي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رِجْلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تُصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابتْ فتى قبلي

ولستُ بماش ما حَييتُ لمنكرٍ ... من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي

ولا مُؤْثر نفسي على ذي قرابة ... وأوثِرُ ضيفي ما أقامَ على أهلي

ولكنا لا نحب للدكتور زكي مبارك أن يمضي في ذلك إلى حد التسوية بين روح الخير وروح الشر في الشعر، فيجعل قول ديك الجن مثل قول معن بن أوس بعد اتفاقهما في قوة الروح، لأنه يبقى بعد هذا شرف المعنى والغرض وهو مما لا بد من اعتباره أيضاً في المفاضلة بين شعر وشعر، أو كلام وكلام. ولا يمكن الدكتور زكي مبارك أن ينكر هذه الناحية في الموازنة الشعرية، فقد ذكرها في قوله تعالى: (وَلا يَجْرِ مَنَّكُم شَنَآنُ قَوْم على ألاَ تَعْدِلُوا)، فجعل الفضل فيه لهذا النصح النبيل والمعنى الشريف والدعوة إلى إيثار العدل في جميع الأحوال، من غضب وسكون، وحب وشنآن، وإذا لم يكن للدكتور زكي مبارك بد من اعتبار ذلك أيضاً فإنه لا يكون بيننا وبينه فرق فيما ندعو إليه من ذلك الإصلاح، ولا يكون له حق في تلك الحملات القاسية التي تقف عقبة في سبيل غايتنا جميعا.

هذا وإذا كانت اقتصرت في أول هذا المقال على موقف للدكتور زكي مبارك من كتاب (في الشعر الجاهلي) فلأني أحببت الترفق به، ولم أشأ أن أذكره بمواقف له جارى فيها أستاذه في الجناية على الأدب الجاهلي، وذهب إلى الشك في صحته كما ذهب إليه قبله، وتلك هي الجناية على الأدب الجاهلي حقاً، لا ما ذهبنا إليه من ذلك الإصلاح، والله الهادي إلى الصواب.

عبد المتعال الصعيدي