مجلة الرسالة/العدد 337/أفانين
مجلة الرسالة/العدد 337/أفانين
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
- 1 -
من أروع ما وعاه تاريخ الأدب في صفحاته تلك المناظرة الحادة العنيفة بين إمامين من أئمة الأدب، أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، وقد أسفرت عن هزيمة أولهما هزيمة ساحقة، لم يقو على احتمالها فقضى نحبه بعدها بقليل!
ما ذكرت تلك المصاولة قط إلا غام الحزن على عيني، وملأ شِعاب قلبي، وشعرت للبديع بمقت شديد يكاد يعقل لساني عن الترّحم عليه!
ففي الحق أن هذا الرجل بالرغم من وصف الثعالبي له: بحسن العشرة، ونصاعة الظرف، وعظم الخلُق، وشرف النفس وكرم العهدة، وخلوص الود، وحلاوة الصداقة، قد التاثت نفسه بأمراض تتوارثها الكثرة الكاثرة من الأدباء جيلاً بعد جيل، وتتمثل في تلك الصورة الشوهاء من حدة الغيرة، وفرط الأثرة وحمل الحقد، وحب الانتقام والزراية على النظراء والسعي الجاهد في هدمهم بالحق والباطل، حتى كاد مدلول الأدب لطول ما اتسم أصحابه بهذه المثالب، يرادف في الأذهان نشوز الطبع وانحراف المزاج، وانحلال الخلق، والتمرد على الشرائع المرعية والارتكاس في الخلاعة والمجون، ورحم الله من قال:
ليس الأديب أخا الروا ... ية للنوادر والغريبْ
ولشعر شيخ المحدَثين (م) ... أبي نواس أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
ولد أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي (بخُوارِزْم) ونشأ بها متأدباً، وإن كان أصله من طبرستان ثم جاب الأقطار من الشام إلى أقصى خراسان في تحصيل العلم والأدب، فبرع في كل فن من فنون العربية، وغزر محصوله من اللغة والشعر حتى كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر النساء خاصة.
ورشحه فضله لخدمة الملوك والأمراء والوزراء في الدويلات المتفرعة من الخلافة العباسية، وكانت خاتمة مطافه، مدينة نيسابور من أعمال خُراسان، فاتخذها دار إقامة، واقتنى بها الدور الفاخرة، واعتقد الضياع المُغِلّة، وفرغ إلى الكتابة والشعر وتصدّر للتدريس، وظن أنه يستطيع أن يقضي بقية عمره هادئ النفس ناعم البال، في ظل النعمة الفاشية والثراء الواسع والجاه العريض، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد مُنِي بهذا الواغل الدخيل، فنغّص عليه عيشه، وشاب صفو حياته، وساقه إلى الفناء الذريع!
ولم يكن الخوارزمي دون الهمذاني في حوك القصائد، وتحبير الرسائل، وجمع اللغة، وحفظ الأشعر والأخبار، بل ربما كان أوفر منه حظاً في كل ما يتصل بالنقل والرواية؛ ولكن الهمذاني كان يمتاز بحدة القريحة وحضور البديهة وشدة العارضة وسرعة الخاطر وقوة الارتجال، وهي أمضى سلاح يملكه المناظر لقهر خصمه وإقحامه.
وما ظنك برجل كان يُنشد القصيدة تبلغ خمسين بيتاً لم يسمع بها قط، فيحفظها كلها ويؤديها لا يخرم منها حرفاً واحداً! ويُقترح عليه إنشاء قصيدة أو رسالة في معنى من المعاني، فيفرغ منها في الوقت والساعة! وينظر في أربع أوراق أو خمس من كتاب نظرةً طائرة فيحفظها ويسردها عن ظهر قلبه! ويُقترح عليه الكتاب فيبتدئ بآخر سطر منه، وينتهي بأوله ويخرجه كأحسن شيء وأملحه! وتُلقى عليه الأبيات الفارسية فيترجمها شعراً إلى العربية جامعاً بين الإسراع والإبداع! إلى غير ذلك من العجائب والغرائب التي يحلو لي أن أسميها بشعوذة البيان!
ومع أن هذه الصفات مواهب عظيمة لم يُرزقها كل إنسان ولا ينكر خطرها في ميادين المصاولة الأدبية، إلا أنها لا تصح أن تكون فيصلاً في الحكم على أقدار الرجال وآثارهم. فأبو العتاهية مثلاً وهو رأس شعراء البديهة لا يتسامى إلى منزلة مسلم بن الوليد وأبي تمام وابن الرومي من شعراء الرّوية، والمتنبي - على سنيّ مكانته - تعد مقطوعاته الارتجالية من سقط المتاع، حتى تمنى بعض شارحي ديوانه أنْ لو خلا من هذا السخف والهذر، وعبد المحسن الكاظمي أقوى شعراء العصر طبعاً وأسرعهم خاطراً، ولكنه لا يُوزن بشوقي من شعراء الأناة، بل لا يقاس بحافظ وهو أكثر الشعراء تعباً في نحت القريض وصوغ القوافي.
ولم يكن سلاح البديع مقصوراً على هذه المزايا الخارقة التي أوردناها، بل كان - إلى ذلك - في طراءة عمره وغضارة شبابه وكان الخوارزمي قد علت به السن فتحيفت جسمه وعقله معاً.
وأنكى من هذين على الخوارزمي أن جماعة من وجهاء نيسابور لا يخلو من أمثالهم بلد من بلاد الله، كانوا يكرهونه وينفسون عليه نعمته، فصاروا عليه إلباً في هذه المحنة، وشدوا أزر خصمه، ولا شيء أثلم للعزيمة وأقعد بالهمة من خذلان الآل والأقارب!
وهي حال شاذة ممضة أنطقت بالشكاة كثيراً من جِلّة الفضلاء! فقال في ذلك قاضي الأندلس وخطيبها المصقع المنذر ابن سعيد:
هذا المقال الذي ما عابه فنَدُ ... لكنّ صاحبه أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريباً كنت مُطَّرَفاً ... لكنني منهمو فاعتالني النّكد
وقال الفيلسوف ابن حزم:
أنا الشمس في جو السماء منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجدَّ علي ما ضاع من ذكرى النهب
هنالك تدري أن للعلم غصّة ... وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوفوا ... له، ودنوّ المرء من دارهم عيب
ولنأخذ الآن في إيراد هذه المناظرة، موفِّقين بقدر الإمكان بين الروايات المختلفة، فنقول:
في سنة ثمانين وثلاثمائة هـ فارق البديع بلده همذان التي نشأ به وتأدب، إلى حضرة الصاحب بن عباد وزير آل بويه وخليفة ابن العميد، وهي - إذ ذاك - مرمق العيون، ومناط الآمال، ومحطّ الرحال، فلقي فيها ما يلقاه كل أديب: من كرم الوفادة، وحسن الرعاية، وجميل التعاهد.
وكان مجلس هذا الوزير العالم الأديب، آخر مجلس لوزير ضم خيرة العلماء وصفوة الأدباء، وأعيان المصنفين والمتكلمين، وهم دائماً في حوار متصل، وجدال مستحر، ومذاكرة دائبة لا تهدأ ولا تفتر، فكان لذلك أثره البالغ في صقل مواهب البديع، وفتق جنانه، وتزويده بمعارف جديدة واسعة، وهو في مقتبل الشبيبة وميعة الحداثة.
وكان الظن بمثله أن يضن بمفارقة هذا الروض المونق والجناب الخصيب، ولكنا رأيناه في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة يشخص إلى خراسان، وبعد جولة قصيرة في ربوعها يرد نيسابور وقد سلبه قطاع الطريق ما يملكه من مال ومتاع!
ونيسابور هذه مدينة مقرورة يهرأ بردها الأجسام، ويُوسم أهلها بالجفاء والشغب والضعف والخبث وكراهة الغرباء! وفيها يقول السمعاني:
لا قدس الله نيسابور من بلد ... ما فيه من صاحب يُسلي ولا سكن
ويقول فيها المرادي:
لا تنزلن بنيسابور مغترباً ... إلا وحبلك موصول بإنسان
أولا، فلا أدب يغني ولا حسب ... يجدي ولا حرمة ترعى لإنسان
ويقول أيضاً:
قال المراديُّ قولاً غيرَ مُتهَّم ... والنصح - ما كان من ذي اللب - مقبولُ
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إن الغريب بنيسابور مخذول
فما هو سر اختيار البديع لها بالذات؟ وقد كان له في غيرها مَراد ومسرح. أهو حب التنقل والضرب في البلاد، للدراسة والاطلاع، واستفادة العلم والمال؟ وهو الطابع الغالب على علماء هذه العصور وأدبائها؟ أم هو القصد إلى مناضلة الخوارزمي وانتزاع صولجان الشهرة منه، حتى يقال عنه: إنه غزا النسر في وكره واقتحم على الليث عريته؟
على أن بعض المؤرخين يسوق لهذه الرحلة علة طريفة نذكرها للتفكهة: وهي أن البديع كان في مجلس الصاحب يوماً فخرج منه ما يخرج من غير المتمكن في قعدته؛ وكان خيراً له أن يعوذ بالصمت، ولكنه أراد أن يموّه على الصاحب فقال: هذا صرير التخت! فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت!
فخجل البديع خجلاً شديداً حمله على مفارقة حضرته والخروج إلى خراسان!
ويلذ لنا أن نقول - بهذه المناسبة -: إن مجلس الصاحب - على رفعة شأنه - كثيراً ما كان مهبّاً لهذه الزعازع! وكان الصاحب لا يمنعه وقاره أن يعقب على ذلك بالنكتة البارعة والتورية اللطيفة.
فمن ذلك أن الصاحب أخذته ليلة سنةٌ من النوم، وبين يديه جماعة من الأدباء شرع أحدهم في قراءة (الصافات) واتفق أن نام أيضاً بعض الحضور، فأحدث صوتاً منكراً أيقظ الصاحب من نومه! فقال - يخاطب سمّاره - يا أصحابنا، نمنا على (والصافات) وانتبهنا على (والمرسلات).
وأظرف من ذلك: أن الفقيه ابن الخضيري كان يحضر مجلسه بالليالي، فغلبته عينه مرة، فخرج منه شيء فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا ابن الخضريّ لا تذهبْ على خجَل ... لحادث كان قبل النّاي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ لست أنت سليمان بن داود
وكيفما كانت الأسباب التي حفزت البديع إلى انتجاع نيسابور فقد بدأت المناوشة بين الرجلين بكتاب أرسله الهمذاني إلى الخوارزمي، صدّره بهذا الكلام المعسول: إنا لقرب دار الأستاذ - أطال الله بقاءه - كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح إلى لقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
ثم ختم كتابه بأن طلب منه إرسال غلامه لينفض له جملة حاله.
والتقيا بعد ذلك على موعد مضروب في دار الخوارزمي، وما نشك في أنه أكرم مثواه، وأحاطه بألوان البر والرعاية، ولكن البديع كان مدخول النية مطويّ الجوانح على الضغينة! فخرج من دار مُضيفه غير حامدٍ لقياه، وأرسل إليه كتاباً حشوُه عتاب مرّ، يذكر فيه: أن الخوارزمي استزراه لغربته، واقتحمته عينه لرثاثة ملبسه، وأنه تكلف القيام له والسلام عليه، وأنه كان يكلمه بنصف طرفه، ويسير إليه بشطر أنفه، وأن أهل بلده همذان في الذؤابة من الشرف والسيادة، وفي الصميم من الجود والسماحة، ولو قد حل الخوارزمي بينهم لخبئوه في سواد العيون والقلوب!
وقد رد عليه الخوارزمي رداً جميلاً يستلّ السخائم، ويطفئ الأحقاد، ولكن موقف البديع منه أشبه بموقف الروسيا من فنلندا: إدلاءٌ بالباطل وتورُّط في الضلال، وتجن للذنوب، وتصيد للمثالب، ومن كان هذا شأنه فإرضاؤه محال!
وهكذا أخذت تتردد الرسائل بينهما وهي تزداد عنفاً وحدة، حتى انتهى الأمر إلى الخصومة الصريحة! التي كان يعمل لها البديع ومَنْ وراءه كل وسيلة!
وكان يمكن إطفاء هذه الثائرة لولا أن خصوم الخوارزمي الذين سبقت الإشارة إليهم انتهزوها فرصة للنكاية به، فأذكوا العداوة وأرّثوا النار! وكان أن أرسل نقيب الأشراف إلى الخوارزمي يستدعيه إلى داره ليجمع بينه وبين البديع، فترفع عن المجيء لأنه كان يعرف ما دُبّر له، فأحرجه النقيب بإرسال دابته إليه، وشفع ذلك البديع برسالة يستفزه بها! فلم ير الرجل بداً من الحضور يحف به تلاميذه البررة فالتقى الخصمان في بيت النقيب وجهاً لوجه وقد حُشرَ الناس ليروا لمن تكون الغلبة!
(يتبع)
علي الجندي