مجلة الرسالة/العدد 337/الإنسان والحيوان والحرب

مجلة الرسالة/العدد 337/الإنسان والحيوان والحرب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1939



للأستاذ عباس محمود العقاد

حركة!

إذن هو الخطر بعينه!

وهل في موقف الحراسة من الميدان حركة لها أمان؟. . . كلا. بل هو الخطر جد الخطر على الحارس وعلى من يحرسهم، وهم مئات ألوف.

ثم حفيف بين العشب!

فهو الخطر إذن يقترب، وهو الانتباه أشد ما يكون انتباه، والاستتار أخفى ما يكون استتار!

وانبطح الحارس وانتظر، ولمعت عينان على مقربة، فإذا بالحارس كله عيون، لو قتل إنسان شيئاً بنظرته لمات صاحب تينك العينين في جنح الظلام!

وسدد الحارس الرامية، ومضت العينان تدنوان وتدنوان، وأوشكت القذيفة أن تنطلق لولا أن انطلاقها محظور لغير الخطر المحقق القريب، مخافة الانتباه من جانب الأعداء إلى موضع الحراسة وموضع المعسكر، فلا مناص من انتظار.

ثم بدا صاحب العينين برأسه وبشخصه:

الحمد لله. . .

هو كلب. . . وليس بإنسان!

تلك خلاصة قصيدة إنجليزية من قصائد الجنود في حرب الدردنيل الماضية.

حمد الشاعر ربه لأنه كان يحذر فصيلة الإنسان دون الفصائل جميعاً من عالم الحيوان، فهو من أخيه الإنسان على أخطر الخطر في ذلك الظلام. . . أما عالم الحيوان جميعاً، فهو منه في أمان!

لم أقرأ هذه القصيدة قط إلا ذكرت شاعرنا العربي حين يقول:

عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير

نعم. وأصدق ما يكون ذلك في مقام حراسة وفي ميدان قتال!

ثم قامت الحرب الحاضرة، فإذا ببطل من أبطال الحيوان، يعلو ذكره في كل ميدان، ويستوحونه القصائد والألحان! ذلك توني المنسوف.

أو هو بالإنجليزية

أتعرفه؟

لم أزدك به معرفة على ما يظهر، فاعلم أنه قط من مشاهير القطط في الدنيا، أو هو الآن من مشاهيرها بعد أن لم يكن على بال أحد غير أصحابه وعشرائه قبل بضعة أسابيع.

كان يومئذ في سفينة إنجليزية أغرقتها الغواصات على مقربة من شواطئ السويد، وبصر به جندي في الماء فعاد إليه ونجاه ولم يحفل بما يصيبه من مكامن البحر (الملغوم) في سبيل هذه النجاة: نجاة توني المنسوف!

وضبطه رجال الميناء ميناء جوذنبرج فاعتقلوه، وقرروا إبادته في المحجر كما يصنعون بالحيوان من قبيله إذا خيفت منه العدوى أو احتاج أمره إلى الرقابة والتمحيص. وأين هي الحكومة التي تنفق على حيوان طريح من طرائح البحر حتى ينجلي الشك فيه، فإما سليم فيرسل، وإما مصاب فيباد!

يباد؟

إن الجنود الذين أنقذوه من الغرق لم ينقذوه من الماء ليقذفوا به إلى النار المحرقة أو إلى السم الزعاف.

فلن يباد توني المنسوف، وفي أولئك الجنود بقية من دماء.

واتصلت المشكلة بالصحيفة الوقور التي أسماها بعضهم بالدولة المستقلة، وهي صحيفة (التيمس) اليومية.

فكُتبت الحياة لتوني المنسوف!

وتقاطرت الهبات على ميناء جوذنبرج للإنفاق على ضيفها المضنون به على غير أهله، طوال مدة الرقابة الصحية وعدتها ستة شهور.

وجاشت قرائح المصورين وقرائح الشعراء.

فظهرت في الصحيفة صورة (توني) على لوحة تغوص وتطفو بين اللجج المزبدات، والحطام المتناثر من الأحياء والأموات.

وعلى رأسه طيارات، ومن حوله غواصات، وهو بينهن كأشجع ما يكون الشجعان من البطولة والثبات!

وكتب شاعر تحت الصورة هذه الأبيات:

(المخلوق الضعيف القليل النصير في ألعوبة من ألاعيب الأقدار، يبدو أنها ختام قدّر له

من وجود.

(تولته صداقة (التيمس) فامتدت به حبال الأجل الممدود.

(ووثب من ذراعي الموت إلى أحضان الشهرة والخلود.

(لقد كان مجهولاً لا عنوان له بين قطط العالمين.

(فارتقى سلم الشهرة قفزة واحدة إلى مكانها المكين.

(مذكور الأحزان والأشجان بين الناس، معروف الشجاعة على كل لسان مبين، من

المادحين والمعجبين.

(والآن تتلقى أنباءه أمواج الأثير، وهو قابع في المحجر مستقر أمين.

(يشرب اللبن ويستطعم الغذاء، ويلعب ويطرب ويستكين.

(وعلى ضفاف السويد من خليج بوهاس الجميل الموصوف.

(ينتهي منظر القصة المنظومة، وتبتدئ شهرة توني المنسوف.

(وتسري على (الكاتيجات) أنفاس الخضم، وآهات الخريف!).

اقرأ هذه القصيدة الظريفة وقل معي: يا لذلك القط من حيوان مجدود!

بل قل معي: يا للإنسان من حيوان مكدود منكود!

ولا تعجب أن تكون هذه عنايته بقط مسكين، وفي العالم حرب ضروس تنذره بهلاك الألوف أو الملايين.

أو إن عجبت فاعلم أنني لا أعجب مما أرى وأسمع من أشباه هذه الأنباء، ولا أراها أهون ولا أهزل من أن تشغلنا بعض الشغل في هذا البلاء أو عن هذا البلاء.

فأهون ما فيها أنها لا تيئس من العاطفة الإنسانية، وأنها تزيدنا علماً بسرائرنا النفسية، وأنها توازن ما في الحرب كلها من عداء، بما في ودائع القلب الآدمي من شغف بالمودة وحرص على الولاء، وشوق إلى الوفاء.

إن عداء الحرب لا يستنزف ما في النفس من ينابيع الرحمة بل ينبش عنها في الأعماق فيرسلها على شتى الصور وأغرب المناسبات.

فكلما اشتد العداء كان اشتداده مدعاة إلى اشتداد البحث عن جانب المودة والرفق، وجانب الألفة والمعونة، وجانب الطمأنينة إلى ملاذ في قرارة الحياة.

ولهذا تعظم الحرب لأنها تشمل الملايين من أفراد السلالة الآدمية.

وتعظم إلى جانبها حادثة (توني) الضعيف لأنها تشمل نفس الإنسان، أو تشمل جميع بني الإنسان.

ونحن بصدد الحيوان والإنسان فلنختم هذا المقال بقصة طريفة من قصص هذا المقام.

على الصفحة الأولى من الصحيفة الإنجليزية المصورة (اللستراتد) رسم كبير لكلب من فصيلة (البول دوج) المشهورة بين الإنجليز وعلى رأسه قبعة من قبعات الجنود.

ومناسبة هذا الرسم أن (المذياع الألماني) أشاع في الشهر الماضي أن الغواصات الألمانية أغرقت (السفينة) كستريل وليست هي بسفينة ولكنها نقطة تدريب برية يختبرون فيها سلاح السفن ويتبعونها من أجل ذلك لوزارة الشؤون البحرية.

فلما شاع هذا النبأ المضحك بين جنود تلك النقطة نقله الجندي الذي يخلع قبعته على كلبها المحبوب إلى ذلك الكلب الغافل عن مذياع الألمان ودعوة الألمان، وقال له مازحاً:

أتدري يا بوللي أنك الآن في عداد الأموات وفي سجل الغرقى؟ هكذا يزعم جوبلز يأيها الميت الذي يدعي الحياة!

قال الراوي: فزمجر بوللي غاضباً: (ومن هو جوبلز؟).

والحق أن بوللي ليقولها ويقول ألفاً من قبيلها!. . .

نعم. . . ومن هو جوبلز؟

ولهذا السؤال ولا ريب معناه!

عباس محمود العقاد