مجلة الرسالة/العدد 338/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 338/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1939



دراسات في الفن

آلو. . . الدكتور عزام؟!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- يا للنهار! مالك أنت والغناء؟ لك ساعة وأنت تعوي وتنهق بأكره الصوت جادا مجتهداً كأنما تجرب إذاعة لهذا المساء؟ هل زيفت نفسك على ماركوني وألقيت في روعه أنك موسيقي مغن مطرب ملحن؟ أما إذا كنت فعلتها فهي كبرى المصائب، ونكبة النكبات.

- إني لم أفعلها إلى الآن. ولكني أعد نفسي لها، وهي من غير شك أربح الأشغال في هذه الأيام. فقد وصل سعر اللحن عند ماركوني إلى مائة جنيه، ينفق عليه منها عشرة على الأكثر يأخذها تخت كامل وفوق الكامل. ثقي أني سأبدأ العمل وثقي أني أعرف طرق النجاح فيه.

- قل شيئاً غير هذا، وامح علامات الجد هذه من على وجهك فقد كدت أصدقك. . . أمجنون؟!

- سترين أني عاقل عندما تسمعين مصطفى بك رضا بنفسه يقدمني للجمهور من خلال الميكروفون وهو يقول: (آنساتي سيداتي سادتي. أقدم لكم الآن بكل فخر كوكب الإذاعة الجديد الموسيقار العبقري البروفيسور عزيز فهمي في أغنيته الأولى (التختروان) وهي من تأليفه وتلحينه. . . على تخت مكون من كبار رجال الفن).

- وما الذي يمنعك ما دمت واثقاً أن هذا ممكن؟

- لا شيء يمنعني. وإنما كانت الفكرة غائبة.

- وقد جاءت الفكرة وستنفذها. أليس كذلك؟ قل لي الآن بم ستبدأ.

- بالشعر. . . صحيح أني لست شاعراً ولكني أعرف من العروض وأوزان الشعر ما أستطيع به أن أنظم الكلام. ثم إني أعرف الكلام الذي يحبه الجمهور وليس علي أكثر من أن أرصه في النظم رصّاً وهو لا يعدو (النوح والدوح)، والأغاني والأماني، والدموع والخضوع، والغزل والأمل) وسائر هذه الألفاظ التي يقولها القمر للأستاذ أحمد رامي وهو نائم تحت السرير في الغرفة الغربية المطلة على الحقول من منزله في حدائق القبة. . . فإذا ما انتهيت من القصيدة شعراً بدأت في تلحينها، وهذا شيء أيسر من الشعر، وهو لا يكلفني أكثر من مراجعة ألحان سيد درويش وبعض الألحان الشرقية والغربية مما لم يسمعه الجمهور أو مما قد سمعه، وآخذ لكل شطر أو لكل بيت من أغنيتي لحناً من هذه لألحان، فإذا لاحظت في هذا الترقيع أن يكون منسجماً يمشي بعضه مع بعضه من ير تنافر فإني قد جئت بما لم يجيء به الأستاذ محمد عبد الوهاب نفسه، فنحن لا نزال نرى في مقطوعاته جميعاً التنافر ظاهراً بين أجزائها المجموعة من الشرق والرب. . . فماذا تريدين مني أكثر من التفوق على عبد الوهاب؟

- وبعد؟

- أتفق مع الأستاذ محمد القصبجي على أن يتعهد بمراجعة اللحن مع أفراد التخت بخمسة جنيهات يأخذها ربحاً حلالاً على هذا، وعلى أن يعزف معي بعوده الممتاز في الإذاعة. . . وهو لن يرفض خمسة جنيهات حلالاً. . . وإذا أخذ الأستاذ إبراهيم العريان وهو سيد العازفين على القانون في مصر جنيهاً واحداً ليشترك معي في الإذاعة فإنه سيدعو لي ليلاً ونهاراً لأنه يقضي الشهور معطلاً لا يكد يدعوه أحد إلا زكريا أحمد الذي يعرف قدره وقدر فنه ولأن الباقين يتقونه خشية أستاذيته. . . وتبقى أربعة جنيهات بعد ذلك أوزعها على أفراد التخت، ولا شيء أخيراً إلا وليمة لرجال الصحافة وبعض الملق والمداهنة وأنا زميل لهم وأظن أنهم يجاملونني.

- طيب والغناء؟ أتغني بصوتك هذا نفسه؟

- ولم لا؟ أليس صوتي أرخم من صوت الأستاذين حسين المليجي وحامد مرسي؟ وما دامت الصحافة ستقول هي وماركوني إني مفن ممتاز عبقري، فلا بد أن يصدق الناس أني كذلك. . . والحق أني كذلك. . .

- تريد أن يجوز هذا عليّ أنا أيضاً؟

- الفنان الحق يا آنستي لابد أن يؤمن بفنه قبل أن يؤمن به الناس. . .

- يا عينك! ولكنك لم تقل لي كيف تستطيع اجتياز العقبة الأولى وهي إقناع مصطفى بك رضا بأنك فنان. . .

- هذه أهون الهينات. . . وهي بيد الدكتور عبد الوهاب عزام الذي لا يزال يذكر أني تلميذه، والذي يعطف عليّ فيما يبدو لي، والذي أعتقد أنه لا يتأخر عن مساعدة رشيقة كهذه. .

- وما للدكتور عزام الأستاذ في الجامعة والذي يكتب عن رحلاته في الشرق والغرب، وهذه (الألعوبة) أو (الألعبانة) التي تريد أن ترتكبها. . .

- الرجل رجل طيب، فذا التصقت به لم يجرؤ على طردي لأنه حيّ خجول، ولأني سأذكره بالحكمة لتي تقول: (من علمني حرفاً صرت له ضيفاً) وقد علمني هو اللغة الإيرانية كلها. . . ولدكتور عزام قريب صاحب المعالي عبد الرحمن عزام بك وزير الأوقاف، والأستاذ مصطفى بك رضا موظف في وزارة الأوقاف فإذا رآني حول الوزير مرة أو مرتين أصبحت عنده شيئاً مذكوراً. . . فإذا دعوته يوماً إلى سماعي ونبهته إلى أن الدكتور عزام سيسمعني معه خف إليّ كالبرق الخاطف حباً في مجالسة الناس الطيبين، فإذا لبى الدعوة هؤلاء الناس الطيبون الذين من عادتهم ن يجبروا خواطر الناس، بدأ الإيمان بي وبفني يدخل نفس ماركوني، فإذا جاملني أحد الناس الطيبين (بآه) أو (بأحسنت) كان هذا مستنداً لي على أني فنان مقتدر. . . فإذا قلت عن نفسي بعد ذلك بأني عبقري وأني نابغة العصر والأوان زيادة على أني شاعر كبير ومثقف مطلع ومفكر عظيم فإني من غير شك واصل إلى الاتفاق الذي أرجوه. . .

- ولكن هذا كله لا يساعدك في شيء. . . فمصطفى بك رضا نفسه موسيقي، وهو نفسه حَكَمٌ في الفن لا يمكن التدليس عليه.

- قد يكون هذا حقاً، ولكن الرجل أعقل من أن يحكم بالفن وحده. . . فهو بلا شك يقيم إلى جانب الفن اعتبارات أخرى يستعينها في الحكم على الفنانين الذين يعملون في الإذاعة. . وإلا فكيف يسمح بالغناء لمن تعرفينهم من المغنين الذين لو استمعوا إلى أنفسهم لما رضوا أن يغنوا. . . ألا يذيع كثيرون من هؤلاء؟

- ولماذا يفعل هذا؟

- اسأليه. . . واعلمي أنه محسوب على السيدة نفيسة فهو تقي جداً وورع جداً ولا يمكن مطلقاً أن يقول غير الحق ولا أن يظهر غير ما يخفي. . . زيدي على ذلك أنه من أسرة كبيرة غنية، وأن له من الحسب والنسب ما يدرأ عنه كل شبهة. . . وإن كان فيه عيب فهو أنه رجل طيب. . . طيب جداً، سبحته لا تفارقه، وشفتاه لا تكفان عن التمتمة والتسبيح، ولعل ماركوني لم يأخذه إلا لأنه بركة.

- إذن فقد انتهى الأمر، وإني أوصيك بأن تبدأ. . .

- اسألي لي عن الدكتور عزام بالتليفون، فذا وجدته فقولي له: إن هيئة كبار العلماء ستتغدى عندك اليوم.

- وما لهيئة كبار العلماء هذه أيضاً؟

- هذا اسم كان يطلقه الدكتور عزام على فرقتنا التي كانت مؤلفة من ثلاثة. قال الأستاذ أحمد أمين يوماً: إن كلية الآداب لم تر مثلهم ولن ترى مثلهم.

- في الجد والتحصيل؟

- لا. في العنف والكفاح والرجاء والإيمان. دعينا من هذه الذكريات. هل وجدت الدكتور؟

- لا. فلننتظر ساعة. والآن قل لي: لماذا اخترت أن يكون اسم أغنيتك (التختروان)؟

- أنا لم أختر هذا. وإنما هو الرد الطبيعي على أغنية (الجندول) التي غناها عبد الوهاب. (فالجندول) هذا مركب أوربي يسير في شوارع البندقية - وهي مياه - ولا يعرف هذا (الجندول) إلا فئة خاصة من المصريين؛ أما (التختروان) فيعرفه المصريون جميعاً والعرب جميعاً، لأنه (الهودج) الذي يوضع على ظهر الجمل فإذا كان (الجندول) الذي لا يعرفه المصريون قد أصبح أغنية فلا عجب في أن يتغنوا (بالتختروان)!

- ليس الذنب في (الجندول) ذنب عبد الوهاب، وإنما هو ذنب الأستاذ الشاعر علي محمود طه المهندس الذي زار البندقية وحدث له (الجندول) فيها فسجله شعراً، ولحنه عبد الوهاب.

- قد يغتفر للأستاذ الشاعر هذا الجندول ما دام قد حدث له ولكن لماذا يغنيه الأستاذ عبد الوهاب؟ وقد خلق الله له موهبة التقليد التي يأبى أن يستغلها.

- لم أسمع أن التقليد موهبة فنية لها مكانتها بين الفنون إلا الآن.

- هي موهبة من غير شك، وهي موهبة عبد الوهاب؛ وهي التي ظهرت فيه منذ طفولته، فقد كان وهو غلام يغني كل ما يسمعه ويوفق في تأديته خير التوفيق، حتى أن المرحوم الأستاذ عبد الرحمن رشدي أخذه معه، وأخذ يعرضه بين الفصول يغني للنظارة بعض أناشيد المرحوم الشيخ سلامة حجازي على ما فيها من قسوة وجبروت، فكان ينال إعجاب الناس، وسمعه بعد ذلك المرحوم أحمد شوقي بك فطرب له فاحتضنه وتبناه وقدمه لأصفيائه وللبيئة التي كان يعيش فيها وهي بيئة الأمراء والكبراء فكان عبد الوهاب يغنيهم من محفوظاته وكان عليهم ن يستحسنوا غناءه؛ فلما مات سيد درويش فوجئ الجمهور بعبد الوهاب الملحن الموسيقار، وكانت المفاجأة بالطريقة التي أريد أنا أن أفاجأ الجمهور بها ومنذ ذلك الحين بدأ عبد الوهاب يتعثر إذ عدل عن الموهبة التي خلقها الله له إلى ما لم يسمح الله له به. على أنه كان غالباً ما ينجح إذا غنى المواليا، ذلك أنها غناء مصري للقاهرة، فيه أسلوب خاص تأثر به عبد الوهاب كل التأثر منذ صباه، وقد سلمت بعض قصائده من التنافر والتخبط لكثرة ما غنى في ماضيه للمرحومين: الشيخ سلامة حجازي، والشيخ أبو العلا محمد؛ أما ما عدا ذلك من الأغاني، فعبد الوهاب يعاني الأمرين في غير شك في صوغه. وقد كان المرحوم شوقي بك يغربل له موسيقاه فلما مات لم يعد عبد الوهاب يسمح لأحد بأن يكون له في موسيقاه رأي إلا السجود لها ولا أقل.

- يا شيخ! لا تكن ظالماً.

- لست أظلمه. ولو أنصف عبد الوهاب لظل كما كان مغنياً يغني لغيره ممن يستطيعون التلحين، أو أن يكون مغنياً بلدياً كغيره من أولاد البلد الفنانين البارزين، وليس هذا عيباً، وليس فيه حطة، فالناس كلهم أو أغلبهم مجمعون على استحسانه في المواليا، وفي القصائد قبل أن يفرنجها. . . أليست (يا جارة الوادي) خيراً من (الجندول)؟ ولكنه أصيب بما في رأسه، وهو لا يريد مطلقاً أن يذكر الجمالية، ولا يأب الشعرية، ولا (حوانيت الترزية. . .) مع أنه أنفق حياته الأولى في هذه. . . وهو فنان، والفنان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغفل ماضيه. . . وإن حياة الفنان الأولى التي قضاها وهو بعيد كل البعد عن التفكير في مشاغل الدنيا وأرباحها وخسائره لهي المعين من الفن الذي لا ينصب. . . وإنها أصدق ما يمكن أن يبرزه من الفن، وأصفى ما يمكن أن يطالع به الناس من عواطفه وخلجات روحه. أليس كتاب (الأيام) هو أروع ما أخرجه الدكتور طه حسين بك. وأي شيء في كتاب (الأيام) غير قسط ظاهر من الصدق. . . إن الدكتور طه حسين قد تحول اليوم إلى إنسان آخر غير الطفل بطل الأيام. . . وهذا الإنسان الآخر له مجد وله مكانة وله شهرة، وله منصب وله رتبة، ومع هذا فالطفل (طه حسين) بطل الأيام أحلى من الدكتور طه حسين بك، والدكتور طه حسين بك نفسه يعترف بهذا فلا يهمل هذه المرحلة من حياته وإنما يكتبها وتخرج من بين يديه خير ما كتب. . .

- إذن فعلى عبد الوهاب أن يغني غناء بلدياً أو يقلد الشيخ سلامة حجازي وغيره. . .

- من غير شك هذا هو خير ما يستطيعه عبد الوهاب، لأن أحلى ما فيه، ولأنه كان هكذا في طفولته. . . فهذا هو ما خلقه الله له لا ما اختاره هو لنفسه. . .

- ولكن هذا الطريق لن يجدي عليه نفعاً كبيراً. . . فمن الذي يعطيه مائة جنيه في أغنية قديمة؟

- الرزق هذا شيء لا حيلة للإنسان فيه، وإنما حيلة الإنسان في عمله والله يعطي بعد ذلك من غير حساب. . . إن بيتهوفن وسيد درويش ماتا معدمين ولم يجمعا في حيتهما عشر معشار ما جمعه عبد الوهاب فهل هو أنصع منهما فناً؟. . . إن كرستوف كولمبس الذي عثر على أمريكا لم يمت إلا بعد أن استجدى في شوارع نابولي على ما أظن. . . فالرزق شيء والعمل شيء. . . والفرقة القومية بدأت تفكر في تقديم الأوبرا والأوبريت، وعبد الوهاب من غير شك هو المغني الأول الذي أرشحه لها. . . فمن ذا الذي يستطيع أن يقنعه بقبول هذا العرض؟. . .

- يهديه الله. . .

- سيهتدي عندما يراني أزاحمه، وعندما يجد معي سر نجاحه، وعندما يلحظ أني سأحسن استعمال هذا السر أكثر مما يحسنه.

- إذن. فأنت لا زلت مصراً.

- من غير شك. . . اسألي عن الدكتور. . .

عزيز أحمد فهمي

(الرسالة) لا نظن كثيراً من النقاد يشاطرون الأستاذ عزيزاً

رأيه في الأستاذ عبد الوهاب.