مجلة الرسالة/العدد 338/في مزارات الإسكندرية

مجلة الرسالة/العدد 338/في مزارات الإسكندرية

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 12 - 1939



للدكتور عبد الوهاب عزام

(بقية المنشور في العدد 334)

سرنا إلى جامع البوصيري وهو من أجمل المساجد وأحبها إلى نفسي لا يمل زائره الجلوس فيه يقلب الطرف في جوانبه ويرى البردة منقوشة على أربعة جدرانه في إطار واحد، ويرى بين الحين والحين زرقة البحر والسماء فيطلق فكره من المعبد الصغير إلى المعبد الأكبر بين لجة المار ولوح الجو.

ذكرنا هناك المحدث الأديب الشاعر شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري صاحب البردة والهمزية القصيدتين المباركتين اللتين خلدتا صاحبهما وخلدتا في صفحات الدهر ونالتا من الحفظ والإنشاد والكتابة والنقش والتذهيب والتحلية ما لم ينله شعر آخر في الجاهلية والإسلام.

وجلسنا في الإيوان المشرف على الصحن جلسة خفيفة أنشدنا فيها الشيخ الخالدي هذه الأبيات:

أما المحبة فهي بذْل نفوس ... فتنعّمي يا مهجتي بالبوس

بذل المحبّ لمن أحبّ دموعه ... وطوى حشاه على أحر رسيس

شرفاً لشاذلة ومرسية سرتْ ... لهما الرياسة من أجلّ رئيس

ما إن نسبت إليهم شيخيهما ... إلا جلوتهما جلاء عروس

وليست هذه الأبيات غريبة في مسجد البوصيري، وإن لم يذكر فيها، فهو تلميذ أبي العباس المرسي. وأبو العباس تلميذ الشاذلي.

وأبو الحسن الشاذلي هو الشريف تقي الدين علي بن عبد الله بن عبد الجبار شيخ الطريقة الشاذلية. كان عالماً واسع العلم وبلغ الدرجات العالية في التصوف وتوفى بصحراء عيذاب متوجهاً إلى مكة في ذي القعدة سنة 656 ونسبته إلى شاذلة إحدى قرى تونس.

وأردنا أن نزور قبر الشاطبي الذي ينسب إليه حي الشاطبي في رمل الإسكندرية فقيل لنا إن قبره قد اشتملت عليه العمارة الشامخة التي شادتها جمعية العروة الوثقى هناك.

وهذا الشاطبي غير صاحب الشاطبية، ولكنه من رجال القراءات كذلك ذكره السيوط حسن المحاضرة في عداد من كان بمصر من الصلحاء والزهاد والصوفية. وقد كتب لي العلامة الشيخ الخالدي ترجمته من كتاب (الزهر المضبي في مناقب الشاطبي) وهاأنذا أثبتها هنا:

(أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي نزيل إسكندرية ويعرف بابن أبي الربيع أحد أولياء الله تعالى شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس، والتمسك بطريقة السلف، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد ابن سعادة الشاطبي وغيره، وقرأ بدمشق على الواسطي وسمع عليه الحديث ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب خادم أضياف رسول الله بين قبره ومنبره سنة 617، وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصري وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفا ابن عبد الحق وغيرهم. وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي عبد الله الراسي، وصنف كتباً حسنة منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب، وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة، وتفسير القرآن العزيز، وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكاتب المباحث السنية في شرح الحصرية، وكتاب الحرقة في إلباس الخرقة، وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذ الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية، ومولده بشاطبة سنة 585 ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672، ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته رحمهما الله).

ويوم الأربعاء التاسع والعشرين من رجب خرجت أنا والأستاذ الزيات لرؤية جامع الشيخ. وكنت واعدت الشيخ إبراهيم القادري شيخ التكية القادرية أن أمرّ به صباح هذا اليوم ووعد أن يكلف خازن مكتبة الجامع أن يكون هناك ليطلعنا على خزانة الكتب.

زرنا التكية وصحبنا الشيخ إبراهيم إلى الجامع، وكنت أسمع بجامع الشيخ وأود أن أراه فلم تتح الفرصة قبل.

الجامع مبني فوق سوق بها حوانيت كثيرة. دخلنا من الباب الخلفي فصعدنا درجاً وملنا ذات اليسار إلى مكتب لتعليم القرآن، ثم صعدنا درَجاً آخر إلى حجرات يسكنها طلاب العلم في ذلك الجامع. ثم هبطنا من حيث صعدنا فدخلنا إلى جامع واسع فيه مصلّى كبير تحيط به ثلاثة أروقة كبيرة، رواقان مستطيلان عن جانبي القبلة ورواق إلى الشمال كبير يفضي إلى باب المسجد الأماميّ وقد ألفيت المسجد أوسع واجمل مما حسبت قبلاً.

وسرنا في الرواق الذي إلى يسار القبلة إلى حجرة، وتقدم شيخ وقور هو إمام المسجد ففتح الَغلَق عن باب يؤدي إلى حجرة تفضي إلى حجرة أخرى فيها الكتب.

سمعت من قبل أن هذه الخزانة أغلقت أربعين عاماً ثم فتحت وقد فعلت الأرضة فعلها بالكتب فأتلفت كثيراً منها. ورأيت بقية الأرضة والإهمال من هذه الكتب مكدسة في رفوفها لا يدرى ما فيها. ولعل فيها من نفائس الكتب ما نتفقده في دور الكتب فلا نجده، أو ما نحن في حاجة إليه شديدة لتصحيح ما لدينا من الكتب المخطوطة. ولست أدري على من تقع التبعة فيما أصاب هذه الأسفار من التلف وما هي فيه من ضياع. إن أسرة الشيخ إبراهيم باشا الذي أسس هذا المسجد أسرة عريقة في البرِّ لها أياد على العلم والعلماء. وكانت دورهم مقصد رجال العلم من مصر وغيرها. وكان هذا الجامع معهداً في الإسكندرية قبل إنشاء المعهد الديني التابع للأزهر. فلماذا ترك الخلَف من هذه الأسرة سنن السلف وأهملوا آثار آبائهم؟ وإن كان لوزارة الأوقاف إشراف على هذا الجامع فعليها تبعة عظيمة، وعليها أن تستولي على المسجد ومكتبته أو تلزم القائمين عليهما أن يحسنا القيام.

لعل كلمتي هذه لا تذهب سدى بين الأوقاف وأسرة الشيخ إبراهيم باشا.

تركنا الجامع إلى مكتبة الإسكندرية في دار موصيري. وهناك لقينا الأخ الأديب الشيخ بشير الشندي، فأنسنا به وأفدنا من حديثه عن الكتب، وعن آثار الإسكندرية. وقد أطلعنا على رحلة ابن رشيد التي ذكرتها في المقال السابق. وفي المكتبة منها الجزء الثالث وهو المتضمن وصف مصر. وهو منقول عن نسخة في الأسكوريال. وهذه الرحلة ذات جدوى كبيرة في تاريخ مصر ولا سيما الإسكندرية، وهي جديرة بالعناية والنشر.

وكان من حديث الأخ بشير أن قال: أسمعتم عن بئر مسعود؟ قلنا: نعم هو على ساحل سيدي بشر. قال: لكن مسعود الذي أضيفت إليه البئر؟ قلنا: لا ندري. قال: عندي حديث عنه لا تجدونه في الكتب. كان شيخنا الشيخ عبد الفتاح شريف والشيخ جاد الحق يذهبان إلى تلك الجهة للرياضة والدرس وكنت أذهب معهما؛ وكان الشيخان ومن يصحبهما يجلسون على هذه البئر يتمتعون بمنظر البحر وهوائه. وكان فيمن يحضر هذا المجلس رجل ظريف موظف في الجمرك يسمى مسعود أفندي طراطيش فبدا لشيخنا أن يسمي البئر (بئر مسعود) فعرفت بهذا الاسم حتى اليوم قلت: هي فائدة لم يفكر فيها اللاهون حول البئر اليوم.

رجعت إلى داري وأنا أتمنى أن تمكن الفرص من بعد لرؤية ما لم نر من مشاهد المدينة العظيمة.

عبد الوهاب عزام