مجلة الرسالة/العدد 339/الرسالة في عامها الثامن

مجلة الرسالة/العدد 339/الرسالة في عامها الثامن

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1940


في صباح هذا اليوم يستقبل الناس عامهم الجديد وهو يبرز من حجاب الغيب بروز الجنين من كمام الحياة لا تدل معارف وجهه على خير ولا شر؛ وتستقبل الرسالة معهم عامها الثامن وهو يبصر في ظلام الغد بصيص الأمل في حواشي اليأس لا يُخلد إليه ألا ريب الحذر بعرف ولا نكر. وفي مساء البارحة شيع الناس سنتهم الفارطة وهي ترزح بالحوادث الحسام، وتسفح بالدماء الحرام، وتنذر بالقارعة العامة؛ وشيعت الرسالة معهم سنتها السابعة وعليها سمات وندوب من جهاد الرأي ونضال العيش وعنت الخصومة. وبين الساعة التي نشيع فيها العام الفقيد، والساعة التي نستقبل فيها العام الوليد، يرتسم الحد الفاصل بين ذكرى وأمل، وبين ماض ومقبل، وبين مرحلة ومرحلة من طريق الحياة الطويل الغليظ المبهم. وما يوم الناس إلا ذكراهم للأمس ورجاؤهم في الغد. وما حاضرهم إلا التحسر على الماضي والتخوف من المستقبل. وما عيدهم بين سنة وسنة إلا وقفة استجمام بين سُرىً ملغب أمنوا ضلاله وعلِموا صباحه، وبين سير مجهد يخشون أهواله ويجهلون ليله!

الدنيا حرب دائمة بين الحياة والموت والصلاح والفساد والخير والشر؛ ولكن هذه الحرب الخفية قد أصبحت لضرورتها ولزومها جزءا من نظام الوجود إن لم تكن هي ذلك النظام نفسه. ومن أجل ذلك ألفناها إلفنا قوانين الطبيعة فلا نتبرم بها ولا نضيق. فأنا ونفسي، ومنفعتي ومنفعتك، ورأيك ورأيه، ورغبتها ورغبته، في حرب مشبوبة لا تنطفئ، وعداوة منصوبة لا تنكسر. والحياة مع هذا الصراع المستمر زاخرة، والكون مع هذا الدمار الشامل قائم. ولكن الحرب التي تشنها أمة على أمم فتزلزل الأرض بالقذائف، وتشق السماء بالرصاص، وتخسف البحر بالألغام، وتهلك الحي بالهم والسم والنار والقحط، مثلها كمثل الزلزال والطوفان والزوبعة، لا يتسق معها نظام، ولا يتصل بها عيش، ولا يستقيم عليها أمر؛ ثم لا يميز شياطينها المجرمة المحطمة الهوجاء الضار من النافع، ولا المذنب من البريء.

من الجائز أن تنجو الرسالة من حزب الهوى والخصومة والمنافسة. فإن الحرب في تنازع البقاء هي السلم، والثورة لبقاء الأصلح هي النظام؛ والسلاح الذي لا يخذل في هذه الحرب هو الصدق والصبر والإيمان والمثابرة، وكلها في مقدور المجاهد الصالح. ولكن من المستحيل أن تسلم الرسالة من شر هذه الحرب الهتلرية الطاحنة؛ فإنها على ضراوتها بك شر وإضرارها بكل شيء، كانت أقسى ما تكون على الصحافة: قطعت عنها الوارد من الورق والحبر وأدوات الطباعة، فنقصت في الكيف والكم، بقدر ما زادت في النفقة والهم. وقطعت عليها السبيل إلى الأقطار الأخرى بصعوبة النقل وشدة المراقبة وضيق المعاملة، فتعذر وصولها إلى البلاد المحاربة، وقل انتشارها في الأقطار البعيدة. وشُغِل الناس بأخبار الحرب وأفكارها وأوزارها وأطوارها وأزمتها ونتيجتها عن النظر في الأدب اللباب والفن الخالص، فلم يقرءوا إلا ما يتصل من قريب أو بعيد بهذه القيامة القائمة

كان من شر هذه الحرب على الرسالة أن كابدت ما كابد غيرها من صحف العالم أزمة الورق، فاضطرت إلى أن تنقص حجمها بعض النقص، وتقتصد في زينتها بعض الاقتصاد. ورأت أن تضمن لنفسها استمرار الحياة في هذا الدهر العصيب فطوت (الرواية) في أحشائها إلى حين ليتوفر لها ما كانت تنفقه أختها من الورق وتهلكه من المادة. وكل ذلك في رأينا ورأي القارئ الصديق أهون من التهور في الهجوم القاتل، أو التعرض للأشر المعطل

على أن هذه الحرب كربة ستنجلي وأزمة ستنفرج. ثم يعود كل شيء إلى خير مما كان وأحسن. ولئن ظهر أثر هذه الحرب الضروس على سمت الرسالة وحليتها، فمعاذ الّله أن يمتد ذلك إلى تحريرها وخطتها؛ فإن التأثير الخارجي لا يتجاوز الخارج ولا يتعدى الشكل؛ وأما التأثير الداخلي الذي يمس الموضوع والجوهر والكنه فهو انبثاق الإيمان والفن من قلب الكاتب، وانتشار الاطمئنان والثقة من روح القارئ! وهيهات أن يعتور هذين المؤثرين فتور أو قصور أو وهن. وبين الرسالة وقرائها ولله الحمد ألفة وثقة وتعاون؛ ولولا ذلك ما ثبتت هذه الصحيفة الضعيفة على عرك الخطوب وكيد المطامع. ونحن لا نزال نأنس في أسرة الرسالة الكفاية والقدرة على إرضاء القارئ في كل جهات عقله وقلبه إذا استمر يوليها الثقة والمعونة. وسيرى أن الرسالة من غير أن تقطع وعداً أو تجدد عهداً تسير في طريق الكمال بقدم ثابتة وخطى متزنة، فلا تعسف لتضل، ولا تسرع لتكل، ولا تجازف لتنقطع. والرسالة في أناتها وثباتها لا تخرج عن سنن الطبيعة؛ فهي مظهر لرقي الأمة العربية في الفكر والخيال والشعور؛ وهذه المواهب لا ترقي في الفرد والأمة إلا بمقدار

صديقي القارئ، تعودت في مثل هذا اليوم من كل عام أن أستريح إليك بذكر ما لقيت الرسالة في طريقها الجاهد من أشواك وأشراك؛ ولكنني أخذت أستحلي الصَّاب في سبيل المبدأ، وأستعذب في بلوغ الفوز، وأستبقي لنفسي لذة الصبر وثواب الألم. ولئن شكوت لأشكون إلى الله أن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فلم يعودوا يدركون معنى الجميل؛ وأن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل؛ وأن زعماءنا تفرقت بهم السبل بتفرق الغايات، فلكل غاية دعوة ولكل دعوة سبيل.

(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين) صدق الله العظيم.

أحمد حسن الزيات