مجلة الرسالة/العدد 339/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 339/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1940



عام جديد

للدكتور محمد محمود غالي

قدمنا إلى القراء في مستهل العام الماضي العلامة الدكتور محمد محمود غالي. ويجب علينا في مستهل هذا العام أن نشكر له باسم القراء في جميع الأنحاء جهده الموفق في وصف الصورة التي يعرفها العلماء اليوم عن الكون، وما وصلت إليه الآراء الفلسفية فيه، وما بلغه العلم التجريبي من تقدم. وقد تابع العلماء والأدباء والطلبة مقالاته الثلاثين في تبسيط هذه الموضوعات العويصة بأسلوب سهل وعرض جميل وقريحة متمكنة. وسيتابعون هذا العام برنامجه الذي عرضه في هذه المقالة مدفوعين بما غرسه فيهم من رغبة الاطلاع ولذة المعرفة.

يسمونه عاماً جديداً، وليس للتسمية من معنى علمي سوى أن الأرض أتمت دورة كاملة في دورانها حول الشمس، شد كوكبنا النشيط فيه رحاله كعادته من نقطة معينة في الفضاء وظل دائراً كعهدنا به إلى أن عاد إلى النقطة التي بدأ منها المسير، واستأنف الكوكب مسيره من جديد فدخلنا فيما نصطلح على تسميته عاماً جديداً، وهو اصطلاح له معناه عند الإنسان. ذلك أنه فد مر من العمر الذي يتطلع إليه كل كائن - جزء له شأنه، فما الحياة إلا بضعة عقود مثل هذا الجزء الذي قد لا يعاود الكثيرين ممن جاوزوا العقد الرابع أمثال له كثيرة. أجل فهو جزء له خطره ومرحلة لها قيمتها من مراحل الأجل المحدود. وقد يتساءل كل امرئ عما قدم من عمل في عامه المنصرم وما اعتزم أن يقوم به في عامه الجديد

ولقد كانت غايتنا في العام الماضي أن نقوم بدورنا في تبسيط العلوم وفي تقريب الميراث العلمي للذين يريدون أن يتذوقوه. وكان ذلك لنا بمثابة مرحله من مراحل الراحة بعمد ما استلزمته السنوات التي قضيناها في أعمال البحث من تعب متواصل في الفكر وفترات طويلة في العمل. وكان واجباً علينا أن نقوم بهذا النوع من التبسيط نحو القراء من المصريين وأهل الشرق بل نحو اللغة العربية، ففي عالم الغرب مئات من المؤلفات في هذه الموضوعات وأمثالها، وقد قام بتأليفها لفيف من كبار العلماء والكتاب في وقت خلت مكتباتنا من أمثالها من المؤلفات، وفي هذه البلاد الغربية لم يتأخر علماء معروفون عن المضي في كتابة المقالات العلمية في المجلات الأسبوعية أو الشهرية يقربون فيها للقراء أقصى ما بلغه العلم وأعظم ما وصلت إليه المعرفة. ويحضرني في الذاكرة مقالات جان فابري القيمة التي نشرها في مجلة (العالمين) ومقالات غيره من العلماء المعروفين في مجلة (الشهر) تعتبر من أرقى وأشهر المجلات العالمية في الوقت الحاضر. بل لم يتردد آخرون في القيام بتأليف الكتب المبسطة كالتي نراها للعالم الكبير لويس دي بروي وشقيقه الدوق موريس دي بروي (وقد أخرجا في العام الماضي ثلاثة كتب من هذا النوع) وكالتي نطالعها للسير جين والعالم الفلكي أرثر أدنجتون، وهم من مشاهير الإنجليز وممن خطوا كتباً رائعة في باب تبسيط العلوم. وقد ظهر للأخير منهم هذا الشهر كتاب في فلسفة العلم الطبيعية لا زالت الحرب تمنع أن تصل إلينا نسخة منه، نستمتع بها فيما نستمتع به من كتبه العديدة التي هي من أبدع ما جاء بها الكتاب في عالم التأليف

ولقد أفسحت لنا الرسالة، وهي التي تسجل مظاهر التجديد في الآداب العربية، المجال للتأليف العلمي، وخصصت لذلك صحيفة معينة، وجعلت في برنامجها رصد ظواهر التطور في الحركة العلمية، وبدأنا استعراضنا في العام الماضي بمقدم استغرقت ثلاث مقالات ذكرنا فيها: لماذا نحاول تصوير الكون وفق الآراء الحديثة؟ وتناولنا بعد هذه المقدمة ثلاثة موضوعات رئيسية، استغرق كل واحد منها سلسلة من المقالات المتتابعة.

الموضوع الأول تكلمنا فيه عن الحياة وهل هي وليدة المصادفة وشرحنا فيه شيئاً عن علاقة ذلك بالنظام الشمسي للمادة. والموضوع الثاني تكلمنا فيه عن الكون، وبينا للقارئ كيف يكبر الكون في مجموعه، وكيف تبتعد جميع العوالم فيه بعضها عن بعض، وكيف استدل العلماء على ذلك من البحث التجريبي، وكيف أثبت البحث النظري صحة ما ذهبوا إليه. ولعل أظهر ما في هذا النوع من الأبحاث ما ذكرناه للقارئ من وجود علاقة بين الكون في مجموعه وبين أصغر ما فيه وهو الإلكترون. والموضوع الثالث عالجنا فيه الأشعة الكونية، وأردنا بذلك أن نطلع القارئ على أعجب ما نعرفه من الأشعة، وهي الأشعة الخارقة التي تستطيع أن تخترق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص بينما لا تخترق أشعة الشمس غلافاً رفيعاً من الورق، وشرحنا كيف يستدل العلماء على مرور جسيمات هذه الأشعة الخارقة بسماعها، ويحصلون على صور مسارات هذه الدقائق المتناهية في الصغر، ووصفنا في موضوع الأشعة الكونية الذي بلغ خمس مقالات غرفة ولسون المشهورة التي هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة، ووجهنا القارئ بهذا إلى نواح حديثة في العلم التجريبي تبين له منها مسائل جديدة وبحوث عظيمة الأثر، فرأى القارئ مثلاً كيف ساعدت هذه الغرفة في الكشف عن البوزيتون، الذرة الموجبة للكهرباء، وما تبع ذلك من فروض في ماهية وكنه هذه الأشعة العجيبة التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون

والموضوع الثالث استغرقنا في كتابته اثني عشر مقالاً ولم ننته منه بعد، وقد تناولنا فيه حبيبات المادة والكهرباء والضوء فتكلمنا عن الجزيء، وبينا أن حركة الجزيئات سبب العمليات الحرارية، وشرحنا فلسفة ليبنز وفكرته في إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد، وشرحنا المبدأ الثاني للترموردينامنكا، وذكرنا تفسير بولتزمان لهذا المبدأ الثاني فشرحنا كيف تحتم قوانين المصادفة على الجسم المرتفع الحرارة أن يعمل على تسخين الجسم المنخفض الحرارة، ولماذا لا يكون العكس صحيحاً؟ وخرجنا من ذلك بذكر عقيدة العلماء في الطريقة المحزنة التي ينتهي بها الكون، وهي عقيدة لم نوافق عليها. ولم نستند حتى الآن في عدم موافقتنا هذه إلى أسباب علمية، بل اعتقدنا تعذر قبول الامتداد في الظواهر وقنعنا بصعوبة الحكم على مستقبل الزمن، وكانت الحياة وما تبعث فينا من دهشة، واختلافها عن كل ما نعرفه من الظواهر، سبباً عندنا لمخالفة العلماء الحراريين فيما ذهبوا إليه، وانتقلنا من الكلام عن الجزء إلى الكلام عن الذرة، فذكرنا عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف، وبينا وجه الشبه بين عمل الأخير في الكشف عن العناصر، وعمل في الكشف عن الكواكب الجديدة، التي لم تكن معروفة لسكان الأرض، وانتقلنا بعد ذلك من الذرة إلى الإلكترون فتكلمنا عن الكهرباء وذكرنا أنها كالمادة ظاهرة ذرية، وتحدثنا عن الشقيقين، الإلكترون والبوزيتون، أو السالب والموجب، وأتينا على تجارب مليكان الخالدة التي استطاع بها أن نفصل جسيماً حاملاً لإلكترون حر واحد، وبينا كيف تحدثت الأرقام إلى هذا العالم، وكيف أنه، من عملية حسابية بسيطة هي عملية القاسم المشترك الأعظم استنتج وحدة الكهرباء وقاس شحنة الإلكترون وتوصل بعد ذلك لمعرقة وحدة من أهم وحدات الوجود. هذا ما استعرضناه في عام، وما انتهينا إليه في مقالاتنا السابقة التي أرجو أن يكون قد أفاد منها عدد كبير من القراء الذين أردت أن أوفر عليهم عناء كبيراً في مطالعة موضوعات باتت من أصعب المسائل العلمية وباتت رموزها لغير المختصين في هذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لم يدرسها

وجب علينا بعد ذلك، وقد بدأ عام جديد، أن نتم هذا الموضوع الأخير الذي تعرضنا فيه لحبيبات المادة والضوء والكهرباء، فننتهي من قصة الإلكترون الرائعة ونذكر عمل جان بيران ونتكلم عن حبيبات الكون الأخرى: كالفوتون والنيترون والديترون، وغيرها من المكونات الأولى للخليقة، التي تلعب على مسرح الوجود دوراً هاماً، والتي يجد الإنسان في دراستها علاقات تساعده على فهم الكون وقصة الوجود. فإذا انتهينا من هذا تناولنا على الأثر، وفي بدء هذا العام موضوعات رئيسية ثلاثة: نتمم بها وصف الهيكل الرائع للكون وما يحدث فيه، ونعالج فيها أقصى ما بلغه الإنسان المفكر في المعرفة:

الموضوع الأول يخص فكرة النسبية عند أليرت أينشتاين وهي الفكرة التي أدخلت تفكيراً عميقاً على معارف البشر. والموضوع الثاني يخص التفتت الذري وهو الموضوع الذي يصبو العلماء الآن في تياره إلى الوصول إلى نوع جديد من المدنية، يصبح الإنسان فيه أعظم سيادة في استعمال الموارد الطبيعية، وأعظم شأواً في الاستمتاع بالحياة في وجوه لا نعرفها نحن اليوم. والموضوع الثالث موضوع الكم وعلاقة ذلك بفكرة القضاء والقدر، وهو موضوع يعتبر العارفون اليوم أن لا غنى عنه في دراسة الفلسفة الحديثة، والتقرب من معرفة قوانين الكون. ونرجو ألا يفوتنا أن يذكر للقارئ شيئاً عن الموجية ومؤسسها دي بروي وشيئاً عن تيارات التفكير الحديث، وأن نختم موضوعنا بكلمة عن الإنسان القادم والآمال المعقودة عليه. بذلك نكون قد تناولنا سلسلة من الموضوعات المتصل بعضها ببعض، يستطيع القارئ عند مطالعة إحداها أن يعرف شيئاً عن أحدث ما نعرفه في التفكير، وعند متابعتها أن يقف على صورة هي أقرب الصور لحقيقة الكون والوجود

ولو أننا أردنا أن نتناول الموضوعات الثلاثة المتقدمة بالعناية والدرس لأمكن أن يستغرق كل منها عاماً أو ما يزيد، ولكنا ونحن نتوجه بكتاباتنا أيضاً لغير المختصين في العلوم، ولأولئك الذين يبغون ألا تظل العلوم الحديثة غريبة عنهم، نكتفي بضع مقالات بحيث نستطيع بعد مضي ثلاثة أو أربعة شهور من العام الجديد أن ننتهي من هذه الموضوعات العلمية والدراسة الفلسفية ونبدأ عرضاً من نوع جديد

وغرضنا في هذا العرض الجديد أن يقف القارئ على معرفة بعض الاختراعات التي يقابلها في حياته اليومية ويستعملها في كثير من شئونه، ويشعر إزاءها بشيء من الإعجاب. من هذه الاختراعات الراديو ونقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، كذلك (التليفزيون) أي الرؤية من بعيد

على أن بعض هذه الموضوعات تتصل بعلماء ومخترعين ساقني الحظ للعمل معهم أو التعرف إليهم. أذكر على سبيل المثال بيلان مخترع البلانوجرام، وهو الجهاز المعروف باسمه الذي يستعمل لنقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، وهو الذي ترك لي بعض هذه الصور المنقولة بهذه الطريقة، والتي تمت في بدء نجاحه، وأذكر روبير بيروه مكتشف (البالون الكاشف) الذي منحني كثيراً من الصور الخاصة باختراعاته، والتي لا يصح أن تكون ملكا لي، بل يجب أن يستمتع بها كل قراء العربية.

ولعلي بهذا وذاك أكون ق وصلت مع القارئ إلى أحد أغراضي في أن يتتبع أحدث ما نعرفه في العلم ويقف على أعجب ما نعلمه من الاختراع، ويكون قد تعود ذهنه على تتبع مسائل تعد في الواقع من باب الموضوعات الصعبة، إلا أنها موضوعات أصبحت لازمة لإتمام حلقة المعرفة.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة