مجلة الرسالة/العدد 339/نميمة الأسلوب

مجلة الرسالة/العدد 339/نميمة الأسلوب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1940



(لكاتب من الكتاب)

(ينم عليه أسلوبه)

كنت أرسلت إلى مجلة الرسالة كلمة أُحاور بها قلبي، ولم أُذليها باسمي الصريح، وإنما اكتفيت بالإشارة إلى أني (كاتب من الكتاب) فرأيت صاحب (الرسالة) يضيف إلى هذا الرمز عبارة (ينم أسلوبه عليه)

فهل كُتِب عليّ أن أعيش فريسة النمائم فأنتقل من كرب إلى كرب إلى أن تدركني نميمة الأسلوب؟!

وأين المفر من مظالم النمائم إذا صح أني لن أنجو من نميمة قلمي؟. . .

إن الرجل لا ينمّ أسلوبه عليه إلا بعد أن يصبح (كاتباً من الكتاب) تُنصَب لرأيه الموازين، وأنا كاتب من الكتاب منذ أعوام طوال، فما الذي غنمتُ من براعة القلم ورشاقة الأسلوب؟

ما الذي غنمتُ وأنا أمتشق القلم منذ أكثر من خمس وعشرين سنة بعزيمة أقسى من الصخر وأصلب من الحديد؟

ماذا غنمت وقد كنت كاتباً وشاعراً قبل أن يولد فريق من الذين تؤذيني عندهم نميمةُ قلمي؟

وهل أستطيع أن أطمئن إلى أن قلمي سيشفع لي إن قلتُ إن صحبته أضرعتني وإني أحتاج إلى الراحة بضعة أسابيع؟

وهل للقلم دولة في هذه البلاد حتى نجعله وسيلةً إلى الراحة من بعض المتاعب؟

وكيف وما كانت متاعبي في دنياي إلا مكاره ساقها قلمي إلى قلبي؟

وهل يُراعي القراء ما نطوِّق به أعناقهم من ديون؟

لقد غنّيت أهل زماني أناشيد أيقظتُ بها في صدورهم من أحلام غافيات، وأحييت فيها ما في قلوبهم من مَوَات، فأين من يُسعدني بكلمة صدق أدفع بها عُدوان زماني، لأمضي على سجيتي في السجع والغناء، ولأضمن السلامة من نميمة الأسلوب؟

وأين في الدنيا كلها من يتوجع لمصير البلبل حين يسكته المرض أو الموت؟

احتجزني فلان في الطريق ساعة أو بعض الساعة وهو يحاورني في شؤون دقيقة من خصائص حيات الأدبية، فظننته - وهو من أهل الجاه - يحاول أن ينصفني من زماني. ث عرفت - وا أسفاه! - أنه يجمع المصادر لمقال يكتبه عني يوم أموت!

وفلان الذي صرح ألف مرة بأني شعلة من اللهب المقدَّس هو نفسه فلان الذي يرى اليوم أن أدبي من أعظم ذنوبي، وأن من الواجب أن أتوب!

أتوب؟ أتوب؟

أنا أحب أن أتوب من صحبة القلم، ولكن أين السبيل إلى المتاب؟ وهل يمكن ترك الصديق بسهولة، أيها الناس

أعطوني شيئاً من قدرتكم على نسيان حقوق الأصدقاء، لأتناسى حقوق قلمي!

علِّموني كيف أغدر وكيف أخون، لأستطيع التمرد على عقلي وبياني!. . .

خذوني إليكم، أيها الساخرون من صولة العلم والحق، لأخلُص من صحبة العلم والحق!

خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسي جاذبية البؤس في صحبة قلي وكتابي!

لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكثرني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنَتْ أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبريق الذي أزغتم به فؤادي؟

أين؟ أين؟

أتذكر الآن كتاب لامرتين عن سِفر أيوب

فقد صْرح بأن الدنيا لو دُكتْ صروحها وذهب ما فيها من روائع الفنون والآداب ولم يبق غير سِفر أيوب، لكان كافياً في تسجيل ما تعاني الإنسانية من معاطب وحتوف.

وهل عانى أيوب في زمانه بعض ما عانيت في زماني؟

أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين!

وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني!

وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنّان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان.

وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات وخوفاً من نميمة الأسلوب!!!

وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟ كان الدينار لعهد أيوب يُموِّن الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهد يهان فيه الرجل أن أكتفي بالدينار يوماً أو يومين، فمن يُسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟

وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف يشاء، وهي اليوم مقسمة تقسيماً يصدّ المجاهدين أعنف الصدود.

وكانت البحار لعهد أيوب مصادر خيرات، وهي اليوم مواقع ألغام ومسارب غواصات.

وكانت السماء لعهد أيوب مساقط غيث ومذاهب نسيم، وهي اليوم معارج طائرات ومصادر خطوب.

وكان النمام لعهد أيوب يؤلب عليه رجلاً أو رجلين أو بضعة رجال، لأن النمام لم يكن يملك غير سفاهة اللسان، أما النمام في هذا العهد فيستطيع أن يؤذيني بمقال في جريدة أو مجلة يقرأها ألوف أو ملايين، ويذهب شرها إلى من أعرف ومن أجهل في المشرق والمغرب.

وكان قوم أيوب يعدون بالألوف، أما قومي فيعدون بالملايين فبلواي بالخصومات أعرض من بلواه.

وكان لأيوب أعداء وأصدقاء، أما أنا، فلي أعداء وليس لي أصدقاء.

وكان أيوب نبياً تهابه الأرض وتؤيده السماء، أما أنا فكاتب من الكتاب تنفر منه الملائكة ويأتمر به الشياطين.

وصارت ثورة أيوب على بلاياه لحناً خالداً يُرتل في الكنائس والصوامع، أما ثورتي على زماني فستضاف إلى الأدب الحزين الذي لا يقام له ميزان.

ومع ذلك كان حزنه أهلاً للحمد، وصار حزني أهلاً للملام!

أيوب!

اسمع كلمتي، أيها الزميل في الأحزان!

إن النبوة عصمتْك من كيد الخاتلين والحاقدين، فلم نذق طعم الإيذاء في سبيل الحزن النبيل، والله الذي لم يولني شرف العصمة أولاني شرف إيذاء في سبيل الحزن النبيل.

فأين مكانك من مكاني، مع أني عبد مذنب وأنت نبيّ معصوم من الذنوب؟ كانت المدائن لعهدك لا تملك من المصابيح ما يشغل بصرك عن نجوم السماء، أما المدائن لعهدي فتعرف المصابيح في النهار قبل أن تعرفها في الليل، ومع ذلك لم تشغل بصري عن نجوم السماء

وكانت الدنيا لعهدك لا تعرف الضجيج، فكانت تملك الخلوة إلى خواطر قلبك

والدنيا لعهدي كلها ضجيج وأزيز وهدير، وأنا مع ذلك أخلو إلى قلبي وأدرس ما فيه من عناصر الوسواس والأحلام والأضاليل

فأن لقيت ربك وفي يمينك كتاب النبوة فسألقي ربي وفي يميني كتاب المحنة بوطني وزماني

فيا نبي الله، كيف تسبقني إلى رحمة الله وأنا أفقر أتليها منك، وأن كنت أحق بها مني؟

أيوب!

أنت تألمت وتوجعت لأن الوباء كان أغتال إبلك وغَنَمك فكيف ألام على التألم والتوجع وقد أهلك الطاعون أصدقائي وأحبابي؟

أيوب!

هل تعرف أني أملك من العزاء ما لم تكن تملك؟

فلو أنك قرأت تاريخ المسيح كما قرأتُ لخّفت مصيبتك وهانت بلواك

المسيحُ، يا أيوب، قد اكتوى بنار حامية هي غدر الصديق.

وقد صارت قُبلة يهوذا مثلاً سائراً في التاريخ، فهل تعرف كيف تكون القبلة شارة الحتف، وهي في الأصل لغة القلب؟

وأنا قرأت من تاريخ محمد ما لم تقرأ، يا أيوب، فقد لقي كثيراً من كيد المنافقين من الأصدقاء

فهل تظن مع هذه الشواهد أنك أجدر مني بالصدارة بين البائسين واليائسين؟

أنت على ما عانيتَ لم تعرف خيانة الصاحب ولا غدر الصديق، ولم تشهد كيف تُعدُّ حسناتك سيئات، ولم تقاس نمائم الأصحاب ولا (وشاية الأسلوب) ولعل الله كان رعاك فلم تر شخصاً تحسن إليه ويسئ إليك

فكيف تسبقني إلى رحمة الله، يا أيوب؟ خذ حظوظي كلها، يا أستاذي في الألم والوجيعة والحرمان، فأنا أحب أن أخرج من الدنيا بلا جزاء، لأستطيع القول بأني عانيت من البلاء ما لم يعان أيوب، عليه الصلوات!

وأنا مع هذا أعترف بأني ساعدت الزمان على نفسي، لأني تجاهلت أخلاق الزمان

وما الناس؟ وما الزمان؟

يكفي أن أصبح وأنا برغم الناس والزمان:

كاتب من الكتاب