مجلة الرسالة/العدد 340/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 340/رسالة العلم
قانون نيوتن الثالث
وارتباطه بحياتنا العامة
للأستاذ إبراهيم زكي أباظة
إن معظم القوانين الطبيعية التي وصلنا إليها كانت نتيجة تجارب جاءت إما عفواً، وإما استنتاجاً من قوانين أخرى سابقة. وكثيراً ما عد العلماء ورجال البحث أهمية القانون بتعقده وصعوبة الوصول إلى الحلول التي كشف عنها أكثر مما يلعبه من دور هام في مناح مختلفة من حياتنا العامة، سواء أكانت هذه النواحي مباشرة في ظهورها، أم غير مباشرة في تأثيرها. ولعل الشهرة التي يتمتع بها السر إسحاق نيوتن تتمركز في المكان الأول على قانون الجاذبية العام الذي وضعه، ثم ما تفرع عنه من مشاكل ومسائل طبيعية ورياضية جعلت صاحبه من أعظم الرياضيين.
ففي نفس الطريقة التي كشف بها قانون الجاذبية العام عن مظاهر طبيعية عدة، كان الإلمام بها يعد قديماً من عمل الخوارق. كذلك يمكننا بواسطة عدة تحاليل علمية ومنطقية أن نتوصل إلى أن قانون (نيوتن الثالث)، لا يترك ناحية من نواحي حياتنا إلا وله فيها تطبيق وعمل. وعلى مدى مرونة هذا القانون تبنى أهميته وتجعله في مقدمة القوانين العامة التي تشترك بها جميع العلوم.
ينص هذا القانون على أن لكل فعل رد فعل مساوياً له وفي عكس الاتجاه:
فإذا تكونت في جسم ما قوة من نوع (سالب) عندئذ وجب وجود قوة معاكسة ومساوية لها من نوع (موجب). فإذن وجود الواحدة يعني وجود الأخرى أو الاثنين. فإذا لاحظنا الأمور التي تجري أمامنا، وتبصرنا كل جسم وحيز، كل جماد وحي، وكل غاز وصلب، وجدناها تقع تحت مؤثرات تختلف باختلاف أنواعها ومصادرها. حتى الفكر والعلم والزمن وكل شيء معنوي تتجاذبه مؤثرات متعاكسة النوع تؤثر فيه حسب ناموس قديم متناسق تناسقاً منطقياً يستند على هذا القانون؛ وهذا هو التفسير الذي نبني عليه هذا البحث
فلو أراد شخص رفع ثقل عن الأرض كحجر بواسطة حبل فاقتلعه بقوة لانقطع الحبل، لأن قوة كبيرة تساوي القوة التي بذلها الرجل في الرفع قد وجدت في الحجر، ولكنها تسير مضادة للأولى، وهكذا تتكون قوتان متعاكستان في المفعول فينتج عن هذا التدافع العكسي تأثير على الحبل يتناسب مع حدة هاتين القوتين المتحاربتين فينقطع. ولكن لو رفع بلطف لما انقطع، لأن القوتين اللتين تعملان في اتجاه معاكس تخف وطأتهما على الحبل لدرجة يستطيع تحملها بعكس ما يحدث في الحالة الأولى
هذا مثل من أمثلة عديدة لها أهمية خطيرة في علم الطبيعيات. ولا أظن أن تطبيق هذا القانون في بقية العلوم إلا كاشفاً عن أسرار تساوي أخوتها في الطبيعيات إن لم تفقها.
لقد أثبت علم النفس أن الشرير مهما تمادى في شره، وأن المرأة الساقطة مهما تطرَّفت في انحطاطها، يُكِنان في فؤادهما من الروح الصالح والطينة الطيبة ما يمنع قطع الأمل من إصلاحهما. فكم من متهتكة عاهر أصبحت يوماً ما من أرق القلوب وأعطفها على المظلومين والضعفاء والمرضى، فذهبت تجعل ما بقي من حياتها وقفاً على مواساة المريض وإعانة الضعيف. فبمقتضى هذا القانون - وإن كان طبيعياً - نثبت أن المقدار أو النسبة المئوية من الخلق الشرير لا بد وأن يوجد مقدار مساو له تماماً، ولكن من الناحية المضادة، أي من الخلق الحسن المحمود. وأما تعليل تفوق عنصر على ضده فهو أن ظروف الحياة والبيئة ساعدت على نمو الواحد وعرقلت نمو الآخر بنفس الطريقة التي يبيد بها نوع من المكروبات إناثي حشرة ما، بينما يساعد على بقاء ذكورها، أو يقتل نوعاً من الحشرات ويبقى على نوع آخر. فإن امتد الأجل بذلك الشرير ضعفت العوامل التي ساعدت على تيقظ خصلة خلقية فيه وقتلت المضادة. عندئذ تسنح الفرصة لظهور الطرف الثاني من الكيان الخلقي الذي لبث دهراً مديداً طي الخفاء
ومما نلاحظه كثيراً وأثبته علم النبات أنك إذا بترت غصناً من شجرة فلا بد من ظهور طلع في مكان آخر من الشجرة: أي أن العضو الذي يُعاق نموه في مكان ما يسير اتجاه نشاطه إلى مكان آخر؛ وربما لم يصلح جذع الشجرة كله لظهور طلع جديد بدل المبتور، عندئذ نلاحظ أن طلعاً أو عدة طلوع برزت قرب الجذر. هذا في أغلب الحالات وفي بعضها تحول فاعلية العضو المبتور إلى عضو آخر فتزيد نشاطه مثلاً كأن تزيد نضرة الورق أو نضوج الفاكهة. ونفس النظرية يمكن تطبيقها في جسم الإنسان أو في أي جسم حي
هذه الأمثال من حيث الظواهر الطبيعية التي فسرت حسب هذا القانون. فنستنتج من ذلك أن كل جسم في الكون حياً كان أم جماداً يتكون من عنصرين: سالب وموجب. ففي الوقت الذي يسيطر فيه أحد العنصرين على الحالة القائمة في الجسم يختفي الثاني - ولكنه لا يزال موجوداً - فكأن نظام تسلط الفرد أو مجموعة من الأفراد التي هي عنصر واحد قائم حتى في خفايا التراكيب الكونية مهما تنوعت أصنافها. وهنا تتاح الفرصة للظروف أن تقرر سيادة أحد العنصرين واختفاء الآخر مؤقتاً - كما في الأخلاق - مع أن توازن الجسم لا يتوفر إلا بوجودهما معاً وإن نشط الواحد وفتر الآخر
ففي المثل الأول من مقالنا قلنا إن رفع الحبل بعنف أو بلطف سبب الحالة التي قررنا. فهنالك قوتان تسيران متعاكستين في الحبل وجدتا وتركزتا فيه عندما تم فتله. وهاتان القوتان متساويتان في الجذب؛ وبهذا نعلل كون الحبل لا يتحرك أو لا يتحرك في حالة عدم وقوعه تحت مؤثرات خارجية، فتبقى القوتان ساكنتين، حتى يجيء باعث أو محرك خارجي فيثيرهما ويجعل لواحدة السيطرة على الأخرى. ففي حالة هذا الحبل سيطرت القوة المعاكسة لثقل الوطأة فقطع، وبالتالي سيطرت القوة الأساسية التي بذلها الرافع فلم ينقطع. فالسالب والموجب إذن موجودان في أي كيان لا يلزمه سوى باعث يثير الواحدة على الأخرى والنصر يعتمد على شدة هذا الباعث أو المحرك
وهنا نظفر بحقيقة في علم الأخلاق على جانب من الخطورة عظيم، إذ يمكننا تحت ضوئها أن نصلح أي خلق شاذ في أي شخص إذا فهمنا روح النظرية وسرنا في تطبيقها بخطوات منطقية متوازنة. فإذا فرضنا أن شخصاً مصاب بعادة الحياء أو الخوف أو الاستكانة، فما علينا إلا أن نعمل على إيجاد الظروف والمناسبات التي تكثر فيها الحوادث التي يعاوده في أثنائها مفعول استحيائه أو خوفه مع الاستعانة في تنبيه فكره بواسطة غير مباشرة إلى ملاحظة ما يترتب على عمله، ولتكن هذه المصادفات متتابعة متلاحقة - ولكن بشرط إعطائه الوقت الكافي للتأمل في أعماله - بحيث يتركز مفعولها وأثره. فما من شك مطلقاً في أن صفة خلقية معاكسة تنشأ وتترعرع حالاً بقوة وتطرف موازيين للقوة والتطرف في الحالة الأولى أي في حالة وجود الاستحياء والخوف، فتنشأ الجرأة بدل الأول والشجاعة بدل الثاني
واستناداً إلى تفسير هذا القانون والنظرية العملية التي استخلصت منه يصبح في مقدورنا التنبؤ بعدة نظريات وآراء علمية عديدة منها ما ظهر وبرهن على وجوده في العلم الذي يتعلق به، ومنها ما يمكن التنبؤ به استناداً إلى هذا القانون، إذا تحرينا في استنتاجاتنا الخطوات المنطقية. ومن النظريات التي تنبئ بها على ضوء هذا القانون - طبعاً بصورة غير مباشرة - نظرية تركيب الذرة ففي الوقت الذي عرفت فيه بواسطة التفاعلات الكيميائية بين المركبات من نوعي الكهارب التي تسير في مداراتها حول نواة الذرة وهذه ما تسمى بالـ عندئذ - عرف وجود البروتون لأن الكهارب هي الشحنات السالبة والبروتونات هي الشحنات الموجبة ووجدت هذه الشحنات المختلفة بنسب متساوية تماماً في الذريرة
وهنالك من الأحياء في الطبقات الدنيا ما لا يزيد تركيبه على خلية واحدة تقوم في نفس الوقت بجميع عمليات الجسم الضرورية كالهضم والتنفس والإفرازات، ومن هذه الحيوانات الـ والـ فلو تصورنا وجود هذه الحيوانات ذوات الخلية الواحدة في أقصى طرف من عمود خشبي يستدق في طرف ويتدرج في الغلظ وتخيلنا هذه الحيوانات الدنيا كأنها تشكل نهاية الطرف المستدق فلا بد إذن من وجود حيوانات تقابل هذه على الطرف الآخر من العمود، وأنها تكون نهاية في الغلظ لوجدنا أنه يتحتم وجود حيوان متناه في قوته وجرمه فائق في دقة تراكيبه الجسمية ووظائف الأعضاء فتكون قوته وحجمه متطرفين بل متناهيين في التطرف بالقدر الذي تكون فيه الأميبا متناهية في الضعف والتلاشي ودقة الحجم. فلو احتجنا إلى مكرسكوب قوي لمشاهدة الأميبا بما فيها من تراكيب غاية في البساطة، لأمكننا أن نتصور بل نتأكد من وجود حيوان كبير جداً يعجز نظرنا عن الإحاطة بجرمه إلا إذا ذهبنا لمسافة بعيدة حيث نتمكن من رؤيته كله. ولهذه الحقيقة ما يؤيدها تاريخياً وهو وجود حيوان يسمى بالدينصور الذي زعم المؤرخون أنه كان هائل الجسم والبطش إلا أنه أنقرض بفعل الثلج في العصور الجليدية. وكذلك الحيوان الذي يقال بوجوده أيضاً ويسمى بالتراخودن من فصيلة الدينصور، ويقدرون قوته وسرعته بأنه يقطع مسافة سبعة أميال بخطوة واحدة من خطاه. وفي البحار ما يقارب هذه الحيوانات كالحيتان، فمنها ما يقابل - تقريباً - في الكبر الأميبا في الصغر
ولا شك أن الحيوان الذي يتمم هذا التقابل قد وجد ورتع يوماً ما على ظهر الأرض وسوف يكشف عنه العلم والتاريخ يوماً ما.
هذه حقائق يمكن أن نتلمسها بالفكر والنظر البعيد. كما أنه من الممكن بهذا القانون التنبؤ بنظريات واقعية تجري مبادئها مجرى العمل في كل مضمار من مضامير العلم. واعتقد اعتقاداً راسخاً أن العلم السائر دوماً إلى الأمام سوف يبرهن عليها بقوانينه وحسابه وملاحظاته وتجاربه إن لم يكف قانون نيوتن الثالث للبرهنة عليها بصورة حاسمة
كما لا شك في أن ما نجده من تناقض واختلاف - حسب ما نعتقده - سواء في مجرى الأحداث الطبيعية أو شتى شؤون الحياة المتنوعة أو طباع الناس وأخلاقهم، لا نجد له تعليلاً منطقياً غير الرجوع إلى هذا القانون. ولو نجحنا في بعض الأحيان في إيجاد تعليل إلا أن المصدر الأعلى الشامل لتعليل جميع ما نرى من متناقضات وأضداد في مجرى الطبيعة والحياة اليومية وسير التاريخ العام هو هذا القانون الخالد ما خلد صاحبه
(نابلس)
إبراهيم زكي أباظة