مجلة الرسالة/العدد 340/من الأدب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 340/من الأدب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1940



هكذا تكلم بَرَدَى!

للأستاذ علي الطنطاوي

تفتحت أبواب السماء بغيث منهمر استمر ليلة من (تلك) الليالي طولها عشرة آلاف سنة، فأغرق البحر وابتلع البر، ومدْ أصابعه من خلال التراب وادخلها من شقوق الأرض حتى بلغ (بردى) وهو (جنين) في بطن أمه الأرض، تطيف به أحشاء لينة من جَلمَد الصخر، تحنو عليه وتغذيه، فغمره بالماء حتى ضاق به مكانه، وامتد البلل إلى عظامه فخرج. . .

وكانت الشمس قد طلعت على الأرض بعد (تلك) الليلة تمنحها الدفء وتغمرها بالنور، و (تحدّد) فيها مملكة البر والبحر بعد أن كانت بحراً كلها؛ فوقف (الوليد) ينظر مشدوهاً فيرى سهلاً أفيح جميلاً تحيط به جبال يتهن شبابا ويمس جمالاً، ولكنه عارٍ اجرد، فآلمه عريه وتجرّده، وود لو سعى في أرجائه يزرع فيه الحياة ويضع في تلك السفوح (بذور) المدن والقرى. ولكنه كان ضعيفاً (فلم يستطع أن يمشي)، وتصرم النهار وهو جاثم مكانه لا هو قادر على الرجوع إلى بطن أمه، ولا هو قادر على السير، وأوحشه سكون الليل وظلامه، ولم يعطف عليه الجبل ولا سامره السهل، فلبث وحيداً حتى جاءت فتاة من بنات (الدَّلْب) كانت قد سمعت به فأحبت أن تراه، فلما أبصرته عشقته وحنت عليه، وأضجعته على ركبتيها (تهمس) في أذنيه، أحاديث المدن البعيدة الحلوة والأودية المسحورة. . . حتى نام!

ومرت أيام نما فيها الوليد، فغدا (صبيا) يمشي في السهل، ثم شب فصار (فتى) قويَّا، (يعدو) نحو الوادي عدواً. . .

راع ظهوره أهل تلك الديار فأعرضوا عنه بادي الرأي، ثم مالوا إليه فأحبوه، واتخذوا مولده عيداً، فنشر له السهل أعلامه الخضر، وجمع له باقات الزهر، وفرش له الجبل سفوحه، وزّينها بالورد، وملكوه عليهم. . .

وكان (بردى) الشاب، طموحاً عالي الهمة، فلم يقنع بملك ذلك السهل، سهل الزبداني، ولم يكفه أن خضعت له جبال مضايا وبلدون، وأبى إلا أن يخرج فاتحاً لا يقف حتى يملك الوادي كله، فحشد عسكره، ودخل الوادي بطبوله وراياته يثب على الصخر وثباً، ينشد أنشودته (الهادرة)، ولم يكن في الوادي إلا أميرات صغيرات، ملكهن صخرة يخرج تحتها، وساقية يجرين فيها، فلم يلبثن أن بايعنه وخضعن له، واندمجن في جيشه، وسمعت الأشجار بمسيره فقامت على طريقه صفين تحييه و (تصفق) له

حتى إذا أقترب من (الفيجة) جاءه رائده فقال له: قف، فإن ههنا ملكة جبارة عرشها صخرة هائلة، وجيوشها تملأ الوادي وتمتد إلى أبواب المدينة الأبدية الأزلية التي كانت من قبل، وستبقى بعد المدائن كلها: دمشق!

(فقهقه) بردى ضاحكا من حماقة رائده. أي مدينة وجدت من قبله؟ وأي شيء يعرف القدم والبقاء إلا الله القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء؟ ثم زمجروا أقسم لئن وجد تلك المدينة قائمة من قبله ليدكنها دكا. وإن وجدها تنتظره ليجعلنها بإذن الله سيدة مدن الأرض وأمها ووارثتها. أما تلك الملكة فليحطمنّ عرشها، ويبددن جندها. . .

وتقابل البطلان بردى (الأسمر) القوي (سلطان الزبداني) الغازي الفاتح، والفيجة (البيضاء) الفتانة (ملكة الوادي) واصطف الجيشان هذا من هنا، وهذا من هناك لا يختلطان. ثم أقبلا فاصطرعا. فغلبت رجولة بردى وخضعت له الفيجة وسارت تحت ركابه ذليلة صاغرة، وهي أعزّ منه جنداً، وأسمى نسباً، وأكرم عنصراً

ومشى يجول في الوادي ويصول، ويملأ أرجائه بنشيده الحماسي المرعد

لم يجاوز إلا قليلاً حتى قابل أميرة صغيرة تخطر على السفح الجميل، وفي (عينيها الخضراء) صفاء وفيها وداعة ولها سحر، كأن الناظر إليها يشرب منها خمراً، تلقي أغنيتها بصوت ناعم حالم. كأنه همس القلب في أذن الطيف الحبيب. فأصغى إليها الجبل الأصمّ، ومال من الحنو عليها، وعانقتها الشمس. فلما اضطرت إلى فراقها أحمر جفناها من كثرة البكاء. فذابت من حرارة الوجد قلوب (الثلج) وسالت مدامعها على خدود الجبال فاخضرت منها السفوح، فمن ذلك سميت (الخضراء). ثم لما عادت الشمس بسم الوادي، فمن ذلك سمى وادي (بسيمة) وكان لهذه الفتاة أم وصتها حين ألقتها في لجة الحياة أن تحترس من النهر، وتحذر أن (يخطفها) ثم (يبتلعها) فإنه شاب غدار طياش. . .

لما أحس بها بردى صرخ مختالاً: كم هذا الذي جرؤ على أن يمشي معي في الوادي، وينتزع مني مجدي، وتبسم له الشمس من دوني، وتحنو عليه وتسمع نشيده الصخور الصم ولا تميل عليّ ولا تصغي لنشيدي؟. . .

فلما أبصرها شغفته حباً، ودلهّته غراماً، فعمد إليها ليخطفها، فقامت دونها الصخور ووقفت تحميها (الدلبة) العظيمة التي تعيش هناك، وتلوح بأذرعها مهددّة، فعجز عنها. وأنى له الوصول إليها وهي نائمة في حضن الجبل ومملكته لا تتجاوز الوادي. . . فحطم الحب كبرياءه، وما أجل ما يفعل الحبّ! فتطامن ومشى ذليلاً. فلما رأته فتنته بصمته، وحرْك قلبها بأحزانه فمالت إليه، وشغفت (ببيرق) عينيه وقوته وشبابه، فنسيت وصاة أمها، وتمنّت لو نامت على ذراعيه. فلما جرّبت ذلك حملها وطار بها إلى دمشق

ومر على بردى نصف مليون من السنين، وهو السيد المطلق، يجري حراً أبياً، لا يقف في وجهه شيء، حتى يجوز بدمشق، ثم يذهب فيستريح في (العُتيبَة). . . ثم ظهر الإنسان على الأرض، وظهر بردى على الطبيعة، فويل له من للإنسان!

وفي ذات صباح جاءه طائر يلهث عطشاً. فلما سقاه أحب الطائر أن يجزيه خيراً، فخبره أنه رأى هناك في الرمال المحرقة التي تملأ (الجنوب) أمة من الناس، يمشون في طلب الماء. وقال له: إني أخاف عليك منهم، فهم من أهل الجزيرة التي لا تغلب. من العرب. إنهم بنو الشمس، بنو الصحاري، بنو الموت، أفتظن أن الموت يمس أبناءه؟

فضحك بردى وصرفه بسلام!

ووصل أول رجل من القافلة، وكان من أهل (الجزيرة). وهل خرج إلى الدنيا في فجر الحياة غيرهم؟ فلما رآه صاح باخوته أن تعالوا انظروا كم يحمل من ماء الحياة ونحن هالكون عطشاً. فاقبضوا عليه كي لا يفلت من أيدينا. ضعوا له الحواجز في طريقه كيلا يهرب. . .

وأراد أن يضربهم ضربة واحدة فيهلكهم فلم يقدر عليهم. وقدروا هم عليه فأحس أن نجمه قد شرع في الأفول. . . عطلوه عن سيره، وغلبوه على أمره، ثم صنعوا معه صنع كل عدو غالب. فرّقوا جماعته، وجعلوا أمته الواحدة أمماً سبعاً، فبعد أن كان كله بردى صار بردى ويزيد وتورا وبأناس والقنوات والديراني والقناة، ثوّروا عليه أبناءه حتى استقلوا عنه واعتصموا منه بأكناف الجبلين. . . ثم سلبوه الفيجة واستاقوها (مقيدة بالحديد) إلى دمشق. . .

ولقد غضب بردى مراراً وهاج، فكان يهجم على المنازل وساكنيها، فيشردهم شذر مذر، ولا يبقى منها حجراً على حجر، ويحسب أنه انتهى منهم، فإذا هم يلدون غير من مات، ويبنون غير ما إنهدم. . . فكل وأيس. . . وأحس أنه صار شيخاً!

ووقفت على بردى وهو يمشي في (المرجة) رحبة دمشق تحت قصر أمية مشية الشيخ العاجز المتهافت، فقلت له: هيه. . . مالك؟ تعًبت؟ أو قد شِخت؟

قال: دعني يا غلام، فإني أساير الأيام، فلما كانت مقبلة جادة كنت أقبل معها عدواً، فلما توْلت وهزلت. . . تولّيت. .

ومالي لا أني، وقد باد مجدي، وساء جدي؟ ألا يا ليتني ما عرفت الإنسان!

وسكت لحظة، ولاحت على خدّه دمعة تجري مع الماء، ثم قال: على أني رأيت والله ناساً كراماً. . . أجّلوني وعرفوا قدري، وكنت أمرّ بين أيديهم مر الرحيق السلسل. . . وكنت أمشي في الرياض على فتيت المسك، وأنام على غناء، وأصبح على شعر، واضحي على كرم ومجد ونبل. . . فأين أنت يا قصر البريص

وأين أولئك الذين كانوا لباب البشرية، وكانوا مثلها العليا مجسّمة، أولئك المسلمون الذين شادوا مجداً جدع أنف الدهر؟ أين ذلك الرجل الذي مرّ عليّ يوماً وكنت أمشي في الربوة على باب دمشق في الموضع الذي امتلأ هواؤه بجراثيم ذلك المرض الفظيع، فلا مر به أحد إلا أصيب به، المرض الذي يسمونه الحب فلا يذهب إلى الربوة من كان يخاف الحب، لأنه لا يرى هذا الجمال إلا تفتّح له قلبه، فذهب يفتش عمن يحب. . . مرّ عليّ ذلك الرجل العظيم، فرأى الأغنياء لهم في الربوة قصور ومنازل، والفقراء ما لهم إلا حجارة الجبل وحصى الوادي، فلم ينصرف حتى أقام لهم متنزهاّ ما رأى الناس مثله، يجري تحته (تورا)، ويجري فوقه (يزيد)، وهو بينهما جنّة، فيهما ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فإن اشتهوا تمراً مدوا إليه أيديهم، وإن اشتهوا لحماً ناولته السمك حياً، فنقلوه من الماء إلى المقلاة، وإن أرادوا لذة العين وجدوا ما لا مزيد عليه في دار الدنيا، وعند الله في الآخرة مزيد. . .

فأين أولئك الناس، وأين اليوم أمثالهم؟

وسكت بردى هنيَّهة، ثم رجع يقول. . .

لقد شاقتني أمس تلك القصور وهاتيك المنازل، وقد سدّوا إليها الموارد، وأقفلوا الأبواب، (فانسللت) من شقوق الأرض حتى بلغت قاعة في الدار العظيمة، دار القوتللي، التي ترى عرصاتها من (منارة العروس) إذا أنت صعدت إليها، ونظرت إلى ما تحتك إلى شمال، وراء قبر الملك الظاهر، ترى عرصاتها فتحسبها حيّا كاملاً، أو أطلال قرية كانت هناك. . . دخلت القاعة فيا أسفي، ماذا وجدت. . .

لا الروض باقٍ ولا أهلوه باقونا. . . ذوى الزهر، وجف الماء، وصارت البرك حفراً قاحلة، وقد كانت تضحك فيها أوانس الماء متراقصة ضحك الحياة في هذه الدار. . . وتعرت الجدران، وقد كانت نقوشها ومُقَرنَصاتها آية في مصحف الفن. . .

اللهم إني استغفرك - ولم يبق من ذلك (الصيني) الذي يملأ (الكبيَّات) والرفوف إلا قطع غاصت في التراب فبدت منها أطرافها، ولا من السجاد الثمين إلا خيوط الله أعلم كم بللتها الأمطار، وكم جففتها الشمس، حتى غدت وليس لها لون يعرف. والرخام الأبيض الذي كان كالمرايا. . . والأشجار والأوراد. . .

لقد انصرف الدمشقيون عن هذه الدور التي كانت مصدر الفن العمراني الأندلسي، منها أخذ وعنها نقل، وكرهوا هذه الجنان، واتبعوا الإفرنج إلى (جحر الضب. . . فآثروا عليها هذه الصناديق المغلقة التي يسمونها دوراً. فمن يفهمهم أنهم يخطئون، وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بالبقية الباقية من دور دمشق القديمة، قبل أن تهدمها حماقة المالكين، وفتنتهم بتقليد الغربيين؟

ومتى يعلمون أن أوربة ليست أرقى منا في عادات ولا دين، ولكنها أرقى في الصناعات. فيا ويح القردة المقلدين لقد ذهبوا يدرسون العربية، حتى العربية لغتنا، ذهبوا يدرسونها في باريز!

(قال): ودخلت تلك البركة التي طالما شهدت فيها أعراس الحياة أتذكر، فرآني خادم هرم، فصاح بابنه أن تعال أخرج هذا الماء الآسن من هنا. . .

ماء آسن؟ أنا آسن؟ يا ويحكم. أما كنت طاهراً نقياً أسير في الوادي كما خلقني الله؟ أما أكرمني من كان قبلكم، ورفعوني بالنوافير على الرؤوس، وكانوا يتقون الله فيَّ فلا يمسوني بأذى؟ ويلكم اينا الآسن يا ذوي النفوس الآسنة؟ كنت أصافح من أجدادكم عند الوضوء وجوهاً مشرقة نورانية وأيدياً طاهرة معطرة فصرت لا أرى منكم إلا السوء. دنستموني وآذيتموني، وألقيتم عليَّ أو ضاركم، وتدَّعون أنكم في عهد النور، وأن عهد أولئك كان عهد ظلام. . .

أعهد ظلام كان، وقد سطع فيه من عندكم نور العلم حتى ملأ الدنيا، وامتد في شعاع الفضيلة حتى أضاء غياهب القلوب فبدد ظلمة الشهوات؟ ورفرفت فيه الراية - رايتكم على نصف المعمور من الأرض - ولو اجتزتم نهراً عرضه خمسون متراً، ولو أخر الله موت عبد الرحمن ساعتين، لرفرفت على النصف الآخر، ولنجا العالم من وحشية الشُّقر الآريين الذين الذين يدعون كذباً أنهم أفضل منكم. دعوى إبليس حين قال: (أنا خير منه)!

لقد هدمنا مجدنا بأيدينا، وأعنَّا عدونا على أنفسنا، فذللنا حين انقسمنا، وأضعنا كل شيء حين ذللنا. أفلا يقظة بعد هذا النوم؟ ألا نظرة بعد هذا العمى؟ ألا زعيم مصلح حقَّا يرجع الناس إلى الجادة التي ضلوا عنها، إلى كتال الله وسنة نبيه، ويخلصهم من بليتين: من إلحاد المتفرجين، ومن شعوذة أصحاب الطرق الحشْويين الجاهلين؟

اللهم تباركت ربنا، لك الملك ولك الأمر، ولا شكاة إلا إليك ولا خير إلا منك. اللهم ما شخت ولا أصابني الونى، ولكن أمرضتني الأقذار التي ألقوها عليّ وهذه البنى المنتنة التي أنشئوها على جوانبي: كعبات الشيطان: تريانون وأولمبيا والليدو وبناية الروكسي (السينما وما فوقها. . .)!

وسكت بردى، وعاد يمشي مشية الشيخ العاجز حزيناً متألماً!

هكذا تكلم الشيخ بردى. . .!

(دمشق)

علي الطنطاوي