مجلة الرسالة/العدد 341/الأدب في سير أعلامه

مجلة الرسالة/العدد 341/الأدب في سير أعلامه

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940



بيرون

(ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى

الموت في سبيل الحرية)

للأستاذ محمود الخفيف

أرسل جروج بيرون إلى مدرسة صغيرة في أبردين وهو دون الخامسة، ولكن أمه لم تطمئن إلى تعليمه فيها فعهدت إلى أستاذين بتعليمه في المنزل إلى جانب المدرسة وقد حبب إليه إحداهما التاريخ وعلى الأخص تاريخ الرومان، فراح يقرأ منه في غير ملل، وعلمه الآخر اللاتينية، بينما أخذ يوحي إليه مبادئه الكلفنية، والطفل يستمع إليه في ذلك مندهشاً متحيراً يتساءل في صمت كيف يقدر الشقاء على قوم قبل مولدهم، وما جريرتهم حتى يشقون وأي فرق بينهم وبين الذي قدرت عليهم السعادة؟ ويستمع الصبي إلى مثل هذا في حديثه مع خادمته ماري، حينما يسألها وهي تتلو الإنجيل قائلاً: وما ذنب قابيل قبل أن يقتل أخاه؟ ويضيق حين تجيبه أنه قدر عليه الشقاء، فيقول في غضب: وكيف يسأل عن جريمته إذاً؟ على أنه يطرب للغة الإنجيل وإن لم يفهم أكثرها ويهتز قلبه لما يتخيله عقله الصغير من صوره

والصبي قوى الخيال يصور له خياله كل شيء ويلازمه ما يتخيل أينما ذهب، وكانت صورة الشيطان الذي طالما حدثته عنه ماري تتملك لبه وتصحبه في الغداة والعشي، فإذا ترك في مخدعه وحده نفت النوم عينيه صورة الشيطان حتى لتمتلئ الغرفة حوله بالأشباح، وإذا أطل من نافذته وجد المقبرة القريبة منه ملأى بالشياطين من كل هيئة ومن كل طول وهي تتعابث وتتراقص

ويستمع الصبي أيضاً إلى أحاديث أمه وخادمته عن أجداده لأمه وأجداده لأبيه وكيف قرنت بالشر أيامهم فيعزو ذلك إلى أنه قد قدر عليهم الشقاء من قبل فكانوا من حزب الشيطان كما كان قابيل من حزب الشيطان، ويخاف الصبي أشد الخوف أن يكون نصيبه من الحياة مثل نصيب هؤلاء وهو يرى من أثر الشيطان في خلق أمه ما يرى ثم يرى منه في نفسه ذلك العرج الذي أزداد ألمه منه حينما بلغ السابعة

ويعرف الصبي في المدرسة بحدة ذكائه بقدر ما يعرف بإهماله وانصرافه عن دروسه، ويسمع منه معلموه عبارات يبدو بها أكبر من سنه ويدهشهم منه قراءته الخارجية التي لن يبلغ نصيبه منها عشرة من أقرانه مجتمعين، وكان شغفه بالشرق عظيماً فقرأ قصص ألف ليلة وليلة وألم بقدر كبير من تاريخ أمم الشرق، وفي مقدمتهم الترك، كانت أمه على قصر ذات يدها لا تضن عليه بما يطلب من الكتب، فكان يعد ذلك من أكبر حسناتها إن كان ثمة لها غير هذه من الحسنات

وعرف شاعر الغد بحدة عاطفته وتمرده على القوانين والأوضاع الرتيبة، وعرف كذلك باستعداده للنضال والهجوم إذا استفزه إلى ذلك أحد. عاد إلى منزله ذات يوم يلهث وفي وجهه آثار معركة، فأجاب على تساؤل خادمته عن هذا بأنه تربص بغلام كان أهانه فتوعده حتى وقع عليه في الطريق فأذاقه من بطشه وأتم حديثه قائلاً: (وكيف لا انفذ ما توعدته به؟ ألست بيروني النسب)؟

واستقرت في أعماق نفسه الصغيرة مناظر اسكتلندرة برواسيها الشامخات التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض قممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض فقممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام الهائلة تهز نفسه وتستميله أكثر مما تفعل الزهور والرياض وأشباهها من مناظر الطبيعة الهادئة الوديعة. . .

وتفتح قلب الصبي للحب وهو في الثامنة، فقد رأى في إحدى جولاته مع أمه ابنة أحد الفلاحين فأحبها حتى ما يطيق أن يفارقها؛ ولما فارقها على رغمه كانت تجيش نفسه وهو في تلك السن بمعاني الوجد والحنين. . . على أنه ما لبث وهو في التاسعة أن هام بابنة عم له هياماً استأثر بلبه، فما يفكر إلا فيها وما يرى حسناً يقاس إلى حسنها، وإنه ليحس إذا جالسها بما يملأ قلبه من معاني الوداعة واللين واللطف حتى لينسى عنفه وحدته أتم النسيان، ولا يزعجه إلا خجله من عرجه، وكم يتمنى أن لم تكن العاهة التي يعظم خجله منها أمام ابنة عمه ماري أكثر مما يعظم تلقاء غيرها من الناس. . .

وكانت أمه توقن في قرارة نفسها أن أبنها سيكون رجلاً عظيماً في غده. ولعل مرد ذلك ما تتمناه الأمهات عادة لأبنائهن، ولعل مرده إلى ما أخذته من عرافة ريفية نبأتها بما سيكون له من خطر في غده. وها هي ذي الأيام توشك أن تحقق جانباً من نبوءة العرافة، فلقد كان للورد الخامس في الأسرة وهو شقيق جده حفيد هو الذي يرث اللقب من بعده فمات هذا الحفيد عام 1794 فلم يبق بين الطفل واللقب إلا أن يموت ذلك اللورد الشيخ، وما لبث أن مات ذلك الشيخ بعد ذلك بنحو أربعة أعوام، فانتقل لقب الأسرة الوراثي إلى الطفل وهو في العاشرة.

وفرحت أمه أشد الفرح ولكن الطفل يتجه إلى المرآة ويسأل أمه عما إذا كانت ترى فيه فرقاً بين يومه أمسه لأنه لا يرى شيئاً من ذلك.

ولكن هذا اللقب سوف يكون عظيم الأثر في حياة شاعر الغد وموقف المجتمع منه، إذ سيكون من أهم ما توافي له من أسباب الإعجاب به وذهاب صيته في الأوساط جميعاً

وتأهبت أمه لتذهب به من أبردين إلى حيث يستلم ما ورثه مع لقبه الجديد من ثروة، وكان الصبي يومئذ في سنته الحادية عشرة، ولقد عز عليه أن يغادر أبردين فيبتعد عن ابنة عمه ماري التي أحبها ذلك الحب الشديد وعن مناظر أسكتلندرة، ويحرم مما باتت توحيه إليه شواهقها ووديانها، تلك الشواهق التي ألف تسلق جوانبها على الرغم من عاهته والتي زلت قدماه على سفح من سفوحها ذات يوم حتى أشرف على الموت لولا أن تداركه بعض من كان معه، فلم يزده ذلك إلا تعلقاً بها وأقداماً على معاودة تسلقها

ورحلت الأم وولدها وخادمتهما، وأحس الصبي أنه ينتزع نفسه من ملاعب طفولته انتزاعاً، ولقد استقرت في نفسه مناظرها وطيوفها، وما أعظم ما سيكون لهاتيك الطيوف في غد من الأثر في شعره وخياله

وانتهى بهم السير في نيوستد وحطوا رحالهم في مهد الأسرة العتيق، في ذلك القصر الذي أفنت جدره العتيدة السنين الطوال. ولشد ما أحبه الصبي وآنس في هيكله وأبهائه وحجراته أحلاماً جديدة أضافها إلى سالف أحلامه. . . وأقبل على الخدم يسألهم عما تقع عليه عيناه وعلى الأخص عن تلك الصور المعلقة على الجدران. . . فهذه صورة اللورد التعس الذي ورث عنه الصبي ما ورث، وتلك صورة أحد أجداده الذي أبلى أحسن البلاء في الحروب الصليبية ومات في الأرض المقدسة، وهذه. . . وهذه. . . والصبي معجب بذلك كله إعجاباً شديداً وإنه ليزهى أشد الزهو بأنه اللورد الجديد الذي آل إليه ذلك القصر وما فيه جميعاً. وغرس الصبي بيده شجرة هناك لتكون ذكرى له

على أن ذلك القصر لم يعد يصلح للسكنى بسبب ما أصابه من التخريب أيام ذلك اللورد التعس، ولم يك لدى أم الصبي ما يتطلب إصلاحه من المال، ولذلك لم تلبث أن تركته وأبنها إلى مدينة نوتنجهام. . . واعتلج في نفس اللورد الصغير الألم لفراق قصره السحري، الذي أمل أن يتسلى به عن ماري دف وقد شف قلبه الوجد لبعده عنها. ولقد كان عجيباً أن يحبها مثل هذا الحب في التاسعة وأن يأسى على فراقها هذا الأسى وهو بعد لم يتجاوز الحادية عشرة، ويذهب بعض علماء النفس إلى أن مثل هذه العاطفة الباكرة بشير بنبوغ صاحبها غداً في مجال الفن؛ ويروي عن دانتي أحد شعراء الدنيا الأفذاذ أن قلبه الغض نبض بحب بياتريس وهو لا يزال في التاسعة من عمرة.

(يتبع)

الخفيف