مجلة الرسالة/العدد 341/ذريني. . .!

مجلة الرسالة/العدد 341/ذريني. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940



للأستاذ كامل محمود حبيب

(. . . ورأيت النار فلم أر منظر كاليوم قط أفظع، ورأيت

أكثر أهلها من النساء). قيل: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن).

قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو

أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأيت منك شيئاً؛ قالت: ما

رأيت منك خيراً قط)

حديث شريف

ذريني أطِر بين فلجأت الأرض ومضّلات السماء، أستشف بهاء الحياة وجمالها!

ذريني أحطم الأغلال الثقال التي أرسف فيها، لأفر من هذا السجن الأسود، أتنسم روح الحياة والحرية!

ذريني أنحلل من هذا العبء الفادح، فلقد آدنى، فما عدت أطيقه!. . .

ذريني أر الدنيا، فلقد وجدت فقدها بين طيّات نفسي الوثّابة!

يا عجباً! لقد جفّ قلبي وذوت سعادتي!

فهذا هو القمر يتألق في السماء، والأرض نائمة في سكون، وأنا أرمقه من خلال همومي، فلا أحس فيه الجمال ولا المتعة. . .

وتنفّس الفجر، فما لمست في نسماته النديّة بَرْدَ الراحة ولا نشوة اللذة. . .

وافترّ ثغر المشرق عن ابسامة الشمس، وأنا - وحدي - جاثم على نشز لا أستبشر لبسماتها. . .

وإن الروض ليضحك، فما أرى في ضحكاته سوى فنون من الكآبة والحزن. . .

وإن الغدير ليعزف على قيثارة لحن الخلود الشجي، فما تتطرب له نفسي. . .

يا عجباً! أفكل هذا لأنك - أيتها المرأة - إلى جانبي تنفثين فيّ روح الشر؟

أيتها المرأة، لطالما فوّقت إلى قلبي سهامك المراشة، فاضطرم بالهوى وتلهب بالشوق والآن ها هو ذا قد شاط بينها فما عاد قلباً، ولكن مضغة لا تتحرك.

ولطالما سهرتُ أُناجيك - وأنتِ في منأى عني - والآن هدّني الإعياء؛ فذريني أقذف بأعبائي جانباً، لأتوسّد ذراعي على الحصا، في ظلال شجرة وارفة، إلى جانب غدير، تسكرني نسمات الربيع الهينة، فتستمتع نفسي بحنان الطبيعة وهدوء الكرى

ولطالما أوحى أليّ شيطاني أنك أنت فوق البشرية، أنك بسمة الخالق على الأرض الحزينة، فماذا. . . ماذا رأيتُ الآن؟

ولطالما استلهمتُ منك جمال الفن، ورسمتك بريشة الخيال في أضعاف قلبي، ثم لمستكِ، فماذا. . . ماذا وجدتُ؟

أفحقاً أنكِ أنتِ مادة الشاعر حين يتغنى بكلمات تتدفق النشوة واللذة من خلالها؟

أفحقاً أنكِ أنت ريشة المصور التي تعبث بالألوان فإذا هي حياة؟

أفحقاً أنكِ أنتِ لحن الموسيقى السماوي حين يُداعب أوتار قيثارة فتتحدث عن خلجات القلوب؟

أفحقاً أنكِ أنتِ لمعة الحياة إن شمل الكون ظلام الموت؟

كلا. . . كلا! إنه هو خيال الرجل يُضفيه عليك - حيناً بعد حين - فيبعث فيك الكبرياء البغيضة، ويسمو بك إلى آفاقه هو، في حين أنك أنتِ. . .

كان هذا خيالي حين استهوتني شياطينك فتمنيتُ. . . ولما خبرتك فزعتُ عنك، لا أطمع في حديث، ولا أرنو إلى لقيا

ليت هذا الرجل يعلم. . . ليته يعلم أنك قد مرنتِ على الختل والخداع، ودَرِبتِ على الشغب والمكيدة، وأحببتِ نفسك فشغلتك فألهتك عن أن تكوني امرأة لرجل، ونزت بك نزوات الكبرياء فذهبتِ تفزعين من أنوثتك الوضيعة. . . ذهبت تفزعين منها لتكوني بدعاً في الرجال!

إنني أفرق من جمالك وقبحك، وأفزع من ابتساماتك وعبراتك، وأخاف رضاك وسُخطك، وأجزع من عطفك ومقتك، وارهب صحبتك وفراقك. . . فماذا. . . ماذا بقى فيك أطمئن إليه؟

هذه الدار الهادئة قد ملئت بك ضجة تحطم فيّ خواطري الجميلة وهذا القلب الشاب النديّ قد استشعر الوهن حين مسحت بجمالك على شغافه

وهذه الحياة الوضاءة قد أظلمت حين أشرقتِ في جنباتها

فذريني. . . ذريني - أيتها المرأة - أفتش عن شباب قلبي!

ذريني. . ذريني، يا شقّاء القلب!

ولكن، آه، أين منك الخلاص؟

إن شيطانك ما يفتأ يلاحقني، فإذا أعجزه أن يسيطر علىّ في يقظتي، تبدّى لي، بين أحلامي، في زينته الجذابة

وهذا الجمال الذي تتقزّز منه نفسي لأني أنفذ إلى حقيقته القبيحة، يتراءى لي - في منامي - في صفاء قطرة الندى على الزهرة البيضاء النضيرة، فيأسرني رويداً رويداً

وهذه النظرات التي أرى من خلالها الدَّغل والشر والرياء جميعاً، تنفذ إلى قلب أحلامي فتستخرج أضغان صدري

وهذا القد المضطرب المتكسر يهفو إلىّ فيما يرى النائم حلواً يميس في خطرات النسيم بين رؤى نومي

وهذه المرأة التي أنبذها، تسعى إليّ - دائماً - حين يأخذ بنفسي الكرى. . . تسعى لتضمني إليها، خشية أن أفلت منها ومن متاعبها في وقت معاً

ولكن. . . ولكن ذريني، يا شقاء القلب!

آه، لقد طرحتك، أيتها المرأة، فلا أحس بالعطف عليك، وفررتُ منك فلا أحن إليك، وصدفت عنك فلا أصبو إليك، وطرت عنك فلا أسقط عليك. . .

ولكن كيف؟ وقلبي ما يزال يتصدع عن ثغرة يتوثب منها الهوى والحنان، لأن روح الأبوة تتأجج في أعماق قلبي فتسلبني الهدوء والاستقرار

فأين أجد أبني؟. . . وهو جمال الحياة، وبهجة القلب، وفرحة النفس، وزهرة الدار، وشبابي اللمّاع حين يوشك أن يَنْبَتَّ حبل العمر. . .

وا حسرتا! إنني لن أجده إلا فيك. . . فيك أنت أيتها البغيضة!

ويا بني، لست في غنى عنك، فأنا أجد في نأيك فراغ الحياة، وظلام العيش، ووحشة الطريق. . .

فتعال. . . تعال إلى - يا بثِّي - علِّي أجد فيك صورة من طفولتي الجميلة المرحة، أو أجد سعادتي المفقودة. . . حين أجد أبني!

كامل محمود حبيب