مجلة الرسالة/العدد 342/أفانين

مجلة الرسالة/العدد 342/أفانين

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1940



بين الخوارزمي والهمذاني

للأستاذ علي الجندي

- 2 -

حين اطمأنَّ المجلس بالشهود في دار النقيب، تطالّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وانتصبت الآذان! فافتتح البديع المساجلة بكلام يجمع بين التهكم والتوريط!: إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتُسرَّ بما عندنا. ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك: وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشِطت، فهذه دعواك التي تملأ منها فاك!

وقد حسب الخوارزمي حساباً لشيخوخته، فخاف أن تكبو به قريحته في الحفظ والنثر، فآثر المبادهة بالشعر

فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ

فأجابه الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسَّحَرة: (بل ألقوا)

فأخذ كل منهما دواة وقلماً، وخط البديع أبياتاً مدح فيها السيد نقيب الأشراف، وفخر بنفسه ما شاء، وأوسع الخوارزمي ذمَّا وسخرياً! منها:

والشعر أصعب مذهباً ومصاعداً ... من أن يكون مطيعُه في فَكَّه

والنظم بحر، والخواطر مَعَبرٌ ... فانظر إلى بحر القريض وفُلْكه

فمتى تراني في القريض مقصِّراً ... عرضّت أذنْ الإمتحان لعَرْكه

أصغوا إلى الشعر الذي نظّمته ... كالدرّ رُصِّع في مَجرَّة سِلكه

فمتى عجزت عن القريض بداهة ... فدمي الحلال له إباحة سفكه

ونظم الخوارزمي أبياتاً امتنع عن إبرازها فيما يقول الرواة، فقال البديع له: إن البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلصها من الظنون، أما تستحي أن يكون السِّنَّور أعقل منك لأنه يجعُرُ فيغطيه بالتراب؟! فقال النقيب: انسجا على منوال المتنبي:

أرَقٌ على أرق، ومثلي يأرق

فابتدر الخوارزمي قائلاً:

وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلّق

وإذا قرأت الشعر في ميدانه ... لاشك أنك يا أخي تشقّق

أني إذا قلت البديهة، قلتها ... عجلاً، وطبعك عند طبعي يرقق

مالي أراك ولست مثلي في الورى ... مُتموِّها بالترهات تُمَخرق

إني أجيز على البديهة مثلما ... تريانه، وإذا نطقت أصدَّق

لو كنتَ من صخر أصمَّ لها له ... مني البديهةُ، واغتدى يتفلق

أو كنت ليثا في البديهة خادر ... لرُئيت يا مسكين منّىَ تفرَق

وبديهة قد قلتها متنفّسا ... فعل الذي قد قلت يا ذا الأخرق

ثم قال معتذراً عن هلهلة نسجها: هذا كما يجيء لا كما يجب. فقال

البديع: قبِل الله عذرك! لكني أراكَ وفَّقت بين قواف مكروهة وقافات خشنة، كل قاف كجبل قاف: تتقلق، تتشقق، تتفلق الخ فخذ الآن جزاءً عن قرضك، وأداء لفرضك:

مهلاً أبا بكر فزندك أضيق ... واخرَس، فإن أخاك حيّ يُرزق

يا أحمقاً وكفاك تلك فضيحةً ... جرّبت نار معرَّني، هل تحرق؟

فقال الخوارزمي: يا (أحمقاً): لا يجوز، فإنه لا ينصرف.

فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه! وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف، وإن شئت قلت: يا كَوْدَناً

ثم أردف البديع قائلاً: أخبرني عن قولك في البيت: يا سيدي، ثم قولك: تتقلق، أمدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حَلْبة، ولا يخطان في خطة

فابتدر النقيب قائلاً: قولا على منوال قول المتنبي:

أهلاً بدار سباك أغيدُها

فارتجل البديع:

يا نعمةً لا تزال تجحَدُها ... ومنة لا تزال تكْنُدُها فاعترض الخوارزمي قائلاً: الكُنُود: قلة الخير لا الكفران. فأنكر الجميع ذلك وقالوا: أما قرأت قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكَنود) أي لكفور

فحمىَ الخوارزمي وقال: أنا اكتسبت بفضلي ديَةَ أهل همذان فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال البديع: أنت في حرفة الكُدْية احذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق، وأما ما لُك فعندي يهودي يماثلك في مذهبه ويزيدك بذهبه. ثم مال على مغن فقال: أسمعنا خيرا، ً فغنى:

وشبّهنا بنفسج عارضيْه=بقايا اللطم في الخد الرقيق

فقال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، وهو لا يعرفها. فقال البديع: أخطأت، فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:

وشبّهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصفيق

فقال الخوارزمي: والله لأصفعنّك ولو بعد حين!

فرد البديع. أنا أصفعك اليوم وتضربني غداً، اليوم خمر، وغداً أمر! ثم تمثل بقول ابن الرومي:

رأيت شيخاً سفيها ... يقوق كل سفيهِ

وقد أصاب شبيها ... له وفوق الشبيه

وقفّي على ذلك منشداً:

وأنزلني طولُ النوى دارَ غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكلُه

أحامِقُه حتى يقال: سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أُعاقله

ومازال الجدل محتدماً بينهما حتى ضجر الحضور، ورنق الكرى في عيونهم، فتقوّض المجلس، ونام الناس - كعادتهم - في ضيافات نيسابور، ثم انتشروا في الصباح وقد تشعبت آراؤهم في الحكم على الرجلين، تبعاً لاختلاف ميولهم وأهوائهم. وقد شق على جماعة من الفضلاء أن يبلغ الشقاق بين الرجلين هذا الحد الممقوت! فسعوا في إصلاح ذات البين، وحملوا البديع على طلب المصافاة، وهو دليل على أن العدوان بدر منه، فمشى إلى الخوارزمي معتذراً يقول: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو!

وأبى كرم الخوارزمي إلا أن يقبل عذره، وزاد على ذلك فدعاه إلى أن يقضي عنده سحابة يومه مغموراً بأريحيته وتصافى الرجلان، وحل الوئام محل الخصام

ولكن هذا الصلح كان كصلح (فرساي) يحمل في تضاعيفه جراثيم حرب ضروس! فلم يلبث أعداء الخوارزمي والمستوحشون منه أن سعوا في نقضه فهبت ريح الخلاف مرة أخرى شديدة عاتية! فلم يكن بدّ من عقد مناظرة ثانية تكون فصل الخطاب في هذه القضية الشائكة

وكان أن هُيّء مجلس في دار أبى القاسم الوزير، حضره بعض العلية على رأسهم رجل له مكانته وخطره، وهو الشريف العالم أبو الحسين، وكان البديع سنياً متعصباً للأشاعرة، والخوارزمي مصطبغاً بصبغة التشيع، فرهب البديع جانب أبي الحسين، ورغب في استمالته إليه، فمدحه ومدح آل البيت بقصيدة أولها:

يا معشراً ضرب الزما ... نُ على مُعرَّسهم خيامَهْ

ثم انثال الناس على المجلس من كل صوب وأوْب، حتى حفل بذوي المثالة من رؤساء المدينة وعلمائها وقضاتها ومتصوَّفها. وأقبل الخوارزمي - بعد لأي - في جمّ غفير من أنصاره ومُرِيديه.

وبعد ملاحاة ومشادة بين المتناظرين، تشبه التحام طلائع الجيوش، اقترح عليهم بعض الحضور أن ينشدا على غرار قول أبى الشيص:

أبقى الزمان به نُدُوب عِضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض

فابتدر الخوارزمي قائلاً:

يا قاضياً ما مثله من قاضِ ... أنا بالذي تقضى علينا راضِ

ومنها:

ولقد بُليت بشاعر متهتِّك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض

فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض؟ فقال الخوارزمي:

ما قلته - هكذا يزعم الرواة - فشهد الحاضرون أنه قاله. فقال: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا. فقال البديع: استنوق الذئب! صار الذئب جملاً يأكل الغضا!

وهنا هدأت العاصفة بدخول الرئيس أبي جعفر، والقاضي الحربي، والشيخ أبي زكريا الحيري.

على الجندي