مجلة الرسالة/العدد 342/القصص
مجلة الرسالة/العدد 342/القَصصُ
غلطة
للكاتب الفرنسي موريس ليفل
يا دكتور: أريد أن تفحصني وتخبرني هل أنا مريض بالسل؟ أريد أن اعرف الحقيقة؛ وإن لي من الشجاعة ما يساعدني على سماع أسوأ الأخبار. ثم إني اعتبر من واجبك أن تكلمني بصراحة، ومن حقي أن أعرف حقيقة أمري. . . أتعدني بذلك؟
تردد الطبيب هنيهة، ثم اضطجع في كرسيه وقال: أعدك بذلك. . . اخلع ملابسك. . .
وبينما كان المريض يخلع ملابسه، كان الطبيب يسأله:
- أتشعر بضعف؟ أتعرق أثناء الليل؟. . . هل تسعل كثيراً. . . ولا سيما في الصباح الباكر؟. . . ألا يزال والداك على قيد الحياة؟. . . أتعرف المرض الذي ماتا به؟. . .
قال الرجل وقد عرّى صدره: هأنذا يا دكتور. . .
وأخذ الطبيب يفحص المريض بدقة، والمريض يتتبع الفحص في صمت واهتمام. وبعد بضع دقائق وضع الطبيب يده على كتف المريض قائلاً وهو يبتسم:
- ارتد ملابسك. . . إنك عصبي جداً. ليس بك شئ. لا شيء مطلقاً. . . يخيل إلي إنك لست مسروراً بسماع ذلك!. . .
فأمسك الرجل قليلاً عن ارتداء ملابسه وفي عينيه نظرة حادة، وأجاب بصوت فيه سخرية وتهكم:
- أوه. . . نعم. . . إني مسرور وسعيد. . .
وارتدى باقي ملابسه في سكون تام. وكان الطبيب جالساً إلى مكتبه يحرّر (التذكرة) فاستوقفه بإشارة ثم قال: (لا فائدة. . .). وأخرج من جيبه عشرين فرنكا وضعها على المكتب وجلس، ثم قال بصوت متهدج فيه رجفة خفيفة:
- لنتحادث قليلاً يا سيدي. . . منذ ثمانية عشر شهراً، جاءك مريض يسألك كما سألتك أنا من بضع دقائق أن تصارحه بالحقيقة. فحصته سريعاً. . . هذا صحيح. . . ثم أخبرته أنه مسلول وأن حالته مخطرة. . . أوه. لا تحتج، لا تدافع عن نفسك. أنا واثق من كل ما أقول. . . قلت له لا يجوز أن يتزوج، وبعبارة أخرى لا يجب أن يعقب نسلاً فدمدم الطبيب قائلاً: لا أتذكر، ومع ذلك فهذا جائز. . . إن كثيراً من المرضى يزورني كل يوم. . . ولكني لا أفهم ماذا تريد أن تصل إليه. . .
- أريد أن أصل إلى هذا: لقد كنت أنا ذاك المريض. ولقد كذبت عليك حين قلت لك وقتئذ إني أعزب. كنت متزوجاً وأباً لأولاد. . . وبعد أن أقفلت الباب ورائي لم أخطر لك على بال طبعاً. . . لأني واحد من أولئك المخلوقين البائسين الذين يزورون عيادتك كل يوم. . . أما أنا فقد كان لوصفك مرضي على هذا النحو أسوأ النتائج. . .
وأمرّ يده على عينيه ثم واصل حديثه:
- عندما عدت إلى البيت كانت زوجتي وأولادي الصغار في انتظاري. كان الفصل شتاء، ولكن البيت كان يستمتع بالدفء والراحة والسرور. وكنت إلى ذلك اليوم مشغوفاً بساعة العودة. . . والبقاء مع صغاري الأعزاء. كنت أحب قبلات زوجتي ومداعبات أطفالي. . . وفي أثناء النهار كنت أتوق إلى تلك اللحظة التي أصير فيها حراً لأنسى بين هؤلاء الأعزاء متاعب العمل والحياة. ولكنني في تلك الليلة عندما قدّمتْ إليّ زوجتي شفتيها، تراجعت. . . وأبعدت أطفالي الصغار حين أقبلوا إليّ، لأن البذرة التي بذرتها يا دكتور في نفسي بدأت تنمو!
جلسنا إلى العشاء، فكنت أحاول أن أخفي همي، ولكني كنت مكتئباً حزيناً، كسير القلب، أفكر في هذه الكائنات المحبوبة التي سأفارقها قريباً، في أسرتي التي ستفقد عائلها، في أولادي الذين سيكبرون أيتاماً
إن لغيري ممن يعرفون أن موتهم قريب تعزية، وهي أنهم قادرون على أن يضموا إلى صدورهم من يحبون ويملؤوا عيونهم منهم، ولكني أنا. . .! أنا الخطر الداهم لكل من يقترب مني، أنا من يحمل الموت معه. . . لا أزال حياً، وقد انفصلت عن الأحياء، ولم يعد لي حق في مسرات الحياة!
. . . وعندما حان موعد النوم، التف أولادي حولي كما يفعلون كل ليلة، ولكني دفعتهم عني لأن فمي الموبوء لا ينبغي أن يمس أفواههم!
أويت إلى فراشي ثم أخذ كل شيء يسكن في المنزل، وفي الطريق، فأشعلت النور، وبقيت ساهداً بالقرب من زوجتي وهي تنسم أنفاسها الهادئة أخذت ساعات الأرق الطويلة تمر متثاقلة. كنت أضغط صدري بيدي، وكأني أريد أن أصل بأصابعي إلى موضع الداء في رئتي. لم يكن بي من الألم في الحقيقة ما يجعلني أصدّق حكمك، فإن مثل هذه الأعراض تنتاب كثيراً من الناس!. . وانتهيت إلى الاعتقاد بأنك لابد أن تكون مخطئاً. قلت في نفسي: لا، لست مريضاً بالسل، مستحيل، سوف أستشير طبيباً آخر. . . غير أني سمعت فجأة سعالاً في الغرفة المجاورة. . . فعرتني قشعريرة. عاد السعال الآتي من غرفة أولادي ثانياً، جافاً، وحاداً ومنتهياً بنوع من الحشرجة. مددت يدي نحو زوجتي ولكن خفت أن أوقظها فسحبت يدي. وعاد السعال مرة أخرى، فقمت بهدوء وذهبت إلى الغرفة التي ينام فيها أطفالي. وفي ضوء القنديل الضئيل، أمكنني أن أراهم وهم نائمون في فراشهم. خيل إلي أن أكبرهم محمر الوجه. جسست يده فإذا بها دافئة، ملت عليه. سعل عدة مرات متوالية وهو يتقلب في فراشه بضجر. مكثت إلى جانبه وقتاً طويلاً كان يسعل خلاله باستمرار. . . وعدت إلى غرفتي، ولكني ما كدت أتمدد على فراشي حتى استولت عليّ فكرة مرعبة: هو مسلول مثلي، لاشك في ذلك
في تلك اللحظة كنت أنت تنام ملء جفونك يا دكتور، أليس كذلك؟
واليوم التالي كان فظيعاً. لم أجرؤ على إخبار زوجتي أن طفلنا مريض. لم تكن عندي الشجاعة الكافية لإحضار طبيب. كنت خجلاً من نفسي، وعقد الجبن لساني فسكت
لكن عقلي لم يسكن. استمرت الأفكار السود تحركه. ليست المسألة مسألة العدوى فقط، بل هناك شبح أبشع من ذلك ظلّ ماثلاً أمامي: الوراثة. لقد ورث أطفالي مرضي كما ورثوا عينيّ وشعري. وحتى لو كانوا قد نجوا من حكم هذا القانون المخيف فقربي المستمر منهم لابد أن يكون قد نقل العدوى إليهم
تقول إن ذلك وهم وخيال؟ كلا، أليس ذلك نتيجة طبيعية للمجهود الذي تبذله أنت وزملاؤك بالمحاضرات والمجلات والجرائد لتكشفوا للناس أسرار هذا المرض!
كل ما كنت قد قرأت أو سمعت تجمع في رأسي
زوجتي وأطفالي أعز الناس عليّ، سوف يذبلون واحداً بعد آخر! سوف يقاسون حياة مريرة معذبة في انتظار النهاية المؤلمة. . . وأنا، سوف أشهد ذلك كله في وجوههن الشاحبة، وأجسامهن المتداعية. والعلم عاجز عن تغيير هذا القضاء المحتوم وسكت لحظة ثم عاد يقول في صوت عميق:
ثم - تابعني جيداً - بعد مرور أيام لم تبرحني خلالها لحظة تلك الأفكار الواخزة، تولد عندي الاعتقاد بأن هناك حالات يكون فيها من واجب الإنسان أن يقف عذاباً يعلم أن لا مفر منه. . . من حقه أن يمحو جريمته، يفني ما خلق، يكون هو يد القضاء التي تنقذ من الشقوة من لا ذنب لهم
أنت ترتجف؟ أنت خائف من أن تفهم؟. . . نعم، بيدي قتلت أطفالي وزوجتي! أسمعت؟. . . قتلتهم، سمّمتهم، وفعلت ذلك بمهارة لم يفطن إليها أحد
كنت في أول الأمر مصمماً على أن أضع حداً لحياتي أنا أيضاً؛ ولكني كنت في نظر نفسي خليقاً بالعقاب! لا لأني قتلتهم - إذ أعتقد أن عملي في هذه الحالة مشروع - بل لأني أوجدتهم. وأي تكفير أحكم به على نفسي أشد من البقاء منفرداً يائساً أتحمل وحدي عبء تلك الحياة المنكودة التي أنقذتهم منها؟!
والآن، انظر ماذا حدث. بعد موتهم بأسابيع، أخذت تعود إليّ قواي. ذهب الألم الذي كنت أشعر به. لم يعد أثر للدم في بصاقي. بدأت أشعر بشهية للأكل. . . بل بدأت أسمن
اعتقدت في أول الأمر أنه لسبب ما وقف المرض مؤقتاً، وسوف يعود بحالة أشد. إلا أني بعد بضعة أشهر تبينت الحقيقة المرّة، وهي أني شفيت. أقول شفيت!. . . ولكن، هل كنت حقّاً مريضاً بالسل!. . . وتجسّمت الفكرة أمام عينيّ. أتفهم ماذا أعني؟. . . إذا كنت مسلولاً حقاً، فقد كان واجباً ما فعلت. أما إذا لم أكن، فقد قتلت بلا مبرر، وقتلت من؟. . . زوجتيوأولادي. . .
أمهلت نفسي سنة كي أتأكد، مؤملاً دائماً أن المرض الذي وقف سوف يعود، بل محاولاً بكل وسيلة أن أعيده إلى الظهور. . . ولكن عبثاً، إذ لم يظهر أي عرض من أعراض المرض. وعندئذ وثقت بأنك كنت مخطئاً، بل مرتكباً لأفظع خطأ. استولى عليّ اكتئاب لا قبل لي بدفعه، عيناي اللتان اختزنتا الدموع طويلاً عجزتا عن إبقائها. لقد هدمت حياتي بيدي، قتلت نفوساً بريئة، ألقيت بنفسي في خضم من الأحزان والآلام. ولم كل هذا. . .؟ لسبب خطئك أنت. ولقد أتيت اليوم هنا لأسمعك أنت بنفسك تقر بغلطتك. . .
وانتصب الرجل واقفاً وهو يقول وقد ضم ذراعيه إلى صدره: - لقد اعترفت أنت بنفسك أن لا أثر للمرض بي. إنك لم تر عيني وأنت تقول: أنت عصبي، ولكن ليس بك شيء، لا شيء مطلقاً، أؤكد لك!. نعم، لأنك لو كنت رأيتهما لارتجفت من الخوف، لقرأت فيهما أني جئت. . .
فقاطعة الطبيب مغمغماً وهو في منتهى الشحوب:
- أنا لست معصوماً. . . إن فكرة السل متغلغلة في الأفكار هذه الأيام. . . وكثيراً ما يتأثر الإنسان دون شعور منه به. . .
من الجائز جداً أن يعطي الطبيب أثناء فحصه أهمية لصوت قد يكون عرضياً ومؤقتاً. . . قد أكون أخطأت. . . أعظم الأطباء كثيراً ما يخطئون في تشخيص المرض. . . ومع ذلك فلكي تتأكد دعني أفحصك ثانية
فانفجر الرجل يضحك ضحكة وحشية مرعبة وقال:
- تريد أن تفحصني ثانية!. . . ها ها. . . أتظنني أبله؟ ليس بي شيء. لقد قلت ذلك منذ هنيهة: (لا شيء مطلقاً!) وأنا في هذه المرة واثق من صحة تشخيصك
- غلطتك جعلتني قاتلاً، فأنت شريكي. شريك عن غير قصد، أنا معك. . . ولكنك كنت العقل المدّبر وأنا اليد المنفذة. وما دامت العدالة واحدة وأبدية، فأنا - العصبي - أتهمك وأحكم عليك وأنفذ الحكم. . . عليك أولاً. . . ثم على نفسي. . .
. . . ودوت طلقتان في الفضاء. واندفع الخادم إلى الغرفة فوجد جثتين مجندلتين؛ وقد سال دم الدكتور على (تذكرته) ولم يكتب فيها بعد سوى:
بروميد 15 جراما
ماء مقطر. . .
صلاح الدين كامل