مجلة الرسالة/العدد 344/قصة سامراء

مجلة الرسالة/العدد 344/قصة سامراء

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1940



للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

قصة مدينة سامراء من أغرب وأمتع قصص المدن في التاريخ: (قطعة أرض قفراء) على ضفة مرتفعة من نهر دجلة (لا عمارة فيها ولا أنيس بها، إلا ديراً للنصارى) تتحول - في مثل لمح البصر - إلى مدينة كبيرة، لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، في دور من ألمع أدوار سؤددها. . . تنمو هذه المدينة الجديدة وتزدهر بسرعة هائلة، لم ير التاريخ مثلها في جميع القرون السالفة، ولم يذكر ما يماثلها بعض المماثلة، إلا في القرن الأخير - في بعض المدن التي نشأت تحت ظروف خاصة - في بعض الأقسام من العالم الجديد

غير أن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدة طويلة، لأن المدينة تفقد (صفة العاصمة) التي كانت (علة وجودها وعامل كيانها) قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها، فتأخذ في الإقفار والإندراس بسرعة هائلة، لا تضاهيها سوى تلك السرعة الشاذة التي كان تم بها تأسسها وتوسعها

وبعد أن كان الناس يسمونها باسم (سر من رأى) أضحوا يسمونها باسم (ساء من رأى). . . وبعد أن كان الشعراء يتنافسون في مدح قصورها، أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها

فبعد أن قال ابن الجهم في وصف أحد قصورها:

بدائع لم ترها فارس، ... ولا الروم في طول أعمارها

صحون تسافر فيها العيون ... إذا ما تجلت لأبصارها

وقبة مَلك، كان النجو ... مَ تُفضي إليها بأسراها

يرثيها ابن المعتز، بقوله:

قد أقفرت سر من ري ... وما لشيء دوام

فالنقض يحمل منها ... كأنها آجام

ماتت كما مات فيل ... تسل منه العظام

وفي الواقع ماتت سامراء ميتة فجائية بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن؛ وأمست رموساً وأطلالاً هائلة، تمتد اليوم أمام أنظار الزائر، وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعاد شاسعة لا يقل امتدادها عن الخمسة والثلاثين من الكيلومترات.

عندما يتجول المرء بين هذه الأطلال المترامية الأطراف، ويتأمل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسس مدينة سامراء وتوسعها من جهة، وإقفارها وإندراسها من جهة أخرى. . . لا يتمالك نفسه أن يسأل عن العوامل التي سيطرت على مقدرات هذه المدينة العظيمة، وصيرت قصة حياتها بهذا الشكل الغريب

إن العوامل السياسة التي لعبت دوراً هاماً في هذا المضمار، لم تكن كثيرة التعقيد؛ بل إنها تتجلى لنا بكل وضوح عندما نُلقي نظرة عامة على أهم الحوادث التي وقعت في عهود الخلفاء الثمانية الذين توالوا على أريكة الخلافة العباسية في سامراء

يجابه الخليفة المعتصم - وهو ابن هرون الرشيد - مشاكل عظيمة في إدارة البلاد، فيرى أن يتغلب عليها باستخدام جيش من الموالي والمماليك؛ فيكثر من شراء الغلمان - من بلاد المغرب والمشرق - وعلى الأخص من بلاد ما وراء النهر بغية تكوين جيش مطيع ينزل على إرادته على الدوام. غير أن تكاثر هذا الجيش الغريب في العاصمة القديمة - بغداد - المزدحمة بالسكان، يؤدي إلى حدوث بعض الوقائع بين العساكر والأهلين. فيقرر الخليفة إزاء هذه الحال إنشاء عاصمة جديدة - بعيدة عن القديمة - ينتقل إليها بعساكره وقواده ووزرائه وندمائه وكتابه وأتباعه، ويدعو الناس إليها، على أن يرتب كل شيء فيها على حسب ما يتراءى له (مفيداً) لتوطيد دعائم ملكه من جهة ولزيادة جلال عاصمته من جهة أخرى

يمضي الخليفة في تحقيق فكرته هذه بعزم قوي وفي خطة محكمة، فينتخب موقع سامراء، بعد التحري والبحث، ويؤسس عاصمته الجديدة هناك، على أساس القطائع المنظمة، فيجعل كل مجموعة من القطائع قائمة بنفسها، مستقلة عن غيرها بمساجدها وأسواقها وحماماتها

و (يفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعاً، ويجعلهم منعزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولدين) ولو كانوا من التجار حتى أنه يفكر في أمر ذريتهم و (يشتري لهم الجواري، فيزوجهم منهن، ويمنعهم أن يتزوجوا ويصاهروا أحداً من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم من بعض)

لا شك في أن هذه الخطة كانت تنطوي على محاولة سياسية خطيرة، بل كانت بمثابة تجربة اجتماعية جزئية؛ كما لاشك في أن التدابير التي اتخذها المعتصم في سبيل تنفيذ هذه الخطة كانت دقيقة وحازمة. ومع هذا فإنها لم تأت بالفوائد التي كان يتوخاها منها، بل أفضت إلى نتائج معاكسة للأهداف التي كان قد رمى إليها معاكسة تامة. ونستطيع أن نقول: إن المعتصم كان قد حسب حساباً لكل شيء في هذا الباب غير شيء واحد، وهو التطور الذي يحدث في نفسية الجيش - بطبيعة الحال - عندما يتكون أفراده وقواده من الغرباء، ولو كانوا في الأصل من الأرقاء. . .

أراد المعتصم - بخطته هذه - أن يتخلص من مشاغبات الأهالي، غير أنه لم يدرك أن هذه الخطة ستؤدي - عاجلاً أو آجلاً - إلى جعل الخلافة ألعوبة في أيدي الجنود الغرباء وقوادهم الطامعين

وهذا ما حدث فعلاً: فقبل أن تمضي عشرون سنة على وفاة الخليفة المعتصم الذي وضع هذه الخطة وشرع في تطبيقها، تفاقمت سيطرة القواد، ووصلت بهم الجرأة إلى قتل الخليفة المتوكل قتلاً فظيعاً، وبعد ذلك تتابعت الأحداث والاضطرابات وأفضت إلى قتل الخلفاء وخلعهم ثلاث مرات متواليات خلال عشر سنوات، إلى أن تولى الخلافة المعتمد. وبعد أن بذل بعض الجهود في سبيل توطيد دعائم ملكه في سامراء نفسها، رأى أن يقضي على هذه المحاولات كلها، فقرر أن يترك سامراء وأن يعيد كرسي الخلافة إلى بغداد بصورة نهائية

ولذلك نستطيع أن نقول إن الخطة السياسية التي وضعها المعتصم - والتجربة الاجتماعية التي قام بها تنفيذاً لهذه الخطة - انتهت بفشل تام. .

غير أن قصة هذه المدينة العجيبة، إذا انتهت من الوجهة السياسية بفشل أليم. . . فإنها تكللت - من الوجهة العمرانية - بنجاح كبير يسجله تاريخ الفن والعمران بمداد الإجلال والإكبار. . .

إن إقدام الخليفة المعتصم على تأسيس عاصمته الجديدة كان في عنفوان الخلافة العباسية وعظمتها؛ فكان من الطبيعي أن تتمثل في هذه العاصمة تلك القوة والعظمة أحسن تمثيل. . .

إن الأراضي التي اختارها المعتصم لتشييد المدينة الجديدة، كانت منبسطة واسعة، ولم يكن فيها من المباني القديمة ما يعرقل خطط المباني الجديدة، ولا من التلول والوديان ما يحدد ساحات البناء؛ فاستطاع الخليفة أن يجعل القطائع كبيرة فسيحة، والطرق عريضة طويلة. . . وسيستطيع أخلافه أن يوالوا عمله هذا، ويمددوا الشوارع ويوسعوا المدينة. . .

إن المملكة التي كان يحكمها الخليفة المعتصم كانت غنية وكثيرة الموارد جداً. فكان في استطاعته أن ينفق أموالاً طائلة لتشييد القصور والمساجد، وسائر المرافق العامة، كما يكون في استطاعة أبنائه أيضاً أن يستمروا على الإنفاق في هذه السبيل بدون حساب

إن المملكة التي تبوأ كرسيها المعتصم كانت فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، فكان في إمكانه أن يجلب أمهر الفعلة والبنائين وأشهر المهندسين والفنانين، من جميع أقطار ملكه العظيم. وفي استطاعته أن يضع تحت تصرف هؤلاء كل ما يطلبونه من مواد الزخرفة والبناء ولو كانت مما يجب جلبها من بلاد بعيدة. . .

إن اجتماع كل هذه العوامل الفعالة بهذه الوجوه المساعدة، سيفسح أمام المهندسين والفنانين مجالاً واسعاً للعمل والإبداع، وسيتحف العاصمة الجديدة بأوسع القصور وأجملها، وأعظم المساجد وأبدعها. . .

وكان من الطبيعي ألا تقف هذه الحركة الإنشائية عند حد القصور والمساجد وحدها. . . بل تتعداها إلى الدور والشوارع والبساتين أيضاً. لأن المعتصم لم يقصد - بعمله هذا - إيجاد (مقر خلافة) و (معسكر جيش) فحسب، بل كان يقصد - فوق ذلك - إيجاد (عاصمة مملكة) بكل معنى الكلمة. إنه أراد إنشاء عاصمة جديدة، تنافس بغداد في السعة والنفوس والعمران. فكان من الحتم عليه أن يستقدم جماعات كبيرة من الناس ومن أصحاب المهن - على اختلاف أنواعهم وأصنافهم -، وأن يقطعهم الأراضي، ويجزل لهم العطايا، ويحثهم على البناء. وكان من الطبيعي أن تتولد من جراء ذلك حركة إنشائية واسعة النطاق شديدة النشاط. . .

غير أن من البديهي أن بناء الحوانيت والدور لا يمكن أن يحاكي بناء المساجد والقصور. فإذا كان في استطاعة الخلفاء وفي مكنة الأمراء أن يزودوا المعماريين والفنانين بكل ما يطلبونه من النفقات، فلم يكن في إمكان الناس أن يقتدوا بهم في هذا المضمار. . . وإذا جاز لمعماري المساجد والقصور أن يبنوا ما يبنونه بأجود المواد الإنشائية - ولو كانت كثيرة الكلفة - وأن يزينوه بأجمل المواد الزخرفية - ولو كانت باهظة الثمن - فلم يكن معقولاً لبنائي الدور أن يطمعوا في شيء من ذلك، بوجه من الوجوه. بل كان عليهم أن يتسابقوا في إيجاد الطرق والأساليب التي تضمن البناء بأقل ما يمكن من النفقة وأعظم ما يمكن من السرعة، دون أن يبتعدوا عن مقتضيات الطرافة والجمال. . . كان يتحتم عليهم أن يستعملوا المواد المبذولة في محيطهم، ويظهروا قوة ابتكارهم في كيفية استفادتهم من خواص تلك المواد في الزخرفة والبناء. . . ومن حين حظهم أن الطبيعة في سامراء كانت مساعدة على كل ذلك مساعدة كبيرة

لأن موقع المدينة يرتفع عن الضفة الأخرى بعض الأرتفاع، والطبقة الترابية فيه تكوّن قشرة قليلة الثخن تستر طبقة صخرية؛ فالأرض لا تتعرض لخطر الغرق حتى في أشد حالات الفيضان، كما تبقى مصونة من الرطوبة على الدوام. وهناك مناطق طينية واسعة تساعد على صنع اللبِن الجيد. وهنالك أتربة كلسية كثيرة تصلح لتحضير الجص القوي. . . ففي استطاعة البناءين أن يستفيدوا من هذه الوجوه المساعدة؛ فإنهم يستطيعون أن يبنوا المباني الكبيرة باللبِن دون أن يخشوا تأثير الرطوبة والمياه فيها؛ كما أنهم يستطيعون أن يضمنوا متانة تلك الأبنية باستعمال الجص مِلاطا لاحماً بين قِطع اللبن وأسوافها، وبعقد الطوق بالآجر أو بطابوقات مصنوعة من الجص. . وأخيراً يستطيعون أن يستروا رداءة مادة البناء بطلاء الجدران بالجص، كما يستطيعون أن يزخرفوا هذا الطلاء بالتلوين أو بالنقش والحفر

إن هذه الزخرفة يمكن أن تعمل خلال البناء كما يمكن أن تعمل بعد إتمامه؛ والقشرة الجصية التي تتكون عليها هذه الزخارف يمكن أن ترفع بسهولة، كما يمكن أن تعوض بقشرة جديدة تزخرف بأشكال تختلف عن الأشكال السابقة. . .

إن الزخرفة على هذه الطريقة تكون رخيصة، ولذلك تعمم بسهولة. فكل واحد من أصحاب الدور يستطيع أن يزخرف بعض غرفه بمقدار ما تسمح له موارده، كما يستطيع أن يعمم الزخرفة في الغرف الأخرى متى صلحت أحواله المالية، أو يستبدل بها غيرها متى ملّها وأراد الأبدع والأكمل منها. . .

ولهذه الأسباب كلها سيكون أمام الفنانين مجال واسع للعمل في هذا المضمار. . . إذ هناك عشرات الألوف من الدور يطلب أصحابها الزخرفة لمئات الألوف من غرفها. ومن الطبيعي أن هذا الطلب الشديد المستمر سيؤدي إلى تنشئة جماعة كبيرة من الفنانين الماهرين في الزخرفة، وسيحملهم على التسابق في طريق التفنن والإبداع على الدوام

ولهذا كان من الطبيعي أن تزدهر في سامراء صنعة الزخرفة الجصية ازدهاراً كبيراً؛ وتولد طرازاً خاصّاً مع أشكال لا تعدُّ ولا تحصى، فيرتبط اسم سامراء - في تاريخ الفن - بهذا الطراز الخاص من الزخرفة. . . وتمتاز هذه المدينة، بجانب عظمة قصورها العديدة، وفخامة مساجدها الفسيحة، وامتداد شوارعها العظيمة، ونضارة بساتينها الجميلة - بزخارف دورها الكثيرة

كما كان من الطبيعي ألا يبقى هذا الطراز من الزخرفة محصوراً بسامراء وحدها، بل ينتقل - بواسطة قواد المعتصم وأخلافه - إلى القاهرة أيضاً، ويخلف هناك آثاراً باهرة في جامع ابن طولون من جهة، وفي المنازل المبنية في العهد الطولوني من جهة أخرى

لقد مضى على قصة هذه المدينة العجيبة أكثر من عشرة قرون. . . وأما الآثار والأطلال الباقية منها إلى الآن، فتضيف ذيلاً جديداً إلى غرابة مقدراتها المتسلسلة. إذ من الغريب أن آثار دورها المبنية من اللبِن والمزخرفة بالجبسين، قاومت حدثان الدهر، أكثر من قصورها المبنية بالآجر والمزخرفة بالرخام. . . والسبب في ذلك أن القصور تعرضت لتخريب الناس الذين اعتبروها بمثابة محاجر غنية بالمواد الإنشائية الصالحة للاستعمال، في حين أن الدور سلمت من تخريب الناس، ولم تتعرض لتدمير أيد غير أيدي الطبيعة والزمان. . . ويظهر أن أيدي الإنسان قادرة على التخريب - بوجه عام - أكثر من أيدي الزمان!

أبو خلدون