مجلة الرسالة/العدد 345/الموظفون والناس. . .

مجلة الرسالة/العدد 345/الموظفون والناس. . .

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1940


ابتليت في هذه الأيام أن أختلف إلى بعض الوزارات في شأن من شؤون الرسالة. وأشيد الأمور على نفسي أن أغشي دواوين الوزارة أو أقسام الإدارة، لأني اعتقد كما يعتقد أمثالي من السوق الأحرار أن الحكومة من الأمة بمثابة الرأس من الجسد، فيه التفكير والتدبير والقيادة، وليس فيه الاختيال والشموخ والسيادة. ولكن الحكومات في أمم الشرق لا تزال تعتقد أن الرأس معناه أن يوضع فوق الجسم ليسمو على أعضائه ويعيش على غذائه. فإذا دخلت دورها لا تجد فيها الروح الوطنية التي تبعث الحياة العامة، ولا الفكرة الاجتماعية التي تدير المنفعة المشتركة، وإنما تجد بها مظاهر شتى للسلطان الجبار والبيرقراطية الصلفة تعطل معنى الإصلاح وتبطل حقيقة العدالة.

ترى أول ما ترى من الشرطة والسكرتيرين والحجاب والسعاة يسد أبواب المكاتب، ويملأ مدارج الطرق، ويشغل فراغ الحجر؛ وهذا الجيش الذي يكلف الخزانة لا ادري كم من المال لا عمل له إلا بث الرهبة وإظهار الأبهة والحيلولة بين الناس وبين القائمين على (مصالحهم) من أولي الأمر. فإذا ساعفتك الفرصة أو ساعدتك اللجاجة فنجوت من شراسة الشرطي أو الحاجب، وخلصت من غطرسة السكرتير أو الكاتب، دخلت على الموظف الكبير بهواً كأبهاء القصور، فرش بالطنافس وأثث بالأرائك وزين بالتحف وأدفئ بالكهرباء وقام في صدره الحالي طرفة من طرف الأثاث يقولون إنها مكتب، ومن وراء هذا المكتب الفاخر كرسي وثير متحرك جلس عليه الموظف العظيم وثيابه تكاد تنشق من ورم الكبر ونفخة السلطة، فلا تستطيع من رهبة السلطان أن تكلمه، ولا يستطيع هو من عزة المنصب أن يكلمك.

هذه المظاهر القائمة على السرف والترف يجب أن تزول أو تخفف، لأنها تحيط الموظف بجو من العظمة المستعارة تزور له ذاته، وتفسد عليه حياته، وتجعل ميزانه الاجتماعي منصوباً على ضميرين مختلفين: يزن في بيته ولنفسه بضمير، ويزن في الديوان وللناس بضمير. ويا ويل ذي الحاجة إذا دخل على الموظف مكتبه وليس منسوباً إليه ولا معروفاً لديه ولا موصى به! أنه لا يجد إلا النظرة القاسية، والكلمة الجاسية، والإشارة المهينة، والهيئة الوقحة التي تصرخ في وجهه بهذه الجملة:

يا بعد ما بيني وبينك! أنا حاكم وأنت محكوم، وأنا (ميري) وأنت (براني). فإن احت المسكين الهون وقف على مضض، وإذا ملكته الحمية انصرف على شجار!

لقيت منذ يومين في فناء الوزارة الفلانية صديقي فلاناً المهندس المقاول خارجاً يزجر من الغيظ وينتفض من الغضب. فقلت له وأنا أربت على كتفه:

- كفاك الله الشر! ماذا بك؟

فقال بصوت يتفجر بالسخط ويتهدج من التأثر:

- والله يا أخي ما أدري أنحن عبيد الموظفين أم نحن وهم عبيد القانون؟ هذا فلان بك. .

- فلان بك؟! إنه الرجل الذي أقصده الساعة في مسألة عامة

- تعال تعال! لا خير في لقائه اليوم. لقد تركنه يفور على الكرسي فوران القدر على الموقد

- ولم كان ذلك؟

طلبت الإذن عليه لأشكو إليه خلل إدارته وإهمال مرءوسيه، فإن لي عملاً يدخل في اختصاصه مضى عليه سنتان، وكان يكفي لإنجاز يومان، فأهملني عند سكرتيره ساعة ثم خرج غير آذن ولا معتذر. فانصرفت خجلان من سوء ايظن بي مدير مكتبه، ثم عدت إليه يوما آخر وطلبت إذنه مع الطالبين وفيهم كما علمت النائب والصاحب والقريب، فدخلوا وخرجوا، ثم دخل قبلي من جاء بعدي، حتى لم يبق في شرف الانتظار إلا أنا ورجلان من أصحاب العمل. حينئذ قال سكرتيره: أن البك مشغول بقية الوقت! فثار في وجهي الدم، وطغى في رأسي الغضب فاقتحمت عليه الباب وقلت له من غير اعتذار ولا تحية: يا سيدي البك! ربما كنت أنا الزائر الوحيد الذي زارك اليوم لعمل من الأعمال التي تجلس لها وتؤجر عليها، فلم يكن من اللائق بأمانة المنصب أن تحجبني مرة بعد مرة لتستجيب إلى طلاب الشفاعات والوساطات من ذوي الصداقة والقرابة.

فحملق البك في وقد استشاط وبربر وصاح: من أنت ومن أذن لك بالدخول؟ فقلت له: أنا فلان! سرى من سراة البلد، وثروة من ثروات الأمة. نشأت في مهد العدم، ثم تعلمت للعمل الحر، وضربت في سبيل العيش الكريم من أفق إلى أفق، حتى أصبح عملي الناجح مرتزقاً لمئات من الأسر العاملة، وأصبحت - وأنا لا أزال في شباب الكهولة - ذا خمسين ألف جنيه ورتبة. أما أنت فالكبير الصغير! كبرك المنصب والمرتب اللذان أدركتهما بمضي المدة، وصغرك العجز والكسل اللذان كشفاك في إدارة العمل. أن سلطان الوظيفة يا سيدي عرض منفك ومتاع زائل. فإذا شئت أن تعرف أين أنت مني فدع منصبك الحصين وادخل معي في غمرة الدنيا وزحمة الناس، ويومئذ نرى أينا يوطأ بالأقدام، وأينا يرفع على الرؤوس. . .

وهنا رأيت الرجل يكاد يتمزع من الغيظ فأهوى بيده على أزرار الأجراس فصلصلت جميعاً، وقال لحجابه وسعاته: أخرجوا هذا. . . من هنا. فأخرجوني على حال من الهوان لا يصبر عليها إلا رجل حازم أمام موظف أحمق.

فقلت له ونحن نمشي الهويني في طريقنا إلى البيت: هون عليك يا صديقي فإن أكثر الموظفين حالهم مع الناس كحال هذا الموظف معك.

أيها القلم!

لشد ما أتمنى على الله أن يجعلك في يدي سناناً يخز، ومعولاً يهدم! لقد عجزنا يا قلم وعجز الكلام!

أحمد حسن الزيات