مجلة الرسالة/العدد 345/حول (السفاح) أيضا

مجلة الرسالة/العدد 345/حول (السفاح) أيضا

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1940


ً

للأستاذ عبد الحميد العبادي

من حسن حظ أمير المؤمنين أبي العباس أن انتدب عالمان جليلان هما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ محمود شاكر لمناقشة رأيي في لقب (السفاح) الذي ألصقه بأبي العباس بعض أدباء المؤرخين أو مؤرخي الأدباء ظلماً، كما اعتقد وكما دلني البحث والتتبع. نعم أن الأستاذين الجليلين أخذا برواية المؤرخين الأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج الأصفهاني، ولكن تدليلهما، على طرافته وبراعته، لم ينقض حتى اليوم ما سقت من الأدلة فضلاً عن أن يهدمها. وإني مجمل لقراء الرسالة الغراء رأيي في هذا الموضوع، ثم متبع ذلك باستدراكي على ما اعترض به علي الأستاذ شاكر.

لقد رجعت إلى سيرة أمير المؤمنين أبى العباس قبل الخلافة وأثناءها، فلم أجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال. ثم رجعت إلى قصيدة ابن أبى شبة العبلي التي يرثى بها بني أمية، وهي المصدر المعاصر الوحيد لأبى العباس، فلم أجد الشاعر ذكر فيها الكوفة ولا الحيرة ولا الأنبار، وهي المواضع التي أقام فيها أبو العباس في خلافته، في حين أنه ذكر المواضع التي قتل فيها بنو أمية على أيدي عبد الله بن علي وداود بن علي بالشام والحجاز. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الرواية التاريخية القديمة القائمة على الضبط والتحقيق كرواية ابن سعد، وابن عبد الحكم، والبلاذري، وأبى حنيفة الدينوري، وطيفور، واليعقوبي، والطبري، والنوبختي، والكندي، فلم أجد من هؤلاء الأعلام واحداً لقب أمير المؤمنين أبا العباس بالسفاح. هنالك ترجح عندي أن لقب (السفاح) لم يكن أصلاً لقب أبي العباس. ثم رأيت أن ابن سعد واليعقوبي وصاحب (أخبار مجموعة)، وصاحب كتاب الإمامة والسياسة، يسندون لقب (السفاح) إلى عبد الله بن علي عم الخليفة أبي العباس وعامله على الشام. ووجدت أن سيرة عبد الله ابن علي هذا مما يسوغ تلقيبه بهذا اللقب كل التسويغ، فهي سيرة جبار طاغية قتال حقاً. فثبت عندي أن اللقب لقب به أصلاً عبد الله بن علي المذكور. ولما كان عبد الله بن علي قد ادعى الخلافة فعلاً وثار على أبى جعفر المنصور بالشام، وخاطبه الشعراء بالخليفة، فقد اصبح معروفاً بالشام لذلك العهد بأمير المؤمنين عبد الله السفاح. ولكن الخليفة أبا العباس هو أيضاً يسمى عبد الله، فقد وجد نوع من اللبس بين الخليفة الأصلي والمدعي للخلافة. ومما يقوي فكرة وقوع هذا اللبس أن ابن الأثير عندما ذكر حادثة تحريض سديف الشاعر على قتل بني أمية أسندها أول الأمر إلى عبد الله بن علي ثم عاد فقال: (وقيل أن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة) فقد نسب إلى أبى العباس مأساة قتل بني أمية مع أن المرتكب لها على التحقيق هو عبد الله بن علي، والخلط في نسبة الحوادث المفظعة التي أتاها عبد الله بن علي إلى أبى العباس جر معه انتقال لقب (السفاح) إلى أبى العباس. وأني اعترف بأن هذا تأول مني واجتهاد، ولكنه اجتهاد في حدود النصوص والوقائع الثابتة، وليس مجرد ادعاء كما وصفه الأستاذ شاكر في العدد 342 من الرسالة الغراء.

هذه خلاصة بحثي في هذا الموضوع. ولقد نشر الأستاذ شاكر في مجلة (الثقافة) مقالاً قيماً عنوانه (كلمة في التاريخ) امتدح في بعض حواشيه بحثي هذا حتى لحيل إلى أن الأستاذ اخذ بوجهة نظري في هذا الموضوع واغتبطت بذلك أيما اغتباط، ولكني رأيت الأستاذ عاد فأعلن في العدد 340 من الرسالة أنه يخالفني كل المخالفة ووعد ببحث الموضوع. وقد بحثه في العدد 342 من الرسالة، وبحثه يقوم على أمور: أولها أن لقب (السفاح) مضافاً إلى أبى العباس إنما هو للمدح لا للذم، ومعناه الكريم المعطاء للأموال. وثانيها أن أحاديث من أحاديث النبوءات يراها الأستاذ صحيحة قد ذكرت (السفاح) بالمعنى المذكور، فليس بعيداً أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بهذا اللقب قبل الخلافة تفاؤلاً. وثالثها يقول بوجوب الأخذ برواية الجاحظ التي تلقب أبا العباس بالسفاح. والذي يمنع عندي من الأخذ بالأمر الأول هو أنه ليس له سند تاريخي، واللفظ من حيث اللغة يحتمل أن يكون للمدح وإن يكون للذم. فما النص التاريخي الذي يخصصه للمدح؟ أما من حيث الأمر الثاني فلنفرض أن الأحاديث والروايات الواردة في السفاح والمهدي والسفياني والفخطاني والملاحم صحيحة، فما الدليل على أن أبا العباس قد لقبه أبوه بالسفاح تفاؤلاً واستنجازاً لموعود هذه الأحاديث؟

أما من حيث رواية الجاحظ فلست أدري كيف يوفق الأستاذ شاكر بينها وبين تفسيره السفاح (بالكريم المعطاء فإن السفاح) في كتب الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج معناه (القتال السفاك للدماء) أليس يرى الأستاذ شاكر بعد ذلك أن الأدلة التي أقمت عليها رأيي أكثر تظاهراً وتسانداً، وأشد رجحاناً من رواية المؤرخين الأدباء؟ هذا اعتقادي على كل حال.

على أني قبل أن أختم هذه الكلمة، أحب أن اعترف بأني أفدت من بحث الأستاذ شاكر فائدة كبيرة، فقد علمت منه أن نص اليعقوب القائل بأن عبد الله بن علي هو السفاح، منقول عن ابن سعد في طبقاته.

عبد الحميد العبادي